فرسان المسرح العربي:فاطمة رشدي رائدة التمثيل المسرحي

نشر في 19-05-2022
آخر تحديث 19-05-2022 | 00:05
حققت نجمة المسرح المصري، فاطمة رشدي، شهرتها في الثلاثينيات من القرن الماضي، وحصدت العديد من الألقاب أبرزها «سارة برنار الشرق»، وتعد إحدى رائدات التمثيل في العالم العربي، وقدمت نحو 200 مسرحية، كما امتدت موهبتها إلى التأليف والإخراج، وكوّنت فرقة مسرحية تحمل اسمها، واستمرت مسيرتها الفنية لأكثر من 50 عاماً، واحتجبت عن الأضواء في عام 1970، قبل أن تودع الدنيا في 23 يناير 1996 عن عمر ناهز 88 عامًا.
حفل مشوار الفنانة فاطمة رشدي برصيد هائل من الأعمال المسرحية والسينمائية، وتعاونت مع رواد التأليف والإخراج، مثل عزيز عيد، ومحمد تيمور، وأحمد شوقي، ويوسف وهبي، وكمال سليم، وعبدالرحمن رشدي، ومن أبرز مسرحياتها «النسر الصغير»، و«الصحراء»، و«جان دارك»، و«القناع الأزرق»، و«مصرع كليوباترا»، و«بين القصرين»... ومن الأفلام «العزيمة»، و«مدينة الغجر»، و«ثمن السعادة»، و«الطريق المستقيم».

الفنانة الصغيرة

اقرأ أيضا

بدأت فاطمة رشدي حياتها الفنية مبكراً، وكانت شقيقتاها «رتيبة وإنصاف» تعملان بالغناء والتمثيل في فرقة أمين عطاالله بمدينة الإسكندرية الساحلية، وحينئذ انتشرت الفرق المسرحية والعروض الغنائية في عشرينيات القرن الماضي، وحققت شهرة كبيرة في القاهرة والإسكندرية، وبدأ ظهور جيل من المؤلفين والمخرجين والممثلين، وتراجع حضور الفرق الجوّالة، بعد انتشار دور المسرح والسينما، واهتمام وزارة المعارف آنذاك بدخول الأنشطة الفنية إلى المدارس والجامعات.

في تلك الأجواء، تفتح وعي الطفلة ذات الأعوام العشرة، وكانت تذهب برفقة شقيقتيها إلى حفلات فرقة أمين عطاالله، وحين رآها مدير الفرقة، أدرك أن لديها موهبة في التمثيل والغناء، وأسند إليها دوراً صغيراً في إحدى المسرحيات، ونالت إعجاب الجمهور.

وعندما شاهدها المطرب سيد درويش عام 1921، دعاها للعمل بفرقته التي كوّنها في القاهرة، وضمها إلى فريق الكورال والإنشاد، وقرّر أن يدعم موهبتها، فأوكل إلى صديقه الفنان عبدالرحمن رشدي مهمة صقلها، وكان الأخير يدربها في فرقة مسرحية صغيرة يديرها في مدينة الثغر، ومنحها اسم الشهرة «فاطمة رشدي».

موعد مع الرواد

ذهبت فاطمة وأسرتها مع عبدالرحمن رشدي إلى القاهرة، واصطحبهم للقاء الفنان نجيب الريحاني داخل مسرحه، وكانت لحظة استثنائية في حياة الطفلة الصغيرة، حين دخلت قاعة المسرح، ورأت الجمهور من مختلف الجنسيات، وقدمهم رشدي إلى الريحاني، وأدت فاطمة أغنية حفظتها للمطربة فتحية أحمد، ثم غنت لسيد درويش «طلعت يا محلى نورها”.

وكان أداؤها مميزًا أمام الريحاني، وأبدى إعجابه بموهبتها، وتصادف حضور الكاتب المسرحي الرائد محمد تيمور، فطلب منها أن تقابله في اليوم التالي بأحد مقاهي القاهرة، وهناك التقت لأول مرة المخرج عزيز عيد، ولاحقًا زوجها وشريك نجاحها الفني، وعهد إليه تيمور بتدريبها على التمثيل... وكان معروفًا عن عيد اكتشافه المواهب الفنية.

وتبنى محمد تيمور موهبة الطفلة الصغيرة، وترك لأسرتها مبلغًا من المال قبل أن يسافر إلى أوروبا، وكانت لاتزال في الحادية عشرة من عمرها، ورأى عزيز أن دخولها مجال الفن من دون أن يكون لديها معرفة جيدة سيكون غير مُجدٍ، فقرّر أن يعلِّمها القراءة والكتابة، وجلب لها مدرساً للغة العربية، لتُجيد مخارج الحروف، وفي نفس الوقت كانت ترتاد مسارح روض الفرج في القاهرة.

مسرح رمسيس

دخلت فاطمة رشدي مسرح رمسيس لأول مرة مع عزيز عيد، وقدّمها الأخير إلى صاحب الفرقة الفنان يوسف وهبي، وكان اللقاء بداية رحلتها الاحترافية في العاصمة، وأسند إليها أدوارًا صغيرة في عددٍ من المسرحيات المقتبسة من الروايات العالمية، منها «غادة الكاميليا» للكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس «الابن» أمام بطلة الفرقة «روز اليوسف»، التي اعتزلت التمثيل في أوج شهرتها.

واستطاعت الممثلة الصغيرة أن تثبت حضورها على خشبة المسرح، وبعد سنوات قليلة، أسند لها يوسف وهبي دور البطولة في رواية «النسر الصغير» للكاتب الفرنسي إدموند روستان، واستطاعت في خلال أسبوع واحد أن تتقنه، ونالت إعجاب الجمهور، ومنحها وهبي «بروش ألماظ» لإجادتها في أداء الشخصية، وظلت تتذكر حوار وكلمات هذا الدور حتى آخر أيامها.

ونالت فاطمة رشدي لقبها «سارة برنار الشرق»، لأدائها نفس الدور الذي اشتهرت من خلاله ممثلة المسرح الفرنسية سارة برنار، وتوالت بعدها الأدوار التي قامت ببطولتها، لاسيما بعد خروج روز اليوسف من الفرقة، لتقوم رشدي بأداء أغلب الأدوار الرئيسة.

فرقة رشدي

وامتلكت النجمة الشابة طموحات فنية هائلة، وأرادت أن تؤسّس فرقتها الخاصة، وبعد سنوات من لقائها المخرج عزيز عيد، استعانت به لإخراج أعمال للفرقة، وكان زواجهما فرصة لأن يجتمعا على حب الفن، وتمكنا من صنع أحد أمجاد المسرح المصري في فترة الثلاثينيات. وحققت فرقة فاطمة رشدي نجاحات متتالية، وقُدِّمت عروضها في العديد من العواصم العربية.

وقد لعب عزيز عيد دورًا كبيرًا في حياة فاطمة رشدي، وكان وقتها من أهم المخرجين الرواد، واكتملت لديه الدراسة والموهبة، واهتم بأداء الممثل، وانطبع ذلك على شخصية تلميذته، وسطعت نجوميتها من خلال تقمص الشخصيات من دون مبالغة، وأقبل الجمهور على عروض فرقتها، وفي كل ليلة كانت القاعة تدوي بالتصفيق.

وحققت فرقة «فاطمة رشدي» حضورها المميز، وأصبحت منافسة لـ«فرقة رمسيس» في تقديم الأعمال التراجيدية، ولكن النجمة ظلت تعترف بفضل يوسف وهبي عليها، لأنه أول من منحها أدوار البطولة، ولم يعترض طموحها في تأسيس فرقتها الخاصة، وشاركته بطولة بعض أفلامه، منها «الطريق المستقيم» (1943)، و«بنات الريف» (1945).

وضربت فرقة «فاطمة رشدي» رقمًا قياسيًا في عدد عروضها، وقدمت 30 مسرحية خلال عامها الأول، بخلاف العروض الفنية والمونولوجات، ووضع ألحانها المطرب محمد فوزي، وكانت تُقدَّم بين فصول المسرحيات، ومهّدت الفرقة لنجومية عشرات الفنانين، منهم محمود المليجي، وحسين رياض، وزوز الحكيم، وبشارة واكيم، واستيقان روستي.

صديقة الطلبة

ولعبت فاطمة رشدي دوراً مؤثراً في العصر الذهبي للمسرح في مصر، ومزج مسرحها بين جماليات العرض المسرحي، وتشكيل وعي المتفرج، وكان الجمهور يقبل على أعمالها بشغف، وحرص مشاهير المجتمع على ارتياد مسرحها، ومنحها أمير الشعراء أحمد شوقي فرصة تمثيل مسرحياته مجاناً، وكان يلحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب.

واشتهرت رشدي بلقب «صديقة الطلبة» لفتح أبواب مسرحها مجانًا أمام طلاب المدارس والجامعات في مصر، وفي عام 1929 وافقت وزارة المعارف على طلبها بتمثيل 12 رواية أدبية لطلبة المدارس العالية والثانوية مجانًا الساعة الثالثة بعد ظهر أيام الخميس من كل أسبوع، ووضعت الوزارة بالاشتراك مع الفرقة نظاماً لما يشاهده الطلاب من هذه الروايات.

وتناثرت أقاويل مفادها أن هذه العروض ستُقدم بعد حصول الفرقة على إعانة مادية من الحكومة، فقامت رشدي بتكذيب هذه الأخبار في الصحف، وأكدت أنها ترفض تلقي مساعدات لفرقتها من أية جهة، ولاحقًا رفضت التمثيل في المسرح الحكومي، مادامت هذه الفرقة لا يعرف أصدقاؤها الطلبة مكانها.

وحش الشاشة يدعم «سارة برنار الشرق»

استطاعت فاطمة رشدي في أيام نجوميتها أن تكتسب الشهرة وتجني مالًا وصل إلى مليون جنيه، ولكنها أنفقته كاملًا على صناعة المسرح والسينما، وفي آخر أيامها كانت تعيش وحيدة في غرفة بأحد فنادق القاهرة الشعبية، ولم ينقذها سوى خبر نشرته إحدى الصحف عن ظروفها القاسية، انتفض على إثره وحش الشاشة النجم فريد شوقي، وطالب بعلاجها على نفقة الدولة، وتوفير مسكن ملائم لها، ورفض أن تكون تلك نهاية فنانة ساهمت في مجد المسرح العربي.

بدورها، تألمت النجمة هند رستم، عندما رأت في إحدى حلقات برنامج تلفزيوني، الفنانة فاطمة رشدي تتقبل كرسيًا للمقعدين، لتستطيع التحرك به، وجهاز تلفزيون وألف جنيه على سبيل التبرع من فاعل خير، وتضاعف حزن رستم حين استمعت إلى أمنية «سارة برنار الشرق» بأن تسكن في شقة بوسط القاهرة.

وبعد انتهاء الحلقة اتصلت هند رستم بالمحامي مجدي العمروسي، وأبلغته أن هناك شقة بشارع رمسيس كانت على وشك أن تشتريها، وأنها تتبرع بمبلغ خمسة آلاف جنيه لشرائها لفاطمة رشدي، وأنه لو اتصل بالفنانين فإنه سيتمكن من جمع الكثير لثقتهم به، وعلى الفور تحرك العمروسي، وكانت الحصيلة 190 ألف جنيه جمعها من 33 فنانًا وبعض الشخصيات العامة. ولكن القدر لم يمنح فاطمة رشدي سوى ثلاثة أيام فقط في الشقة الجديدة لتفارق الحياة بعدها.

معارك فنية

ودخلت الفنانة الكبيرة في معركة ضد إنشاء معهد للتمثيل، والذي أقرته وزارة المعارف المصرية في عام 1930، وبعد أن توقف المشروع مؤقتاً، أرسلت خطاباً لجريدة «الأهرام»، ونشرته الأخيرة في عددها الصادر يوم 27 يوليو 1931، وتضمن رؤيتها أن هذا المعهد عديم الجدوى، فالتمثيل ليس دروساً تُلقى في غرفٍ ذات جدران أربعة، ولكنه استعداد وموهبة ومران وجهد يجب أن يعمل على تهذيبه وتنظيمه لا تدريسه وتلقينه.

وثارت رشدي عندما أغفلت الجريدة ذاتها ذكر رحلاتها الفنية إلى الخارج، ونشر خطابها بتاريخ 31 مايو 1933، وضمنته عتاباً حول خبر تناول رحلة الموسيقار سامي الشوا والمطربة أم كلثوم، كأكبر دعاية لمصر، وأنها تشرف بأن فرقتها التمثيلية كان لها نصيب غير قليل من أداء هذا الواجب، وطافت أرجاء العالم العربي، واستقبلها أهل الأقطار الشقيقة بما جبلوا عليه من رقة وكرم، وما عُرف عنهم من اعتزاز بمصر والمصريين.

أزمة الملك لير

وحققت فاطمة رشدي نجاحا كبيراً، ولكنها تكبدت خسائر مالية طائلة، للإنفاق ببذخ على عناصر العرض المسرحي من ديكور وملابس ودعاية، وانفصلت عن زوجها عزيز عيد لغيرته الزائدة، واضطرت إلى حل فرقتها، وفي ذلك الوقت كانت للفرق الأخرى بطلاتها، وخشي أصحابها من ضم النجمة الكبيرة، لأنها لن تقوم بدورها كممثلة فقط، بل ستتدخل في عمل المخرج واختيار الممثلين.

وانضمت النجمة إلى فرقة «المسرح الحر» التابعة لوزارة المعارف عام 1935، وبعد شهور قليلة قدمت استقالتها، اعتراضا منها على المنهج الذي اتبعته الفرقة الحكومية سواء في التوظيف أو في اختيار الروايات أو توزيع الأدوار وإخراجها، وانه أمر غير منتج ولا يحقق الهدف المنشود من تكوين هذه الفرقة، وأنها بعد تجارب ومحاولات استغرقت شهرين، أيقنت أنه لا أمل ولا رجاء، ورفعت تقريراً إلى اللجنة المشرفة على الفرقة ضمنته ملاحظاتها بإسهاب، وانسحبت من الفرقة راجية للباقين فيها كل نجاح.

وانتظرت النجمة من زوجها السابق عزيز عيد، أن يلعب دوره القديم في إعادة بريقها المسرحي، وأن تستعيد الفرقة نشاطها، وبدأ التحضير لمسرحية «الملك لير» للكاتب الإنكليزي ويليام شكسبير، وفي أثناء البروفات أعطى دور البطولة للفنانة فردوس حسن، وأسند إلى «سارة برنار الشرق» دور بهلول مهرج الملك، ما أثار غضبها، وانسحبت من المسرحية، وهجرت المسرح سنوات طويلة.

جوائز وتكريمات

وفي عام 1960، انضمت فاطمة رشدي إلى المسرح الحر، وقدّمت عدة مسرحيات عن روايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ، منها «قصر الشوق»، و«ميرامار»، و«زقاق المدق». وفي نهاية 1969، اعتلت المسرح للمرة الأخيرة، لأداء دور «زبيدة» في رواية محفوظ «بين القصرين» على المسرح العائم.

وحصدت الفنانة الكبيرة العديد من الجوائز من ملوك ورؤساء، منها وسام الفنون من الدرجة الأولى من الرئيس جمال عبدالناصر، وفي السبعينيات، أطلق الرئيس أنور السادات اسمها على المسرح العائم في منطقة المنيل بالقاهرة، تكريماً لمشوارها الفني، كما أطلق اسمها على أحد شوارع منطقة الهرم بمحافظة الجيزة تخليداً لمسيرتها.

ونالت تكريمها الأخير في يوم المسرح المصري بالمسرح القومي عام 1992، نظير عطائها الرائد في مجال التمثيل المسرحي، وتعرضت النجمة لظروف حياتية صعبة، وتدهورت حالتها الصحية، وانتفض جمهورها ونجوم الفن لدعمها في عامها الأخير، قبل رحيلها في 23 يناير 1996 عن عمر ناهز 88 عامًا... ولاتزال «سارة برنار الشرق» حاضرة في قلوب محبي فنها الراقي.

أمير الشعراء يرشح نجمة المسرح لدور كليوباترا

عندما سطعت نجومية فاطمة رشدي، وأسست فرقتها المسرحية، توافد على مسرحها مشاهير المجتمع المصري، وفي عام 1928 اختارها أمير الشعراء أحمد شوقي لأداء دور كليوباترا في مسرحيته «مصرع كليوباترا» التي عُرضت عام 1829، ويعد أحد أدوارها الخالدة في مسيرتها الفنية.

وكتب شوقي تلك المسرحية خصيصًا لفرقة فاطمة رشدي، وسلمها لمخرج الفرقة عزيز عيد، لكي يبدأ على الفور البروفات، وتم الاتفاق مع الفنان محمد عبدالوهاب ليغني كل ليلة في المسرحية قصيدة شوقي «أنا أنطونيو... وأنطونيو أنا» مقابل أن يدفع له أجرًا 10 جنيهات كل ليلة.

وكان أمير الشعراء يتردد أحيانًا على قاعة البروفات، وسعى لأن تعرض المسرحية كحدثٍ مسرحي جديد على مسرح دار الأوبرا، وبدأ يستغل كل صلاته بالدوائر الحكومية حتى نجح في ذلك بالفعل، وتقرّر أن تفتتح مصرع كليوباترا في الأوبرا. وتصدر واجهة المسرح ملصقٌ كبير، تظهر فيه فاطمة رشدي ممسكة بالحية قبل أن تلدغ بها نفسها.

أحمد الجمَّال

الرئيس السادات كرّمها بإطلاق اسمها على أحد مسارح القاهرة

«فرقة فاطمة رشدي» نافست مسرَحي رمسيس ونجيب الريحاني

يوسف وهبي منحها «بروش ألماظ» بعد نجاح «النسر الصغير»

«صديقة الطلبة» فتحت مسرحها لطلاب المدارس والجامعات مجاناً

عزيز عيد أثار غضبها بعد أن منحها دور «بهلول مهرج الملك»
back to top