في ظلال الدستور: وجوب نقل الاختصاص بالفصل في الطعون الانتخابية إلى قضاء المشروعية (3-3)

نشر في 17-05-2022
آخر تحديث 17-05-2022 | 00:10
 المستشار شفيق إمام تناولت في مقالين متتاليين في 23 و26 أبريل الماضي على هذه الصفحة، وتحت العنوان ذاته، كيف فصلت المحكمة الدستورية بين ولايتها الأصيلة في رقابة دستورية القوانين وبين اختصاصها بالفصل في الطعون الانتخابية، كمحكمة موضوع، إلا أنه بعد إقصاء قضاة التمييز عن تشكيلها نكصت المحكمة الدستورية على عقبيها كمحكمة موضوع، في حكمها الصادر بجلسة 14/ 3/ 2021 في الطعن الانتخابي رقم 15 لسنة 2020، بإبطال انتخاب أحد الفائزين في الانتخابات البرلمانية العامة الأخيرة، وقد توغل الحكم على ولاية القضاء العام، وأهدر أحكامه في رقابة مشروعية القرارات الإدارية كما توغل على ولايته في تطبيق القوانين الجزائية مهددا مبدأ شرعية التجريم والعقاب، بأن أعاد الحكم محاكمة المطعون في انتخابه، ووقع عليه عقوبة جديدة بأثر رجعي مما أوقع الحكم في حومة مخالفة المادتين (32 و34) من الدستور.

محاكمة فوق الدستور والقانون

إلا أنه يبدو أن المحكمة الدستورية قد أغراها اختصاصها الأصيل المنصوص عليه في المادة (173) من الدستور بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح، وفي حالة تقريرها عدم دستورية قانون أو لائحة– طبقا لأحكام هذه المادة- يعتبر أيهما كأن لم يكن، ومن هنا تسلط قضاؤها في هذا الأمر على كافة المحاكم التي عليها أن تمتنع عن تطبيق النص التشريعي غير الدستوري، وتخضع لأحكامها كل سلطات الدولة.

وانطلاقا من هذه النظرة المتعالية للمحكمة الدستورية وهي تفصل في الطعن الانتخابي سالف الذكر، جاوز الحكم الصادر من المحكمة في هذا الطعن حدود ولايتها فضلا عن صدور حكمها على خلاف حكم سابق لمحكمة التمييز حاز قوة الأمر المقضي فيه، قضى بحق المطعون على انتخابه في الانتخاب وصحة ترشحه، كما أهدر حكمها في هذا الطعن قوة الأمر المقضي فيه للحكم الصادر من محكمة التمييز، في قضائه بتأييد حكم محكمة الاستئناف القاضي بإيقاف تنفيذ عقوبة الحبس، لمدة ثلاث سنوات، بما مؤداه سقوط هذه العقوبة بعد انقضاء هذه المدة، إلا أن المحكمة الدستورية بدلا من تقرير هذا السقوط، ألحقت بالعقوبة الساقطة عقوبة الحرمان من حق الانتخاب التي استحدثها التعديل التشريعي الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 2016 لقانون الانتخاب، والتي لم تكن مقررة للجريمة، وقت وقوعها أو في حسبان القاضي الذي أصدر الحكم بالإدانة، وهو الأمر الذي يقتضى تدخلا تشريعيا صيانة للحرية الشخصية التي كفلها الدستور، خاصة أن المبدأ الذي قرره حكم المحكمة الدستورية في هذا الشأن قد يفتح الباب مستقبلا لتوقيع عقوبات جديدة أو تشديد العقوبات على الأفعال المؤثمة جزائيا، عن أفعال سابقة على العمل بالقانون الذي أقرها، تطبيقا للمبدأ الذي قرره الحكم الدستوري في الطعن الانتخابي سالف الذكر، على أساس أنه أثر مباشر للقانون.

فأصبحنا أمام محاكمة فوق كل سلطات الدولة، بل فوق السلطة القضائية ذاتها، التي خرجت المحكمة الدستورية من رحمها، وفوق نصوص الدستور والقانون.

تنازع الاختصاص

والواقع الدستوري والقانوني أن تنازع الاختصاص لم يكن واردا أبدا وفي أي حال من الأحوال أن يثار بين ولاية المحكمة الدستورية، وبين ولاية محكمة التمييز، فلكل من الولاتين مجالها وسلطانها الذي تنفرد به كل منهما وتستقل، فالأولى تراقب دستورية القوانين، والثانية تراقب سلامة تطبيق المحاكم لهذه القوانين، وتميز أحكامها، إذا كان الحكم المطعون فيه أمامها مبنيا على مخالفة للقانون أو خطأ في تطبيقه أو تأويله، أو وقع بطلان في الحكم أو بطلان في الإجراءات أثر في الحكم، أو صدر خلافا لحكم آخر سبق أن صدر بين الخصوم أنفسهم وحاز قوة الأمر المقضي.

فلا يتصور عقلا ومنطقا وقانونا أن تسلط المحكمة الدستورية وهي محكمة موضوع- في الفصل في الطعون الانتخابية- رقابة قانونية على محكمة التمييز، وهي محكمة قانون لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

والعكس صحيح، هو أن تمارس محكمة التمييز رقابتها على الأحكام الصادرة من أي محكمة موضوع في الطعون الانتخابية، والذي حال دونه، حرص المشرع على أن يعهد بالفصل فيها، لأعلى محكمة في البلاد، بعد أن يكون القضاء العام قد استنفد ولايته في الفصل في مشروعية القرارات الإدارية الصادرة في المراحل المتعددة من العملية الانتخابية.

القيود الذاتية لقضائها

ومن هنا حرصت المحكمة الدستورية، عند الفصل في الطعون الانتخابية وعلى مدى نصف قرن تقريبا، على أن تفرض على نفسها قيودا ذاتية تنأى بها عن تنازع الاختصاص مع قضاء المشروعية، بأن بسطت رقابتها على العملية الانتخابية من بدء التصويت، وحجبت نفسها من الفصل في الطعون جداول الانتخاب، إضافة وحذفا والتي تستنفد ولاية القضاء العام، في المواعيد المقررة لذلك كل عام، في الطعن عليها، ومرورا بالقرارات النهائية التي تصدر بعد الحكم في هذه الطعون، وتنشر في الجريدة الرسمية، حيث اعتبرت الجداول النهائية حجة قاطعة وقت الانتخاب إعمالا لأحكام المادة (17) من قانون الانتخاب رقم 25 لسنة 1962 فيما نصت عليه من أن «تعتبر جداول الانتخاب النهائية حجة قاطعة وقت الانتخاب»، وبعد أن يستنفد القضاء العادى ولايته في الفصل في صحة سلامة المرسوم الصادر بتحديد ميعاد الانتخابات العامة، أو قرار وزير الداخلية بالفصل في ميعاد الانتخابات الداخلية، حيث تتحصن هذه القرارات أمام المحكمة الدستورية، في الطعن الانتخابى، إن لم يطعن عليها في المواعيد القانونية المقررة لذلك.

فإن مارست المحكمة الدستورية، بصفتها محكمة موضوع، عند الفصل في الطعون الانتخابية مراجعة قانونية للجداول والقرارات سالفة الذكر، على خلاف ما قضت به المحاكم ذات الولاية العامة بهذه الأمور، بأحكام نهائية باتة، فإنها تكون قد حازت قوة الأمر المقضي فيه، وتكون أحكامها خارج حدود ولايتها، معدومة الأثر قانونا.

ويصبح الأمر مضاعف الأثقال في حماية العدالة أن أحكام المحكمة الدستورية في هذه الطعون غير قابلة للطعن عليها بأي طريق من طرق الطعن، وهو ما قررته محكمة التمييز في حكمها الصادر بتاريخ 16/ 6/ 2021 في الطعن المقيد أمامها برقم 1165 لسنة 2021 بعدم جواز نظر الطعن أمامها على أحكام الدستورية، وكانت محكمة التمييز في هذا الحكم قد نأت بنفسها عن الانتصاف لنفسها من حكم الدستورية سالف الذكر الذي جار على ولايتها، أيا ما كان، الرأي حول مدى سلامته، وبغض النظر عن مدى جدية ما توجه اليه من مطاعن، حسبما جاء في أسباب حكم التمييز ، وهو موقف محمود من محكمة التمييز لا تثريب عليه، ويعتبر رسالة إلى المشرع بقصور التشريع، ودعوته إلى التدخل لمنع تكرار ذلك مستقبلا.

وكانت المحكمة الدستورية، قد سبقت محكمة التمييز الى هذا القضاء، بتحصين أحكامها من أي مراجعة أو من التماس إعادة النظر فيما تصدره من أحكام.

صون حق الانتخاب

وهو ما يفرض على المشرع التدخل لفض التنازع في الاختصاص بين أعلى محكمتين في البلاد، المحكمة الدستورية ومحكمة التمييز، بتعديل تشريعي، ينقل الاختصاص بالفصل في الطعون الانتخابية إلى محكمة الاستئناف، التي لها مكانتها التي تتبوأها في مراجعة أحكام كافة المحاكم من ناحية الموضوع، ما تملك معه الفصل في الطعون الانتخابية وتحقيق العدالة فيها، وتأكيد الإرادة الشعبية، بما يتيح للمواطن الطعن على أحكامها أمام محكمة التمييز، وبما هو ما من شأنه أن يحقق هدفين أساسيين:

أولهما: صون حق الانتخاب باعتباره صيانة لمبادئ الديموقراطية وترسيخا لمفهومها الذي أرساه الدستور سواء ما اتصل بتوكيد السيادة الشعبية، وهي جوهر الديموقراطية، أو بكفالة الحريات والحقوق العامة، وهي هدفها، أو بالمشاركة في ممارسة السلطة، وهي وسيلتها، وذلك على نحو ما جرت به نصوصه ومبادئه التي تمثل دائما القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم (الحكم الصادر من المحكمة الدستورية بجلسة 9/ 10/ 1990 القضية رقم 14 لسنة 12ق (منازعة تنفيذ).

ثانيهما: توحيد رقابة المشروعية، التي يمارسها القضاء على القرارات الإدارية، الخاصة بالعملية الانتخابية، لضمان توحيد الأحكام القانونية، التي يبسطها قضاء موحد، بما يضمن تكاملها وتماسكها، وأن تصبح الأحكام الصادرة فيها عنوانا للحقيقة، التي ضاعت في الحكم الصادر في الطعن الانتخابي سالف الذكر بسبب تناقض الأحكام، وحجية الأمر المقضي فيه التي أهدرها الحكم في الطعن سالف الذكر.

حيث تعتبر حجية الأمر المقضي من القواعد المتعلقة بالنظام العام، وإن القضاء إذا قال كلمته، فإنه يقولها منزها عن الميل أو الهوى، وإن ما نطق به هو الحق والصواب، وإن الحكم عندما يصدر باتا، فإنه لا يقبل طعنا ولا مراجعة، وإنه يمثل الحقيقة المطلقة، التي لا تحتمل جدلا ولا مناقشة.

اللهم قد بلغت... اللهم فاشهد.

المستشار شفيق إمام

back to top