من صيد الخاطر: كل ذي عاهة جبار

نشر في 22-04-2022
آخر تحديث 22-04-2022 | 00:09
 طلال عبد الكريم العرب «كل ذي عاهة جبار»، مثل عربي قد يفهم منه مغزى الجبار خطأ، فالمقصود هنا وصف لميزة أعطاها الله لكل ذي عاهة، فإذا فقد شيئا عوّضه الله بأحسن منه، فجبار لا تعني بالضرورة القاسي غليظ القلب، فالله الجبار وهو الرحيم، والشخص الجبار هنا هو من يتغلب على عاهته، فيواصل حياته كالآخرين، وقد يتفوق على غيره من الأصحاء، والحياة من حولنا تشهد بذلك، فقد شهدت بذوي عاهات جبارين عظماء ولكن لم يعرف أحد منهم أنه كان متجبراً أو حقوداً ظالماً لغيره.

فأبو العلاء المعري، المعروف برهين المحبسين، رهين العمى والبيت، لم تمنعه إصابته بالعمى وهو في سن الرابعة من أن يصبح مفكرا، وفيلسوفا، ومن أعظم شعراء العرب، وعالما في النحو واللغة العربية، ومن أشهر أعماله: سقط الزند، ولزوم ما لا يلزم، وضوء السقط، ورسالة الغفران، وطه حسين فقد بصره صغيراً، ولكنه تغلب على عاهته واشتهر في الأدب والنقد، وكتب كثيرا، ومن مؤلفاته: أحاديث، أحلام شهرزاد، الشيخان، الفتنة الكبرى (عثمان)، الفتنة الكبرى (علي وبنوه)، الوعد الحقّ، على هامش السيرة، فصول في الأدب والنّقد، مرآة الإسلام، والكثير غيرها. أما الرسام شارل فيلو البلجيكي فقد ولد بلا ذراعين، فرسم برجله أعظم اللوحات الفنية الرائعة، وستيفن هاوكنغ فقد جسمه كل حركة، بما فيها النطق، ولكنه حاز أكبر منصب أكاديمي له، وهو كرسي الرياضيات الذي كان يشغله العالم الشهير نيوتن في جامعة كمبريدج، ومن كتبه العلمية تاريخ موجز للزمن، وكتاب ثقوب سوداء، والموسيقار بيتهوفن أصيب بالصمم في شبابه، ومع ذلك فقد أبدع في مجال التأليف الموسيقي، حتى أنه ألف أروع سمفونياته بعد إصابته، فعاهته لم تعقه عن الإبداع، ولويس برايل الكفيف دفعته إعاقته ليخترع طريقة برايل للمكفوفين، فالأمثلة على عبقرية ذوي العاهات كثيرة، وتدعو إلى التأمل والإعجاب.

فالعاهة الحقيقية هي في العقل والأخلاق لا بفقد جزء من الجسم، فقد تكتمل كل الأعضاء وكل الحواس في الإنسان لكنه يبقى من ذوي العاهات، فالعاهات الحقيقية التي يتفاداها الأسوياء هي الجهل، والحماقة، والغباء، والبخل، والنفاق، والكذب، والغدر، والخيانة، هذه هي العاهات الحقيقية التي يجب أن يخجل من أصيب بها.

وهناك طرفة تدور حول «ألثغ، أو «ألتغ» يعاني من لفظ الراء، اعتاد مجالسة أحد الأمراء، وكان رغم عاهته مشهوراً بقوة لغته وعظيم حجته، وذات يوم أراد أحد الحسّاد الجهلاء التنمر عليه، فقال للأمير: يا مولاي، لمَ لا تأمر هذا الألتغ ليقرأ لنا خبراً صاغه بمكر، فقد جعل حرف الراء في كل كلمة من كلمات خطابه، فالخبر يقول: أمر أمير الأمراء وزير الوزراء بحفر بئرٍ في الصحراء ليشرب منه الشارد والوارد.

طلب الأمير من الرجل أن يقرأ ما كتبه الجاهل، فلبى ذلك الرجل الألتغ أمر الأمير، فقرأ قائلا: حكم حكيم الحكماء، على نديم النُدَماء، بشَقِ جُبٍ في البيداء، ليستسقيَ منه الغادي والبادي، فكان رد ذي العاهة على ذلك الجاهل خير دليل على عبقريته، فلا تستهن بذي العاهة الجسدية، فقد تكون أنت من ذوي العاهات الحقيقية التي تبرأ منها ذوو الأخلاق الأسوياء.

طلال عبد الكريم العرب

back to top