فرسان المسرح العربي: سعد الدين وهبة... عملاق التأليف المسرحي

نشر في 21-04-2022
آخر تحديث 21-04-2022 | 00:04
حلّق الكاتب المصري سعد الدين وهبة في فضاء الإبداع، ويُعد أحد رموز المسرح المصري الحديث، وحفلت تجربته بالثراء والتنوع بين التأليف المسرحي وكتابة السيناريو والقصة والمقال النقدي، وترأس العديد من النقابات الفنية، وساهم بدور كبير في ازدهار الحركة الثقافية، حتى رحيله في 11 نوفمبر عام 1997.
كانت أولى خطوات سعد الدين وهبة نحو طريق الحياة العملية، ضابط شرطة، ثم درس الفلسفة، واستقال من وزارة الداخلية المصرية، حتى يأخذ خطوات جديدة في الكتابة الصحافية والأدبية، إلى أن عرف طريقه إلى سلك الوظائف الحكومية كموظفٍ في وزارة الثقافة، وعمل تحت إدارة الأديب الكبير نجيب محفوظ في مؤسسة السينما.

وقد بدأ مشواره الإبداعي بالكتابة القصصية، وصدرت له مجموعة “أرزاق” عام 1958، في وقت برز التيار الواقعي في الأدب المصري، ورغم الحفاوة النقدية بالمجموعة، تحوَّل إلى التأليف المسرحي، وانصرف تمامًا عن القصة، ولاقت نصوصه المسرحية تفاعلًا كبيرًا من الجمهور والنقاد، وباتت من الأعمال المهمة في ذاكرة المسرح المصري، ولا تزال تُقدَّم من خلال فرقٍ مسرحية مصرية وعربية، بما تحمله من جماليات وكشف للسلبيات الاجتماعية.

وتميَّزت أعمال وهبة بتناغمٍ فريد بين الكوميديا والتراجيديا، وبنيتها المنفتحة على مدارس مسرحية عدة، من دون الإغراق في التجريب والغموض، وهدف إلى وصول الفكرة إلى المتفرج المثقف والبسيط، ومن أعماله التي لا ينساها جمهور المسرح “المحروسة”، و”السبنسة”، و”سكة السلامة”، و”كفر البطيخ”، و”كوبري الناموس”.

اقرأ أيضا

وفي ذروة عطائه المسرحي، ظهرت موهبته في كتابة السيناريو لأهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية، منها “أرض النفاق”، و”زقاق المَدق”، و”عروس النيل”، و”أدهم الشرقاوي”، و”الحرام”، و”مراتي مدير عام”، و”الزوجة الثانية”، و”أريد حلًا”، و”دخان بلا نار”.

واستطاع أن يحقّق التوازن بين الكتابة المسرحية والسينمائية، من دون أن يطغى مجالٌ على الآخر، وتلك سمة لكُتَّاب كثيرين، حققوا حضورهم في ألوان فنية مختلفة، ولكن عطاءه في المسرح، يعد الأكثر شمولية، ومن خلاله قدَّم أعماله المتميزة، وصار من أبرز رواد التحديث في الجيل الذهبي للمسرح.

كوبري الناموس

كتب وهبة أولى مسرحياته “المحروسة” وعُرضت على خشبة المسرح القومي عام 1961، وتدور أحداثها في الريف المصري قبل ثورة يوليو 1952، وتتناول أشكال الظلم الاجتماعي، بعد حدوث جريمة قتل، وإلصاق التهمة بشخصٍ بَريء، وشارك في بطولة المسرحية سعيد أبوبكر، وفاخر فاخر، وعبدالله غيث، وتوفيق الدقن، وكمال حسين، وإبراهيم الشامي، ورجاء حسين، ومحمود الحديني ومحمد السبع، وإخراج كمال ياسين.

وتجسِّد “المحروسة” مجموعة من الشخوص المتباينة، وتُعد نموذجًا لأعمال سعد الدين وهبة في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، والغوص في أعماق النفس البشرية، ورصد التغيُّرات الاجتماعية سواء في الريف أو المدينة، والصراع بين القديم والجديد.

وتحتشد “المحروسة” بعددٍ كبير من الشخصيات، منها مفتش الصحة المنافق، والخواجة الخبيث، إلى جانب الفلاح الشاب المغلوب على أمره قبل ثورة يوليو 1952، وأم عباس قارئة الفنجان وصانعة الأحجبة وبائعة المناديل، وزوجة المأمور التي تعيش حياة الدجل والسحر، وتتوهم أنها صاحبة سطوة، وتصطدم بزوجة وكيل النيابة للسيطرة على مقاليد الأمور ليجتمع حولها النساء، وعبده مدُرِّس الإلزامي، والضابط سعيد الذي يتضامن مع وكيل النيابة في إرسائه العدل ومحاولته إنصاف المظلومين.

كفر الأخضر

وفي العام التالي دفع بمسرحيته “السِبنسة”، وتدور أحداثها في إحدى محطات القطار، حيث يَجري العثور على جسمٍ غريب وينشغل الجميع بهذا الأمر، ويبدأ الصراع بعد اختفائه، وقد قُدمت في المسرح القومي، وشارك في بطولتها سميحة أيوب، وتوفيق الدقن، وشفيق نور الدين، وعبدالرحمن أبوزهرة، وعادل هاشم، وقام بالإخراج سعد أردش، وحققت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا.

وتعد تلك المسرحية قفزة نوعية في مسرحيات وهبة، وتوفرت لها الحبكة الدرامية والخيال والوعي بتباين الجُمل الحوارية، وفق طبيعة الشخوص، وتحريكها في فضاء افتراضي (كفر الأخضر) بدلالته الرمزية، بما يشكل واقعًا موازيًا، وليس فوتوغرافيًا يخبر المتفرج بما يعرفه سلفًا، بل يدفعه للتفكير ويضيف إليه وعيًا جديدًا بما يدور حوله.

ودارت في كواليس “السبنسة” دراما أخرى بين سعد الدين وهبة وبطلة العرض الفنانة سميحة أيوب، وتزوّج الكاتب والممثلة، وصارا من أشهر حالات الزواج في الوسط الفني، واستمر تعاونهما في المسرحيات اللاحقة، وأيضًا شاركت أيوب في أفلام سينمائية كتبها وهبة، منها “أرض النفاق” و”أدهم الشرقاوي”.

وانشغل سعد الدين وهبة بفكرة رمزية حول الفارس المنتظر في مسرحيته “كوبري الناموس”، وتدور أحداثها في الريف المصري، وعُرضت عام 1964، وشارك فيها مجموعة من نجوم المسرح القومي، منهم سميحة أيوب، وحسن البارودي، وعبدالسلام محمد، وإخراج كمال ياسين.

سكة السلامة

وتعد مسرحية “سكة السلامة” من أشهر أعمال وهبة، وقد عُرِضَت لأول مرة على خشبة المسرح القومي في عام 1065، وشارك في بطولتها كوكبة من الفنانين، منهم سميحة أيوب، وعبدالمنعم إبراهيم، وتوفيق الدقن، وشفيق نور الدين، ومحمد السبع، وحسن البارودي، ورجاء حسين، وعبدالسلام محمد، وفؤاد شفيق، وأحمد الجزيري، وإخراج سعد أردش.

وفي عام 2000، أعاد الفنان محمد صبحي تقديمها في عرض من إخراجه وبطولته مع الفنانين سيمون، وشعبان حسين، وخليل مرسي، وأيمن عزب، ومحمود أبوزيد، وعبدالله مشرف، وتدور “سكة السلامة” حول مجموعة من المسافرين بحافلة، ويضلون الطريق في الصحراء، وتتهاوى أقنعتهم في هذا الموقف الصعب، ويبوحون بأخطائهم، ويبحثون عن الخروج من هذا المأزق.

الأستاذ والرقابة

اصطدم وهبة مع الرقابة في بعض أعماله، ومنها مسرحية “الأستاذ” التي كتبها عام 1969، ولم تُعرض إلا في عام 1981، وتدور في إطار رمزي حول سكان مدينة غير معروفة، تفشت بينهم حالة مرضية غريبة، وأصيبوا جميعًا بالصمم، وباتوا لا يتكلمون ولا يسمعون، الأمر الذي جعل حاكمة البلاد تستعين بأستاذ متخصص في علاج تلك الحالات، ولكن الأستاذ، بكل ما يملكه من علمٍ وخبرة، لم يستطع سوى تطوير علاج يشفي الناس من حالة الصمم، لكن خطأ في التركيبة أدى إلى إصابتهم بالخرس، أي أنهم باتوا يسمعون جيدًا، ولكنهم لا يتكلمون!

وتعرض وهبة لصدام رقابي آخر مع مسرحيته الرمزية “يا سلام سلِّم الحيطة بتتكلم”، المستوحاة من حكاية شعبية، وحُذِف منها نحو 50 مشهدًا، وبعد إجازتها عُرضت في المسرح القومي عام 1970، وقامت ببطولتها سميحة أيوب، وتدور المسرحية في عصر خيالي حول رجل يعود ذات يوم إلى بيته ويسمع صوتًا من وراء الحائط، يقول له “اتق الله يا رجل في زوجتك”، فلما علِم الناس بذلك صاحوا مهللين مكبرين: “يا سلام سلِّم هي الحيطة بتتكلم؟”، ووصل الخبر إلى محتسب القاهرة، فذهب بنفسه ليتأكد من الأمر، إلا أنه سمع كلامًا خلف الحائط فأمر بهدمه، وبعدها سمع نفس الصوت يتكلم، فأمر بالقبض على صاحب الدار وزوجته، واعترفت الأخيرة أنها صاحبة الصوت.

واستطاع وهبة في تلك المسرحية توظيف الرمز والحفاظ على السياق الواقعي للسرد، وأراد من خلالها استلهام الحكاية الشعبية، لتناول قضية معاصرة، والمزج بين الكوميديا والتراجيديا، من دون التخلي عن جماليات النص التي تمثَّلت في رسم الشخصيات بتبايناتها النفسية والاجتماعية.

ورأى بعض النقاد أن توفيق الحكيم سبق وهبة في استلهام التاريخ والمأثورات الشعبية، واتضح ذلك في مسرحياته “يا طالع الشجرة” و”شمس النهار” و”شهرزاد” وغيرها، ولكن “يا سلام سلِّم الحيطة بتتكلم” مزيج بين خيال المؤلف ورؤيته لمعطيات المرحلة التي يعيشها، وأراد أن يُعبِّر عنها بصورة رمزية.

وأسفر صدامه مع الرقابة في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات إلى كتابة مسرحياتٍ ذات طابع كوميدي لفرق القطاع الخاص، منها “سد الحنك”، و”سبع ولا ضبع”، لقرقة أمين الهنيدي، و”8 ستات” إخراج جلال الشرقاوي، وشارك في بطولتها ليلى علوي وهدى سلطان وزبيدة ثروت.

محاكمة فانتازية

وفي عام 1972 كتب سعد الدين وهبة مسرحية “سبع سواقي”، واستحضر خلالها لحظات تاريخية فارقة، وكشف أسباب نكسة يونيو 1967، وتدور الفكرة الافتراضية حول خمسة جنود استشهدوا في الحرب، ودفنوا في سيناء وعادوا فجأة للحياة، وحملوا جثامينهم وأكفانهم لكي يُدفَنوا في مقابر الإمام بالقاهرة، ويأتي جاويش الحراسة ويُطلِق عليهم النيران، ويتملكه الذهول حينما يجدهم لا يسقطون، وتتصاعد الأحداث، ويعقد الشهداء من حروب سابقة محاكمة للجنود الخمسة، يكون القاضي فيها المناضل الثوري أحمد عرابي، ويسجل الجلسة المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي.

ومنعت الرقابة عرض “سبع سواقي”، التي تعد من أهم مسرحيات وهبة من ناحية البناء الدرامي وجرأة الفكرة، وأجوائها الفانتازية، وسنجد أن تاريخ كتابتها يسبق صدور رواية “أمام العرش” للكاتب الكبير نجيب محفوظ، الصادرة في عام 1981، وتدور في أجواء فانتازية، حول حوار مع رجال مصر بدءًا من مينا وصولًا إلى أنور السادات، ويستعرض خلالها تاريخًا حافلًا بالأحداث والتحولات عبر عصور مختلفة.

واستمر وهبة في صدامه مع الرقابة، حين كتب مسرحية “إسطبل عنتر”، وتدور أحداثها في إطار رمزي حول مجموعة من نزلاء أحد مستشفيات الأمراض العقلية والنفسية، وتعرض عددًا من النماذج المشوّهة بفعل ظروف حياتية قاسية، بعضها يلجأ إلى شخصيات من التاريخ، ليس هروبًا ولكن من أجل استعادة الدروس المستفادة، مثل إخناتون، وصلاح الدين الأيوبي، وهتلر، وشهرزاد.

رأس العش

وانضمت “رأس العش” إلى عروضٍ مسرحية تستعرض بطولات الجيش المصري، وعرضت عام 1974، وأخرجها سعد أردش، وتدور فكرتها حول معركة رأس العش إحدى معارك حرب الاستنزاف، ودارت أحداثها أول يوليو 1967، بالقرب من مدينة بورفؤاد، وكانت بمثابة الشرارة التي أدت لاندلاع حرب الاستنزاف على ضفتي قناة السويس لنحو ثلاث سنوات، وصولًا إلى نصر أكتوبر 1973.

وكتب وهبة عدداً من مسرحيات الفصل الواحد في مرحلة السبعينيات وبدايات الثمانينيات، ارتكزت على رصد التحولات التي أصابت المجتمع المصري موّزعة بين مسرحيات تعكس القضية الاجتماعية، وأخرى تعكس القضية السياسية. ومنها مسرحية “أحذية الدكتور طه حسين” (1977)، وتناول خلالها التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في مرحلة ما بعد الانفتاح الاقتصادي.

إسهامات متعددة

وكان مسرح سعد الدين وهبة أشبه بتوثيق وتحليل مسرحي للتحديات والمشكلات التي واجهها المصريون على امتداد تاريخهم، وقد حرص على نشر أعماله المسرحية، لا سيّما أن الكثير منها تعرّض للمنع الرقابي، وعدم تقديمها على خشبة المسرح، وصدرت له طبعات من أعماله الكاملة، وتُرجِم بعض مسرحياته إلى الإنجليزية، منها “سكة السلامة”، و”كوبري الناموس”.

كما جسَّد وهبة، نموذجًا للمثقف الفاعل في مجتمعه، سواء في إبداعه المسرحي، أو تأسيسه لقصور الثقافة في أرجاء مصر، ولعب دورًا مهمًا في ظهور مواهب متفردة في شتى الفنون، وأولى اهتمامًا كبيرًا بمسرح الأقاليم، وإقامة عروض موسمية، استقطبت جمهورًا كبيرًا، ومهدت لاكتشاف أجيالٍ من الكُتَّاب والممثلين والمخرجين المتميزين.

وقد تصدى للعمل الثقافي إلى جانب إبداعه المسرحي، وشغل مناصب عِدة، منها ترؤسه الاتحاد العام للفنانين العرب، كما عمل في وزارة الثقافة المصرية في الفترة من عام1964 إلى 1980، وشغل منصب رئيس مجلس إدارة الشركة العامة للإنتاج السينمائي العربي، ورئيس مجلس إدارة دار الكتب العربية للطباعة والنشر، ورئيس مجلس إدارة هيئة الفنون، ووكيل وزارة الثقافة للعلاقات الخارجية، ووكيل أول في الثقافة الجماهيرية، وسكرتير المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ووكيل أول وزارة الثقافة، ونائبًا للوزير من عام 1975 إلى 1980، ورئيس مجلس إدارة صندوق رعاية الأدباء والفنانين.

ويظل سعد الدين وهبة من أشهر رواد المسرح العربي الحديث في الستينيات، وبسبب غزارة إنتاجه الفني أصبح قامة فنية كبيرة، وسطعت أعماله لتكون مرآة للواقع، بطابعها النقدي والكاشف لسلبيات المجتمع، ولا تزال إبداعاته حاضرة في ذاكرة الثقافة المصرية والعربية.

أحمد الجمَّال

«المحروسة» أولى مسرحياته الرمزية في أجواء الريف المصري

«يا سلام سلِّم الحيطة بتتكلم» تصطدم بالرقابة في عهد السادات

شاركته زوجته الفنانة سميحة أيوب رحلة الإبداع المسرحي

محمد صبحي يُخرِج النسخة الثانية من «سكة السلامة»

«سبع سواقي» دراما فانتازية تستعرض لحظات تاريخية فارقة
back to top