العالم الحر يتوهم

نشر في 15-04-2022
آخر تحديث 15-04-2022 | 00:04
قد تكون حرب روسيا على أوكرانيا مرحلة مفصلية من المنافسة العالمية بين الاستبداد والديموقراطية، فقد ثارت حفيظة الديموقراطيات بعد إقدام بوتين على انتهاك المعايير المعترف بها بشكلٍ فاضح، لذا من المتوقع أن تتكاتف الدول لإعادة التأكيد على قوة النظام الدولي الليبرالي.
أطلق الغزو الروسي لأوكرانيا موجة سخط عارمة وسيلاً من العقوبات الاقتصادية من جانب حكومات غربية كثيرة، فقرر البعض، مثل ألمانيا، زيادة إنفاقه العسكري بعد سنوات من الاتكال على الولايات المتحدة، ونتيجةً لذلك، وجد بعض المحللين جوانب إيجابية للحرب المدمرة في أوكرانيا، فكتب مايكل بيكلي وهال براندز في صحيفة «فورين أفيرز» في شهر مارس أن ردة الفعل الدولية على الغزو ستتجاوز حدود الأزمة الراهنة، حتى أن الرد الموحّد على تحركات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد «يرسّخ التحالف العالمي الذي يجمع بين الديموقراطيات ضد روسيا والصين، مما يضمن أمن العالم الحر خلال الجيل المقبل». وفق هذا الرأي، قد تكون حرب روسيا في أوكرانيا مرحلة مفصلية من المنافسة العالمية بين الاستبداد والديموقراطية، فقد ثارت حفيظة الديموقراطيات بعد إقدام بوتين على انتهاك المعايير المعترف بها بشكلٍ فاضح، لذا من المتوقع أن تتكاتف هذه الدول لإعادة التأكيد على قوة النظام الدولي الليبرالي.

لكن يعكس هذا التوقع ما يتمناه المحللون بكل بساطة، وتبقى الحرب حدثاً مزلزلاً وستكون تداعياتها عميقة في روسيا وأقرب الدول إليها وبقية أوروبا، لكنها لن تعيد رسم النظام العالمي أو تنذر بمواجهة أيديولوجية بين الديموقراطيات من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، حتى الآن، لم تنضم جميع الديموقراطيات البارزة في العالم، بما في ذلك الهند، إلى الحملة الاقتصادية التي تقودها واشنطن ضد روسيا، حتى أنها لم تستنكر الغزو صراحةً، بدل أن تُرسّخ الحرب قوة «العالم الحر» إذاً، يبدو أنها جاءت لتسلّط الضوء على عدم تماسكه. في مطلق الأحوال، لن يتحدّد مستقبل النظام العالمي بناءً على نتائج الحرب في أوروبا، بل إنه يتوقف على المنافسة القائمة في آسيا ولا تؤثر أحداث أوكرانيا عليها كثيراً.

انتقل محور الاقتصاد العالمي حديثاً من منطقة الأطلسي إلى شرق جبال الأورال، وتتركز النزاعات الجيوسياسية والمعضلات الأمنية التي تؤثر على النظام العالمي في مساحات آسيا البحرية، ويحاول العالم إيجاد توازن جديد لكبح الصعود الصيني، ويجب ألا يفترض صانعو السياسة في الدول الغربية إذاً أن تحركاتهم على الجبهات الجديدة في أوروبا ستكون كافية لرسم معالم صراع أكبر في المرحلة المقبلة.

خيار شائك

لا مفر من أن تنتج الحرب في أوكرانيا آثاراً ثانوية بارزة في مجموعة من دول آسيا أو تتأثر فرصها الاقتصادية على مستوى تأمين إمدادات الطاقة، والمعادن القيّمة والاستراتيجية، والأسمدة والحبوب، حتى أن تباطؤ الاقتصاد العالمي نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز سيؤثر في الدول الآسيوية التي تحصل على 60% من واردات النفط الخام في الاقتصاد العالمي، ومن المتوقع أن تتصاعد الأضرار الناجمة عن الانسحاب من سوق القمح الروسي والأوكراني، كونه يشكّل أكثر من 25% من تجارة القمح في العالم، نتيجة ارتفاع كلفة إنتاج الأسمدة كثيفة الاستهلاك للطاقة.

لكن لن تُغيّر الحرب الديناميات الجيوسياسية السائدة في آسيا، إلا إذا تراجع تركيز الولايات المتحدة عن استراتيجيتها في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وتتعدد الدول الآسيوية المرتبطة اقتصادياً بالصين مع أنها تتكل على الولايات المتحدة لحماية أمنها، والهند خير مثال على ذلك، فقد سجلت عملياتها التجارية مع الصين أرقاماً قياسية جديدة في آخر سنتين، رغم جمود في العلاقات السياسية بين البلدين وحصول حشد عسكري واشتباكات متكررة على طول حدودهما المشتركة. في الوقت نفسه، توسعت الروابط الأمنية والاستخبارية بين الهند والولايات المتحدة بدرجة ملحوظة، وفي المقابل، تراجعت حصة روسيا من واردات الأسلحة الهندية إلى 35% في عام 2020 بعدما وصلت إلى 88% في عام 2002، وتحتفظ الهند أيضاً بحصص كبيرة من المنصات الروسية القديمة، لكن أصبحت نزعتها إلى تنويع واردات أسلحتها واضحة وثابتة.

باتت هذه الدينامية المبنية على تعدد الانتماءات والشراكات المعيار الطاغي في آسيا، ومن المنتظر أن تزيد تعقيد أي إطار غربي لخوض مواجهة أوسع نطاقاً مع الأنظمة الاستبدادية في الصين وروسيا. واجهت الهند أصلاً انتقادات كثيرة بسبب ترددها في رفع الصوت ضد الحرب في أوكرانيا، حتى أنها امتنعت عن التصويت على قرار يدين الغزو في مجلس الأمن في شهر فبراير، كذلك حذر المسؤولون الأميركيون الهند من الموافقة على الاقتراحات الروسية التي تساعد الكرملين في التهرب من تداعيات العقوبات.

فرضت هذه الحرب خياراً شائكاً وغير مرحّب فيه على الهند، فهي باتت مضطرة للاختيار بين الغرب وروسيا مع أنها بذلت قصارى جهدها سابقاً لتجنب هذا الخيار، وتُعتبر الولايات المتحدة شريكة أساسية ولا غنى عنها لتحديث الهند، لكن تبقى روسيا شريكة مهمة أيضاً لأسباب جيوسياسية وعسكرية. تبدي روسيا استعدادها للمشاركة في تطوير وإنتاج تقنيات دفاعية دقيقة مثل صاروخ «براهموس» وتقاسم الغواصات النووية مع الهند، وفي المقابل، تقدّم لها أميركا الشمالية وأوروبا تقنيات متقدمة وأسواقاً مفتوحة وأنظمة مالية وتعليمية لا يمكن أن تضاهيها روسيا.

على صعيد آخر، تُعتبر الولايات المتحدة شريكة أساسية للأمن البحري الهندي في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، حتى أنها تتعاون مع البلد تحت مظلة «التحالف الرباعي» الذي يشير إلى شراكة تشمل أستراليا واليابان أيضاً، لكن تتطلب مصالح الهند في قارة أوراسيا التعاون مع روسيا وإيران بعد الانسحاب الأميركي العسكري من أفغانستان، لهذا السبب، فضّل الدبلوماسيون الهنود التشديد على ضرورة إيجاد مخرج للحرب في أوكرانيا بعد إجراء المفاوضات اللازمة، وشجّع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على التحاور مع بعضهما مباشرةً لتسريع إنهاء الأزمة.

عبّرت الهند بأسلوب ذكي عن انزعاجها من الغزو عبر تكرار دعمها لسيادة الأراضي الأوكرانية ووحدتها، وانطلاقاً من تجارب الماضي، يسهل أن نفترض أن المسؤولين الهنود عبّروا عن استيائهم أمام نظرائهم الروس في أوساطهم الخاصة، فلا يزال الرأي العام في الهند منقسماً حول الغزو، مع أن عدداً كبيراً من الشخصيات رفيعة المستوى استنكر الهجوم بقوة تفوق مواقف الحكومة، لكن من غير الواقعي أن تتخذ نيودلهي موقفاً رسمياً أكثر صرامة ضد موسكو.

يعترف صانعو السياسة الغربية بأن الغزو الروسي لأوكرانيا صدمهم، لكن يُفترض أن يتذكروا أن هذا النوع من التصرفات ليس مستجداً وهو لا يغيّر المعايير السلوكية في أوروبا والعالم، وفي المقام الأول، سبق أن شهدت آسيا على هذا الشكل من انتهاك سيادة الأراضي ووحدتها في الماضي على يد قوى بارزة، وتثبت قائمة طويلة من التدخلات الخارجية، وعمليات الغزو (بما في ذلك الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 وحرب فيتنام)، والحروب المستمرة بالوكالة، والصراعات «المجمّدة»، أن الدول الكبرى تكتفي بدعم معايير السيادة والصراعات على الأراضي شفهياً رغم الإمعان في انتهاك هذه القواعد بشكلٍ متكرر. في غضون ذلك، يصعب أن نذكر دولة قوية لم تتورط في هذا النوع من الأعمال في التاريخ الحديث، فهذا الواقع لا يبرر التحركات الروسية في أوكرانيا، لكن يُفترض أن يدفع المحللين وصانعي السياسة إلى تحديد معالم الصراعات والشروط المطلوبة من الدول الآسيوية والإفريقية بدقة متزايدة.

بغض النظر عن مدة الحرب في أوكرانيا، وحجم العزلة الروسية بسبب تدابير الغرب، وتداعيات الحرب الثانوية على الاقتصادات الآسيوية، من المستبعد أن يتأثر ميزان القوة بشكلٍ كبير في آسيا، ولا شك أن انهيار الدولة الروسية بالكامل سيترافق مع تداعيات خطيرة، لكن تبقى هذه النتيجة مستبعدة حتى الآن. في آسيا، لن تردم الحرب الفجوة القائمة على مستوى القوة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين من جهة، وبين عدد كبير من القوى المتوسطة ودون الإقليمية في آسيا من جهة أخرى، كذلك، من المستبعد أن يستجمع التحالف الغربي المتجدّد في الفترة الأخيرة الطاقة اللازمة لأداء دور ناشط أو مؤثر ومعالجة المعضلات الأمنية في آسيا طالما يبقى منشغلاً باحتواء روسيا في أوروبا.

قد تؤدي الحرب في أوكرانيا إذاً إلى زيادة تصدّع النظام العالمي، فقد سبق أن رسّخت هذه الحرب الرغبة في اكتساب شكلٍ من الاستقلالية الاستراتيجية في أوروبا، وقد بدأت الدول الأوروبية تزيد الإنفاق على دفاعها بدل الاتكال على الولايات المتحدة بدرجة مفرطة، وفي غضون ذلك، أكدت الحرب على اختلاف آسيا عن مناطق العالم الأخرى، فهي تُركّز على الاستقرار والتجارة والعمليات التي استفادت منها الدول الآسيوية في آخر أربعين سنة، ومن المتوقع أن تفرض الحرب تحديات عدة على الاقتصادات التي ترزح أصلاً تحت ثقل جائحة كورونا وتداعيات الانسحاب من العولمة خلال العقد الأخير. كذلك، قد تُقنِع عواقب الحرب الاقتصادية والسياسية الدول الآسيوية بزيادة اتكالها على نفسها، علماً أن هذه النزعة بدأت تترسخ هناك أصلاً بعد تفشي الوباء.

لكن لا يرسم الغزو الروسي خطاً فاصلاً بين حلفاء العالم الحر وخصومه، ولا يلوح أي صراع عالمي في الأفق، فلا مفر من أن تخيب آمال المراقبين الذين يأملون اندلاع صراع بهذا الحجم انطلاقاً من أنقاض «ماريوبول» و«خاركيف».

* شيفشانكار مينون

لن تُغيّر الحرب الديناميات الجيوسياسية السائدة في آسيا إلا إذا تراجع تركيز الولايات المتحدة عن استراتيجيتها في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ

الدول الكبرى تكتفي بدعم معايير السيادة والصراعات على الأراضي شفهياً رغم الإمعان في انتهاك هذه القواعد بشكلٍ متكرر
back to top