«طالبان» لا تزال بعيدة عن الاعتدال

نشر في 08-04-2022
آخر تحديث 08-04-2022 | 00:06
«طالبان» استولت على كابول وتجاهلت المعايير الدولية بشكلٍ فاضح في أغسطس 2021
«طالبان» استولت على كابول وتجاهلت المعايير الدولية بشكلٍ فاضح في أغسطس 2021
«طالبان» قد تفتح المجال أمام ظهور متطرفين آخرين، كما حصل خلال التسعينيات، إذا توسّعت قوتها وزادت إنجازاتها بدرجة غير مسبوقة، ففي نهاية المطاف، ستكون التداعيات التي يواجهها الشعب الأفغاني والمجتمع الدولي ككل هائلة سواء فشلت «طالبان» أو نجحت.
حين عادت حركة "طالبان" إلى السلطة في أفغانستان، في أغسطس 2021، توقّع بعض المراقبين أن تصبح طريقة حُكمها للبلد أكثر اعتدالاً هذه المرة. لقد مرّت عشرون سنة منذ أن كانت السلطة بيد هذه الجماعة، وتغيرت أفغانستان بطريقة جذرية خلال هذه الفترة، فبدا وكأنّ المهام البسيطة، مثل جمع النفايات وإبقاء الأضواء مشتعلة، لم تعد تحمل طابعاً أيديولوجياً بعد انتهاء المعركة ضد الولايات المتحدة.

لكن جاءت أولى خطوات "طالبان" في السلطة لتبدد هذه الآمال، فتبنّت الحركة نهجاً ضيقاً وقمعياً، فمنعت أكثر من مليون فتاة من الذهاب إلى المدرسة، وأعادت إنشاء وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (من أقوى المؤسسات التي تستعملها "طالبان" للسيطرة على المجتمع) في مبنى وزارة شؤون المرأة التي لم تعد موجودة اليوم، فهذه الممارسات ليست مفاجئة نظراً إلى تاريخ الحركة وطريقة عودتها إلى السلطة، ومهّد رحيل القوات الأميركية ثم إسقاط الحكومة الأفغانية لسيطرة "طالبان" على البلد من دون أن تضطر لتقديم أي شكل من التنازلات.

لا مفر من أن يواجه الشعب الأفغاني أسوأ تداعيات هذا الحُكم القمعي والوحشي، ومع ذلك، يجب ألا تفترض الحكومات الأجنبية أنها لن تتأثر بالأحداث الميدانية، فقد تندلع حرب أهلية ثم تنشئ الفوضى اللاحقة بيئة حاضنة لأسوأ مظاهر التطرف، ويجب ألا ننسى أيضاً أن أسامة بن لادن خطّط لاعتداءات 11 سبتمبر انطلاقاً من الأراضي الأفغانية خلال عهد "طالبان"، وهزمت هذه الحركة أقوى بلد في العالم ثم بدأت عهدها الثاني وهي تتمتع بقوة رمزية استثنائية، فإذا نجحت في ترسيخ سلطتها، ولو لفترة قصيرة، فقد تتحوّل أفغانستان إلى ملاذ آمن للمتطرفين أكثر مما كانت عليه خلال التسعينيات.

عودة إلى الماضي

بعد سبعة أشهر على سقوط كابول، استعملت "طالبان" سلطتها مجدداً لتطبيق حُكم توتاليتاري وحشي ومبرَّر دينياً، وحصلت الحركة على صلاحية التصرف بهذه الطريقة لأنها لم تصل إلى السلطة عن طريق مفاوضات شاقة بل عبر انتصار عسكري، كما تستطيع التسويات المشتقة من المفاوضات أن تفرض ضغطاً دولياً لتحرير البلد كجزءٍ من جهود بناء السلام وإعادة الإعمار بعد حقبة الصراع، لكن يحصل الرابح دوماً على حرية التصرف حين يُحقق انتصاراً ثورياً على غرار ما فعلته "طالبان": على المدى القصير، يستطيع الرابحون أن يمتنعوا عن المشاركة في المفاوضات أو تقديم التنازلات، كتلك التي تطبع سياسات ما بعد الحرب، ويركّزوا على تقوية نظامهم لتحقيق غاياتهم الاستبدادية، فقد زادت سهولة ترسيخ هذه النزعة الاستبدادية نظراً إلى الهندسة المركزية التي ورثتها الحركة في الدولة الأفغانية.

تعمل "طالبان" في الوقت الراهن على استرجاع النسيج الاجتماعي الذي أنشأته للمرة الأولى منذ ثلاثين سنة تقريباً، وتتعدد الممارسات التي أُلغِيت من المساحات المدنية خلال التسعينيات، منها المراسيم الجديدة التي تُجبِر المرأة على تغطية جسمها ووجهها، أو السفر مع رجل، أو ملازمة المنزل بدءاً من مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية، وتتكرر ممارسات الماضي أيضاً حين يستعمل النظام أشكالاً مريعة من العنف، بدءاً من قطع رأس تماثيل عرض الملابس في واجهات المتاجر، والاحتفال بتحطيم الآلات الموسيقية، وإخفاء ناشطين وعرض جثث مجرمين مزعومين.

أصبحت "طالبان" مخوّلة حُكم البلد بشروطها الخاصة بعد إنجازاتها في ساحة المعركة، لكن النظام الجديد يواجه تحديات صعبة، حيث تفتقر هذه الحكومة إلى الخبرة التقنية والتجارب السابقة ولا تجيد إدارة شؤون الناس اليومية، بدءاً من قلة المواد الغذائية وصولاً إلى جائحة كورونا، فأصبحت هذه الشوائب حادة لأن أصحاب أكبر الخبرات ما عادوا جزءاً من الرأسمال البشري في الحكومة، فأقالت "طالبان" جميع الموظفات من الحكومة، ويفضّل الموظفون الحكوميون الرجال الهجرة على خدمة النظام الجديد، وفي غضون ذلك غادر عمال الإغاثة الأجانب والمتعاقدون من القطاع الخاص البلد أيضاً بعدما كانوا يُكَمّلون اليد العاملة المحلية.

على صعيد آخر، تُمثّل تعيينات الحكومة الجديدة في مجلس الوزراء ومختلف المناصب دون الوطنية شريحة ضيّقة من سكان البلد تزامناً مع زيادة التصدعات بين القادة المنتمين إلى جماعة البشتون، ونتيجةً لذلك، واجهت "طالبان" عدداً من التحديات التي تعاملت معها الحكومة السابقة، ففي يناير الماضي، اعتقلت الحركة مثلاً واحداً من قادتها في محافظة "فارياب" الشمالية، وهو عضو من الأقلية الأوزبكية، وأطلق هذا الاعتقال شكلاً من التمرد من جانب مقاتلي "طالبان" غير المنتمين إلى جماعة البشتون في المنطقة، وقد تنتشر هذه التحركات في أجزاء أخرى من البلد. كان أشرف غني، الذي أصبح رئيس البلد في عام 2014 وهرب من أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي، قد واجه النوع نفسه من أعمال الشغب حين عيّن حاكماً من البشتون في المحافظة نفسها في عام 2021، وفي هاتين الحالتَين، اتضحت صعوبة أن يفرض أي نظام في كابول سيطرته خارج حدود المدن إذا لم يعترف بتنوع الشعب الأفغاني عرقياً وطائفياً.

أخيراً، تترافق مقاربة الحكومة الجديدة لصياغة السياسات، في المجال الاجتماعي تحديداً، مع مجموعة من المخاطر، فقد منعت "طالبان" تعليم الفتيات بعد المرحلة الابتدائية، ويُهدد هذا المرسوم بنسف المكاسب المُحققة على مر عقدَين في مجال محو أمية الإناث والتقدم المهني، وبحلول أواخر الخريف الماضي، خفّف النظام أحكام هذا المرسوم في عدد من المحافظات المنتقاة حيث كان الطلب على تعليم الفتيات مرتفعاً، لكنّ قرار الحكومة، في أواخر شهر مارس، بعدم تنفيذ وعدها بإعادة فتح مدارس الفتيات يعكس مستوى التصلب الأيديولوجي الصادم في وجه المطالب المحلية والدولية بتبنّي نهج معتدل، وإذا لم تُوسّع "طالبان" هامش مرونتها في مجالات مثل التعليم والعمل والرعاية الصحية وقانون العائلة، فقد تضعف سطوتها على السلطة، فقد كان النظام الشيوعي قد طبّق خلال السبعينيات سلسلة من السياسات التي اعتُبِرت متطرفة بالمعنى المعاكس، وفرض أن تتعلم جميع الفتيات الأفغانيات قبل أن يواجه حركة تمرد شعبية أدت إلى انهياره في نهاية المطاف.

النهج نفسه مستمر

نجحت حكومات أفغانية قليلة في التمسك بالسلطة لفترات طويلة عبر إفساح المجال أمام الخصوم والأفكار التي تختلف عن توجهاتها، كذلك، تابعت هذه الحكومات التواصل مع الدول والمنظمات الدولية القادرة على تعزيز قوتها في وجه الاضطرابات المحلية، فمنذ القرن التاسع عشر، طالب حكام البلد بإنشاء علاقات خارجية متوازنة وبتدفق المساعدات من الخارج بانتظام كي يتمكنوا من التمسك بسلطتهم، وفي المقابل، فضّلت "طالبان" الاستيلاء على كابول عبر تجاهل المصالح والمعايير الدولية بشكلٍ فاضح، حيث تميل الحركات المتمردة عموماً إلى تسويق نفسها دولياً لأن الاعتراف الدبلوماسي بها يمنحها ميزة كبرى، وحاول البعض في صفوف "طالبان" طرح نفسه كمؤيّد للمصالحة، لكن لم تضطر الحركة لبذل جهود كبرى لتلميع صورتها حين اتّضح أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وخلفه جو بايدن ملتزمان بسحب القوات العسكرية بأي ثمن.

اليوم، يواجه النظام الجديد عزلة شبه تامة على الساحة الدولية، وتبدو تداعيات هذه العزلة حادة من الناحية المادية، بدءاً من استمرار العقوبات وصولاً إلى تجميد الأصول، وفي غضون ذلك، لا يزال تدفق المساعدات الإنسانية مستمراً لكن معظم الخبراء يظنون أن هذا الحل لا يناسب حدة الأزمة القائمة، ولم تتغير المقاربة الحكومية المعتمدة رغم تدهور الوضع الميداني، وخلال خطاب عبر الراديو في شهر نوفمبر، لم يتحمّل رئيس الوزراء الأفغاني الجديد، محمد حسن أخوند، مسؤولية عشرات ملايين الناس الذين يواجهون مستوىً حاداً من انعدام الأمان الغذائي، بل اعتبر المجاعة عقاباً من الله، وفي الوقت نفسه، استنكرت الحكومات الغربية والمنظمات المانحة والأمم المتحدة استمرار إغلاق مدارس الفتيات، لكن بلا جدوى.

قد يستمر عناد "طالبان"، لا سيما إذا قررت حركة الجهاد العالمي منح دعمها الأخلاقي والمادي للنظام، كذلك قد تختار "طالبان" مواجهة الغرب منعاً لتفوّق خصومها عليها بعد ظهور قوى متطرفة منافِسة لها داخل أفغانستان، على رأسها تنظيم "الدولة الإسلامية في ولاية خراسان".

إلى أين؟

إذا أصرّت "طالبان" على هذا المسار المبني على فرض سيطرة مطلقة، فستكون أيامها معدودة، فلا مفر من نشوء حركات احتجاجية وثورات إضافية نتيجة الميل المستمر إلى الاتكال على دائرة سياسية ضيقة، حتى أن النزعة إلى عزل البلد دولياً قد تقود إلى انهياره اقتصادياً، وإذا قررت الحكومة الجديدة تخفيف تشدّدها، فقد يصبح المجال مفتوحاً أمام اندماجها مع الجهات المحلية الأخرى والتواصل مع الخارج، فتحصل الحركة بذلك على هامش أوسع للمناورة، لكن قد تُضعِف هذه العملية مصداقيتها أمام أشرس داعميها، وقد تراهن "طالبان"، نظراً إلى تاريخها في الحُكم، على أهمية إعطاء الأولوية لمشروعها السياسي المتطرف قبل أي شيء آخر، حتى لو عنى ذلك إضعاف عهدها على المدى الطويل.

لن يكون انهيار "طالبان" ولا ترسيخ سلطتها إيجابياً بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، والدول المجاورة لأفغانستان، ولا حتى الشعب الأفغاني، فقد سبق أن أدى فشل الدولة الأفغانية إلى وقوع كارثة إنسانية، ولا مفر من توسّع مظاهر المجاعة والأمراض والنزوح عند تجدّد الحرب الأهلية. تتراجع الضغوط التي تستطيع الجهات الخارجية استعمالها في هذه الظروف: لا تُحقق المساعدات الإنسانية أهدافاً كبرى، لكنّ أعمق أشكال التواصل الدبلوماسي والاقتصادي والأمني تجازف بترسيخ قوة النظام وإحباط المعارضة، حتى أن "طالبان" قد تفتح المجال أمام ظهور متطرفين آخرين، كما حصل خلال التسعينيات، إذا توسّعت قوتها وزادت إنجازاتها بدرجة غير مسبوقة، ففي نهاية المطاف، ستكون التداعيات التي يواجهها الشعب الأفغاني والمجتمع الدولي ككل هائلة سواء فشلت "طالبان" أو نجحت، فهكذا هي طبيعة هذا النوع من الانتصار الثوري.

* ديبالي موخوبادهياي

فورين أفيرز

الحركة تعمل في الوقت الراهن على استرجاع النسيج الاجتماعي الذي أنشأته للمرة الأولى منذ ثلاثين سنة تقريباً

«طالبان» تبنّت نهجاً ضيقاً وقمعياً فمنعت أكثر من مليون فتاة من الذهاب إلى المدارس
back to top