فرسان المسرح العربي

يوسف وهبي... رائد التمثيل التراجيدي

نشر في 04-04-2022
آخر تحديث 04-04-2022 | 00:05
حفلت مسيرة الفنان يوسف وهبي، بإسهامات رائدة في المسرح المصري، وانطلقت شهرته من خلال تأسيسه فرقة رمسيس، وتعدّدت أقنعته ممثلاً ومخرجاً ومؤلفاً، وقدَّم نحو 300 مسرحية، وتألّق بأدائه التراجيدي لأكثر من نصف قرن، وحصد العديد من الجوائز والتكريمات، واستحق عن جدارة لقب «عميد المسرح العربي»، وعلى الرغم من رحيله عام 1982، فإن إبداعه المتميز لا يزال حاضراً بقوة في ذاكرة الجمهور العربي.
تعلَّق يوسف وهبي بالتمثيل في وقت مبكر، وكان والده عبدالله باشا وهبي يستضيف بعض الفرق في منزله للاستمتاع بما تقدمه من فن، ومنها فرقة «سليم النقاش» وكانت تقدِّم عروضها في سوهاج، وذات مرة اصطحبه والده لحضور مسرحية «عطيل»، وبعدها قرَّر احتراف الفن، وظل متوهجاً في رحابه إلى أن أصبح عميداً للمسرح العربي.

بدأ وهبي هوايته بإلقاء المونولوجات وأداء التمثيليات في الاحتفالات المدرسيّة، ووجد معارضةً شديدة من والده، لكنه قرّر أن يسلك طريق التمثيل، وحينها شهد له الجميع ببراعة أدائه وموهبته وصوته وإطلالته الوقورة وإتقانه اللغة العربية الفصحى، ووسط دهشة عائلته، عمل يوسف ممثلاً ومصارعاً في «سيرك الحاج سليمان»، وتدرَّب على يد بطل الشرق في المصارعة آنذاك عبدالحليم المصري. وانتقل من أعلى طبقة في المجتمع إلى طبقة «المشخصاتية» التي لم يكن مُعتَرفاً بشهادتها أمام محاكم الدولة في ذلك الوقت.

وسافر وهبي إلى إيطاليا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، وتتلمّذ على يد الممثل الإيطالي كيانتوني، وعاد إلى مصر في عام 1921، وبعد وفاة والده، حصل على ميراثه عشرة آلاف جنيه ذهبية بالتساوي مع أشقائه الأربعة، وانضم للعمل في فرقتي حسن فايق وعزيز عيد كبداية لحياته الفنية على سبيل الهواية وليس الاحتراف.

وتعثرت أولى خطواته مع تلك الفرق المسرحية، وأغلقت أبوابها بعد تعرضها لأزماتٍ مالية، واضطر الشاب الثري إلى السفر مجدداً إلى إيطاليا، وبعد عدة شهور عاد إلى وطنه مرة أخرى، وقرّر أن يستثمر أمواله في تأسيس فرقة مسرحية مع الفنانين عزيز عيد ومختار عثمان، وتحقيق مشروعه الفني للارتقاء بالمسرح المصري، وانتشاله من هاوية العروض الهزلية السائدة في ذلك الوقت.

مسرح رمسيس

أسس يوسف وهبي فرقة رمسيس المسرحية مع عدد من الممثلين الكبار مثل عزيز عيد، ومختار عثمان، وحسين رياض، وأحمد علام، وفتوح نشاطي، وزينب صدقي، وأمينة رزق، وفاطمة رشدي، وعلوية جميل، واُفتُتِحت أولى عروض الفرقة بمسرحية «المجنون» على مسرح «راديو» بالقاهرة في 10 مارس 1923.

وكانت معظم مسرحيات الفرقة مقتبسة من أعمال عالمية لكبار الكُتَّاب مثل شكسبير وموليير وإبسن، ويعتقد البعض أن يوسف وهبي هو الذي أدخل فكرة دقات المسرح قبل رفع الستار التي لم تكن معروفة إلا في أكبر المسارح في العالم.

وقدّمت الفرقة عدداً كبيراً من المسرحيات، وصل إلى أكثر من 300 مسرحية، ونقل وهبي بعضها إلى شاشة السينما مثل «كرسي الاعتراف»، و«راسبوتين»، و«المائدة الخضراء»، و«بنات الشوارع»، و«أولاد الفقراء»، و«بيومي أفندي».

وبظهور تلك الأعمال على الشاشة البيضاء، تمكَّن يوسف وهبي من توثيق العديد من مسرحيات فرقة رمسيس، بينما اندثرت أعمال الفرق المسرحية الأخرى، وبعد ظهور التلفزيون في الستينيات من القرن الماضي، قدّم وهبي بعض أعماله السابقة، وفي المقابل قُدِّمت بعض أعمال نجيب الريحاني بعد رحيله، وقام بأدواره الفنان عادل خيري.

تقاليد مسرحية

اهتم يوسف وهبي بتوعية جمهور المسرح، وتغيير الاهتمام بالمسرح الهزلي إلى الاهتمام بالفن والمسرح الجاد، ووضع بعض التقاليد الصارمة منها منع التدخين في قاعات العرض، واحترام مواعيد رفع الستار، والتزام الممثل بالنص، وتنفيذ تعليمات المخرج، وهو ما دفع الحكومة إلى تكليفه في عام 1933 بتشكيل فرقتها المسرحية التي كانت نواة «المسرح القومي» لاحقاً.

وقد اتجه بجانب تمثيله الأدوار الرئيسية في مسرحياته إلى التأليف والإخراج، وقام بتأليف 60 مسرحية، وأخرج 185 أخرى، واستهدف من خلال أعماله نشر الوعي الاجتماعي ونقد سلبيات المجتمع، منها مشكلات الزواج من أجنبيات، وأطفال الشوارع، وأبناء الخطيئة، والصراع بين الضمير والعاطفة، كما أنه عمد إلى محاربة الاستعمار والفساد.

واتسمت معظم مسرحيات الفرقة بالميلودراما، ما جعلها مختلفة عن المسرحيات التي قدَّمها الفنانون في ذلك الوقت أمثال نجيب الريحاني وعلي الكسَّار وغيرهما، وكانت تحمل الطابع الكوميدي الساخر أو المسرحيات الغنائية، بينما ارتكز مسرح رمسيس على روائع الأدب الفرنسي والإيطالي والإنجليزي، بما تحمله من قيمٍ إنسانية كالعدل والحرية.

وبعد بداية قوية في المسرح، دخل يوسف وهبي إلى السينما متأخراً قليلاً بسبب إعطائه المسرح الجزء الأكبر من اهتمامه، وغلب على أدائه التمثيل المسرحي، وقدّم ثلاثة أفلام من تأليفه، منها «ليلى بنت مدارس»، وقام بإخراج فيلم «غرام وانتقام»، ولعب دور العاشق صغير السن، رغم أنه كان قد بلغ من العمر في ذلك الوقت السادسة والأربعين.

سفير جهنم

وقدّم يوسف وهبي مسرحية «سفير جهنم» لفرقة رمسيس في عام 1942، من تأليفه وإخراجه وبطولته مع أمينة رزق، وفاخر فاخر، وعبدالعزيز أحمد، وفكرة العمل مأخوذة من مسرحية «فاوست» لغوته، التي تبرز فكرة التحالف مع الشيطان من أجل تحقيق الأحلام.

وقد برع بشدة في تجسيد شخصية «الشيطان»، واتسم أداؤه التمثيلي بالصوت القوي والبُعد عن الأداء الواقعي المتعارف عليه فيما بعد، وذلك لانعدام التقنيات والميكروفونات في ذلك الوقت، ولم يكن تصميم المسارح يسمح بتوصيل الصوت إلى آخر القاعة، عدا في المسرح القومي الذي صممه إيطاليون بأسلوب خاص، وكانت تلك المبالغة في الأداء مناسبة لطبيعة شخصية «الشيطان» لتوصيل أثر هذه الشخصية في المتفرج وإظهار انفعالاتها المتباينة.

ودارت المسرحية حول الشيطان الذي يظهر لأسرةٍ فقيرة ويفرق بين أفرادها عن طريق إعطائهم المال الذي أنساهم طريق الاستقامة، وظنوا أن المال سيعوِّض لهم الحرمان، ليكتشفوا أن الشيطان وضع المال في طريقهم ليسحبهم إلى طريق الضلال.

قدّم وهبي ذات المسرحية من خلال فيلم سينمائي عام 1945، من تأليفه وإخراجه وبطولته مع ليلى فوزي، وفردوس محمد، وفؤاد شفيق، وفاخر فاخر، وغيرهم. وأصبحت شخصية «الشيطان» علامة فارقة في مسيرة هذا الفنان، كواحد من أهم أعلام المسرح في الوطن العربي.

وأصبح «زي الشيطان» أحد مقتنيات يوسف وهبي الخاصة، ويحتفظ بها متحف المركز القومي للمسرح تخليداً لهذا الفنان العملاق، الذي كرَّس حياته لخدمة المسرح العربي بفنه الراقي، ولا يزال اسمه عالقاً في أذهان الجميع حتى الوقت الراهن.

ميلاد النقد المسرحي

أسهمت فرقة رمسيس في ميلاد النقد المسرحي بمصر، وتزامن مع أول عروض الفرقة، وجعلت أهم الصحف تخصص له صفحات وأبواباً وأعمدة ثابتة، وبدأ جمهور المسرح يقرأ نقداً مسرحياً، وتناولت تلك المقالات عروض فرقة يوسف وهبي، وفاقت في عددها المقالات المنشورة عن أعمال الفرق المسرحية الأخرى، مثل فرق «أولاد عكاشة» و«نجيب الريحاني» و«علي الكسَّار».

وبفضل عروض فرقة رمسيس، ظهرت أجيال من نقاد المسرح، ونال أداء يوسف وهبي قدراً كبيراً من التحليل النقدي، ودخل في سجال مع أحد النقاد حين اتهمه بالمبالغة في تجسيد شخصية «الدكتور رودلف» بمسرحية «المجنون» وبقية الممثلين، منهم عزيز عيد، وروز اليوسف، وفاطمة رشدي، وحسين رياض، واستيفان روستي، وأحمد علام.

وأدى هذا الحراك النقدي إلى الاهتمام بفن المسرح، وتغيير وجهة النظر السائدة آنذاك عن التمثيل، وتراجعت كلمة «المشخصاتي» بما تعنيه من ازدراء لتلك المهنة، ولاحقاً نال يوسف وهبي لقب «بك» تقديراً لإبداعه، وحاز ذات اللقب الفنان سليمان نجيب، وأصبح فنانو المسرح والسينما محل تقدير واحترام المجتمع.

واستمر نجاح فرقة رمسيس، وتحمس كبار الكُتَّاب لمتابعة مسرحياتها بالنقد والتحليل، ومنها مسرحية «غادة الكاميليا» وقام الكاتب الوطني الشهير محمد توفيق دياب بكتابة مقالتين متتاليتين عنها - نشرتهما جريدة السياسة في يومي 26 و27 مارس 1923، وقال: «لكل من شهد أمس رواية غادة الكاميليا، تمثل على مسرح رمسيس، أن يقول بحق: إن في مصر اليوم فناً جميلاً، بعثه من رقدته جماعة من شباب مصر الحديثة، بعد أن عانوا في سبيل إحيائه ما عانوا من جهود ونفقات. يخيل إليك لولا أن اللغة عربية، وأن الجموع التي حولك جموع مصرية، إنك بباريس، تشهد تمثيل تلك الرواية الرائعة في أحد مسارحها».

ويعد الناقد محمد عبدالمجيد حلمي أكثر من كتب عن عروض فرقة رمسيس، وبلغت حوالي 28 مقالة، وكان أول من وجه نقداً إلى الجمهور، قائلاً: «أقول كلمة عن الجمهور الذي يحضر التمثيل، فإن المسرح ليس مكاناً للهذر ولغو الكلام، والألفاظ البذيئة التي تبدو من النظارة أثناء التمثيل. ويؤلمني جداً أن أرى كل تلك المشاغبات تحدث من أصحاب الألواج والبناوير، ولهؤلاء نقول: إن الأفضل لهم أن يقضوا سهراتهم في مكان آخر، حيث يتسع لهم المجال. أما دور التمثيل فلها آدابها وعليهم احترامها».

مكتشف النجوم

وقام يوسف وهبي باكتشاف العديد من النجوم، منهم أنور وجدي فتى الشاشة الأول في الأربعينيات والخمسينيات في القرن الماضي، وكان يقف بالساعات في كواليس مسرح فرقة رمسيس في انتظار وهبي، على أمل أن يوافق على ضمه للفرقة، وتوسط له ريجيسير الفرقة قاسم وجدي، وأصبح أنور مساعداً لوهبي، يسلم مواعيد العروض والبروفات للفنانين. وبعد وقت قصير شارك وجدي في العروض المسرحية بأدوار صامتة في البداية، ثم كومبارس متكلم، وبأدوار ثانوية، وكان أول ظهور له في مسرحية «يوليوس قيصر» عام 1922، نظير أجر شهري أربعة جنيهات، ومكنه يوسف وهبي من الحصول على غرفة مشتركة ليسكن فيها مع رفيق البدايات الفنان عبدالسلام النابلسي.

واستعان به يوسف وهبي في عدد من الأفلام، التي كان يقوم بإنتاجها وإخراجها وتأليفها وتمثيلها، وأسند له بعض الأدوار الثانوية، منها فيلم «أولاد الذوات» عام (1932)، و«الدفاع» (1935)، و«ليلي بنت الريف» (1941)، و«غرام وانتقام» (1944).

ومن المواقف الطريفة أن وجدي أثناء عمله في فرقة رمسيس، تلقى صفعة قوية على وجهه من يوسف وهبي، حين تأخر في نقل قطعة ديكور في إحدى المسرحيات بوصفه عامل أكسسوار، وتكررت أخطاؤه حتى خصم منه وهبي 15 جنيهاً، وبعد أكثر من ربع قرن أنتج وجدي فيلم «غزل البنات»، الذي استعان فيه بوهبي نظير أجر ألف جنيه، لكنه أعطاه 985 فقط، مذكراً إياه بمبلغ الخصم.

وأسهم وهبي في اكتشاف فاتن حمامة، وكان والدها وكيل المدرسة السعيدية الثانوية التي يدرس بها ابن شقيقه، وعندما علم أن عمه يوسف وهبي، أبلغه برغبة ابنته في التمثيل، وبالفعل اصطحبها معه، وأشركها في فيلم «ملاك الرحمة» وساعدها على إتقان التمثيل حتى أصبحت من أهم نجمات السينما المصرية.

كان ليوسف وهبي دور كبير في ظهور فريد شوقي، حين ضمه إلى فرقة رمسيس، ولعب دور كومبارس في عدد من مسرحياتها، كما كان أول ظهور له على شاشة السينما في فيلم «ملاك الرحمة»، ومهَّد هذا الفيلم الطريق لفريد شوقي لينطلق في عالم السينما والمسرح ويقدم طوال حياته الفنية 380 عملاً فنياً.

واستمرت رحلة الممثل العملاق، وظل عاشقاً للمسرح، وكانت آخر جملة أنهى بها مسيرته الفنية عندما قبل طلب المخرج الراحل كرم مطاوع، بأن يشارك في مسرحية «الحسين ثائراً» كما لو كان مجرد كومبارس، وقام بدور «وحشي» قاتل حمزة عم الرسول الكريم، أما الجملة فهي: «وقتلت حمزة في أُحُد ودخلت في الإسلام... لم يصافحني الرسول»، ورغم ذلك نال تصفيق واستحسان الجمهور، تقديراً لقبوله الظهور على خشبة المسرح لدقائق معدودة.

ورحل يوسف وهبي في 17 أكتوبر عام 1982 بعد دخوله المستشفى إثر إصابته بكسرٍ نتيجة سقوطه، وتوفي في أثناء العلاج وكان إلى جواره عند وفاته زوجته وابنه، وقد ودعه محبو فنه بعد حياة حافلة بالإبداع انتهت برصيد هائل من الأعمال الفنية الخالدة، وتخليداً لذكراه تكوَّنت في مسقط رأسه بمدينة الفيوم (جنوبي القاهرة) «جمعية أصدقاء يوسف وهبي»، وأقيم له تمثال أمام مقر هذه الجمعية بحي الجامعة في الفيوم على رأس الشارع الذي يحمل اسمه.

جوائز ومناصب

- منحه الملك فاروق الأول رتبة البكوية.

- نال وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى في عهد الرئيس جمال عبدالناصر عام 1960.

- حصد جائزة الدولة التقديرية عام 1970.

- انتخب نقيباً للممثلين، وعمل مستشاراً فنياً للمسرح بوزارة الإرشاد.

- حاز جائزة الدولة التقديرية والدكتوراه الفخرية في عام 1975 من الرئيس المصري الراحل أنور السادات.

- منحه بابا الفاتيكان وسام «الدفاع عن الحقوق الكاثوليكية»، وهو أول مسلم يحصل على هذه الجائزة.

أحمد الجمَّال

ابن الباشا يعمل مصارعاً وممثلاً في «سيرك الحاج سليمان»

عاشق التمثيل يتتلمذ على يد الفنان الإيطالي كيانتوني

«المجنون» يرفع الستار على أولى مسرحيات فرقة رمسيس

عميد المسرح يكتشف موهبة فاتن حمامة وفريد شوقي

أعماله التراجيدية أسهمت في ظهور أجيال من نقَّاد المسرح

متحف المركز القومي للمسرح يخلد ذكراه بزي «الشيطان»
back to top