خدعة بوتين النووية

نشر في 25-03-2022
آخر تحديث 25-03-2022 | 00:01
يرى محللون أن العقيدة النووية الروسية لا تدعو إلى حماية البلد، بل إنها تستعمل تكتيكاً أكثر عدائية اسمه «التصعيد لمنع التصعيد» و«التصعيد لتحقيق الفوز»، ووفق هذه النظرية قد تفجّر روسيا سلاحاً نووياً لإثبات قوتها وإجبار خصومها على التراجع إذا أصبحت معرّضة للخسارة في أي حرب تقليدية.
تَقِلّ الحروب التي ترافقت مع تهديدات نووية بقدر الغزو الروسي لأوكرانيا، حتى أنها شبه معدومة، فقبل أسبوع على بدء هذا الهجوم، نفّذت موسكو تدريبات كانت قد خططت لها لأنظمة الإطلاق النووية الروسية، وبعد مرور بضعة أيام، اتّهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا عن غير وجه حق بتصنيع أسلحة نووية، وعند بدء الغزو، حذر بوتين الدول الخارجية التي تقف في وجه روسيا من "عواقب غير مسبوقة في تاريخها"، وهو تهديد نووي مقنّع، وبعد بدء القتال، هاجم الجيش الروسي منشآت نووية أوكرانية واستولى عليها بعد مزاعمه الخاطئة حول رغبة كييف في إنتاج قنابل إشعاعية. وعندما بدأت القوات الروسية تواجه مقاومة قوية، أعلن بوتين وضع قوات الردع الروسية التي تشمل أسلحتها النووية الخاصة في "نظام خاص للخدمة القتالية"، ثم حصلت سلسلة أخرى من التدريبات التي كانت روتينية على الأرجح لكنها تبقى لافتة.

تملك روسيا ترسانة متنوعة من الأسلحة النووية الصغيرة والكبيرة، وقد ناقش المفكرون النوويون الغربيون الاستخدام النووي كطريقة لإثبات القوة والضغط على الخصوم. لا مفر من تصاعد مخاطر الحرب النووية إذا تورطت قوات حلف الناتو في الغزو مباشرةً لأن الحرب مع الحلف تُهدد سيادة روسيا ووجودها من وجهة نظر موسكو.

يُفترض أن تتابع القوى الغربية مساعدة أوكرانيا وتحاول إقناع موسكو بعكس مسارها والتوصل إلى تسوية يتم التفاوض عليها مع كييف، شرط أن تضمن أمن أوكرانيا، لكن في حين تتناقش الدول الغربية حول تأمين كميات جديدة من الأسلحة وطرق التواصل، يجب أن تدرك المخاطر المطروحة وتتجنب توسّع الصراع تدريجاً، فإذا عرض الناتو مساعدة مباشرة على أوكرانيا، فسيجازف بالتورط في حرب ضد روسيا رغم إصراره على تجنّب هذه النتيجة.

لا يسهل تخمين المعنى الحقيقي لمواقف بوتين النووية، فقد تمسّك الرئيس الروسي بمواقف غامضة عمداً لإبقاء الغرب على أعصابه، ولا تتمحور تصريحاته أصلاً حول الأسلحة النووية وحدها رغم نبرة التهديد التي تحملها. تقول روسيا إن "قوات الردع" الروسية تشمل ترسانتها النووية، بالإضافة إلى أنظمتها التقليدية الخاصة بالضربات البعيدة المدى، علماً أن بعضها بدأ يُستعمَل منذ الآن في أوكرانيا، كما لم يسبق أن استُعمِلت عبارة "نظام خاص للخدمة القتالية"، لكنها لا تشير على ما يبدو إلى تغيّر جدّي في موقف روسيا النووي، وحين شرح وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، تفاصيل هذه الخطوة، قال إنها تترافق مع زيادة الموظفين في مراكز قيادة القوة الاستراتيجية النووية الروسية، مع أن هذه المراكز تشمل عدداً كبيراً من الموظفين أصلاً. بعبارة أخرى، لا يحمل هذا التصريح معنىً مهماً.

إذا قررت روسيا تفجير أسلحة نووية كجزءٍ من الغزو، فسيتعارض قرارها مع عقيدة الدولة الرسمية والخطط النووية التي أعلنها بوتين، تذكر الحكومة في "أسس سياسة دولة الاتحاد الروسي في مجال الردع النووي" أنها لن تستخدم الأسلحة النووية إلا إذا أصبح وجود الدولة الروسية مُهدداً أو إذا أصبحت قدرات الردع النووي الروسي بخطر، فشدّد بوتين على سيناريو محدد قائلاً إن روسيا قد تستعمل الأسلحة النووية إذا تعرّضت لهجوم صاروخي، لكن حتى أكبر الخسائر في أوكرانيا لن تصل إلى هذه العتبة في مطلق الأحوال.

تبقى العقائد عرضة للتأويل طبعاً، وربما اعتبر بوتين ومستشاروه العقوبات الحادة ضد روسيا وتطورات الغزو الشائك تهديداً على وجود البلد، لا سيما في ظل تصاعد التكاليف المترتبة عليهم، كذلك، قد يساوي بوتين بين الدولة الروسية ودوره القيادي، علماً أن العقوبات الغربية وأي هزيمة في أوكرانيا قد تُهدد مكانته، ويملك بوتين أيضاً دوافع شخصية كثيرة لتجنب خسارة منصبه، كما يدعو كبار السياسيين الغربيين إلى إسقاط المسؤولين الروس، بما في ذلك الرئيس، واتّهامهم بارتكاب جرائم حرب في لاهاي، وقد فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً بالتحركات الروسية.

لكن لا يواجه بوتين في الوقت الراهن أي تهديدات جدّية على سلطته، ولن تخسر روسيا في ساحة المعركة، فرغم المقاومة الأوكرانية القوية، يتابع الجيش الروسي تقدّمه البطيء نحو المدن الأوكرانية الكبرى، ولا يزال يحتفظ بقوته القتالية التقليدية الهائلة ويستطيع استعمالها لتدمير أهداف عسكرية ومدنية في آن، واستناداً إلى مسار الصراع اليوم، لن يُحقق استعمال الأسلحة النووية أي أهداف عسكرية بل إنه سيؤجج الرعب والصدمة بكل بساطة، وتستطيع روسيا نشر هذه الأجواء بطرق أخرى، إذاً تهدف المواقف النووية الراهنة إلى منع أي تورط غربي مباشر في الصراع، بما في ذلك الدفاع عن المجال الجوي الأوكراني عبر فرض منطقة حظر جوي، أو إجبار كييف على تقديم التنازلات على طاولة المفاوضات.

إذا تعرّضت روسيا للهزيمة، فقد تُجبر أوكرانيا على التنازل عبر توجيه ضربة نووية، لكن من المستبعد أن تحمي هذه الخطوة روسيا في نهاية المطاف أو تساعد بوتين وحلفاءه على البقاء في السلطة، بل إن التسرب الإشعاعي المشتق من ذلك الهجوم قد يمتد على مئات الأميال أو أكثر، وقد يصل إلى روسيا نفسها ودول الناتو، وهذا الوضع قد يُهدد مكانة بوتين محلياً، إذ لن يكون تسميم الشعب جماعياً وصفة مناسبة لتحقيق النجاح السياسي، وفي المقابل، قد يعتبر حلف الناتو هذا الحدث هجوماً ضده، فيتورط في الصراع بطرقٍ تقليدية، وهو الوضع الذي تريد روسيا تجنّبه منذ البداية (تدرك الحكومة الروسية أنها ستخسر الحرب أمام الناتو).

لكنّ تراجع المخاطر المحتملة لا يعني انعدام المخاطر بالكامل، ويظن عدد كبير من المحللين الغربيين أن الكرملين بات مستعداً لاستعمال الأسلحة النووية أكثر مما يوحي به في مواقفه العلنية، حيث يملك البلد ترسانة فيها نحو ألفَي سلاح نووي غير استراتيجي، ولا تدخل هذه الأسلحة على ما يبدو في إطار الاستجابة فحسب بل إنها مُصمّمة لزمن الحرب.

برأي هؤلاء المحللين، بما في ذلك خبراء في الحكومة الأميركية، لا تدعو العقيدة النووية الروسية إلى حماية البلد بكل بساطة، بل إنها تستعمل تكتيكاً أكثر عدائية اسمه "التصعيد لمنع التصعيد" و"التصعيد لتحقيق الفوز"، ووفق هذه النظرية، قد تفجّر روسيا سلاحاً نووياً لإثبات قوتها وإجبار خصومها على التراجع إذا أصبحت معرّضة للخسارة في أي حرب تقليدية.

لكن من المستبعد أن ترتكز استراتيجية موسكو النووية على هذه المقاربة، فإذا استعملت روسيا الأسلحة النووية لإثبات قوتها فعلاً، فلن يحصل ذلك للفوز في صراع تقليدي أصغر حجماً بل إنها قد تلجأ إلى هذه الخطوة حين ترصد خطراً وجودياً عليها، ويصعب أن يصدر هذا الشكل من التهديدات من أوكرانيا، لكن قد يصبح استعمال الأسلحة النووية الروسية ممكناً إذا شعرت موسكو بأن تورط حلف الناتو العسكري المباشر بات حتمياً، ويظن الكرملين أن الغرب سيستهدف قيادة روسيا ويضرب قدراتها النووية مسبقاً إذا اندلعت حرب بين الناتو وروسيا، حيث تتماشى هذه الظروف طبعاً مع جميع معايير العقيدة الروسية التي تسمح باستخدام الأسلحة النووية، حتى أنها قد تدفع موسكو إلى إطلاق أول قنبلة.

في حال وقوع صراع مماثل، قد يحاول الغرب إقناع الكرملين بأن أهدافه محدودة، لكن يصعب تحقيق هذه الغاية تزامناً مع احتدام الحرب، وحتى لو لم يندلع أي صراع ناشط بين الحلف وموسكو، يتعامل بوتين مع الناتو بعدائية شديدة، فقد أدانه بقوة بعدما أقدم على تسليح أوكرانيا، ووضع العقوبات المالية الغربية في خانة "العمل الحربي"، وأعلن أنه سيعتبر أي بلد يسمح للطائرات الأوكرانية بالهبوط على أراضيه "طرفاً من الصراع"، وعلى غرار تهديداته النووية العامة، تهدف هذه المواقف كلها إلى ردع الأطراف الأخرى، لكنها تعكس أيضاً وجهة نظره الحقيقية، وتُشدد هذه التصريحات، إلى جانب العقيدة النووية الروسية وموقف الكرملين العدائي، على أهمية تجنّب أي صراع مباشر بين الناتو وروسيا.

يجب أن يتوخى الغرب الحذر إذاً في طريقة تعامله مع الغزو المتواصل، ويُفترض أن تتابع الدول الأعضاء تزويد أوكرانيا بالإمدادات كي تتمكن من الدفاع عن نفسها، لكن يجب ألا يفرض الناتو "منطقة حظر جوي" فوق أوكرانيا لأن هذه الخطوة تستلزم استخدام القوة الجوية الغربية أو التهديد باستعمالها لمنع الطائرات الروسية من التحليق في المجال الجوي الأوكراني، مما يعني احتمال وقوع قتال عسكري مباشر بين قوات الناتو وروسيا، وفي الوقت نفسه، يجب أن تبطئ هذه الدول خططها الرامية إلى تقديم معدات مثل الطائرات المقاتلة لأنها قد تتطلب استعمال مطاراتها الخاصة، ويجب أن تتعهد بتخفيف العقوبات القديمة والجديدة إذا أوقفت روسيا تصعيد الوضع وسحبت قواتها العسكرية.

قد لا تكون هذه التنازلات والخطوات الحذرة مُرضِية من الناحية العاطفية، إذ تكثر الدعوات المؤيدة للاقتراحات التي تُشجّع قوات الناتو على مساعدة أوكرانيا مباشرةً، لكن قد تؤدي هذه الخطوات إلى زيادة المخاطر بطريقة جذرية، فتتوسّع الحرب أو تتحول إلى صراع نووي، ويجب أن يرفض الغرب هذه الاقتراحات بشكلٍ قاطع لأنها تبقى الأخطر على الإطلاق.

* أولغا أوليكر

فورين أفيرز

بوتين شدّد على سيناريو محدد مفاده أن روسيا قد تستعمل الأسلحة النووية إذا تعرّضت لهجوم صاروخي لكن حتى أكبر الخسائر في أوكرانيا لن تصل إلى هذه العتبة

رغم المقاومة الأوكرانية القوية يتابع الجيش الروسي تقدّمه البطيء نحو المدن الأوكرانية الكبرى ولا يزال يحتفظ بقوته القتالية التقليدية الهائلة
back to top