عودة إلى عصر «السلام الأميركي»!

نشر في 25-03-2022
آخر تحديث 25-03-2022 | 00:00
الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان
الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان
عجز الأميركيون وحلفاؤهم عن منع روسيا من ترهيب أوكرانيا، لكنهم ما زالوا قادرين على الفوز بالمعركة الكبرى التي تهدف إلى إنقاذ النظام الدولي، لقد فضح الغزو الروسي الوحشي حجم الفجوة بين الطموحات الليبرالية المتوسّعة في الدول الغربية والموارد الشحيحة التي تُخصّصها للدفاع عنها، فقد أطلقت الولايات المتحدة منافسة كبرى بين القوى العظمى، مع موسكو وبكين هذه المرة، لكنها فشلت حتى الآن في جمع الأموال أو تحسين الابتكارات أو اتخاذ الخطوات المُلحّة للتفوق في هذه المنافسة، ومع ذلك يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتجه عن غير قصد إلى إسداء خدمة هائلة للأميركيين وحلفائهم، فهو صدمهم بتحركاته وأخرجهم من جمودهم ومنحهم فرصة تاريخية لتوحيد الصفوف مجدداً والاستعداد لحقبة من المنافسة المحتدمة، لا مع روسيا فحسب، بل مع الصين أيضاً، فقد تُمهّد هذه الظروف لإعادة بناء نظام دولي كان في طريقه إلى الزوال في الفترة الأخيرة.

هذا الهدف ليس مجرّد وهم، فقد سبق أن تحقق في الماضي، وفي أواخر الأربعينيات، كان الغرب يتجه أيضاً لخوض منافسة بين القوى العظمى، لكنه لم يطلق المبادرات أو الاستثمارات اللازمة للفوز بها، كان الإنفاق الدفاعي الأميركي غير مناسب بأي شكل، ونشأ حلف الناتو على الورق حصراً، ولم تكن اليابان أو ألمانيا الغربية جزءاً من العالم الحر بعد، وبدا زخم الكتلة الشيوعية قوياً، لكن في يونيو 1950، أدى عدوان استفزازي غير مبرر (الحرب الكورية) إلى إحداث ثورة حقيقية في السياسة الغربية ومهّد لإطلاق استراتيجية احتواء ناجحة، كانت السياسات التي سمحت بالفوز في الحرب الباردة ثم أنشأت النظام الدولي الليبرالي المعاصر نتاج حرب محتدمة وغير متوقعة، فقد تعطي الكارثة الراهنة في أوكرانيا الأثر نفسه اليوم.

قد يكون تحرك بوتين العدائي فرصة استراتيجية للأميركيين وحلفائهم، ويجب أن تتبنى الديموقراطيات الآن برنامجاً واسعاً ومتعدد الأطراف لإعادة التسلح وتزيد قوة دفاعاتها في المجال العسكري وسواه للتصدي للموجة المرتقبة من العدوان الاستبدادي، كذلك، يجب أن تستغل هذه الديموقراطيات الأزمة الراهنة لإضعاف قدرة الحكام المستبدين على استعمال أساليب الإكراه والتخريب، وتُعمّق التعاون الاقتصادي والدبلوماسي بين الدول الليبرالية حول العالم، ويشير غزو أوكرانيا اليوم إلى بدء مرحلة جديدة من صراع محتدم لرسم معالم النظام الدولي، ولن يحصل العالم الديموقراطي على فرصة أفضل لتحقيق هدفه.

جاء الغزو الروسي الأخير لينسف عدداً كبيراً من الخرافات السابقة، وفجأةً، لم تعد الحرب بين القوى العظمى محتملة بل أصبحت شبه مؤكدة، كذلك، أعاد صانعو السياسة الغربية اكتشاف أهمية القوة الصلبة وبدؤوا يصدّقون طموحات بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ حرفياً، وفي غضون ذلك، أصبحت الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة تستطيع التركيز على الصين تزامناً مع إقامة علاقات "مستقرة ومتوقعة" مع روسيا سخيفة لأن التوافق الصيني الروسي قد يغيّر ميزان القوى على جانبَي أوراسيا في الوقت نفسه، ونتيجةً لذلك، أصبحت الخطوات التي اعتُبِرت مستحيلة في السابق قيد التنفيذ، منها تسريع إعادة التسلح في ألمانيا واليابان، ونقل الأسلحة من الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا، وعزل قوة عظمى اقتصادياً بشكل شبه كامل.

لم تستطع الخطوات الغربية أن تمنع تحرك بوتين العدائي لأنها بدأت في مرحلة متأخرة، لكنها تحصل على الأرجح في الوقت الذي يسمح بترسيخ تحالف عالمي يجمع بين الديموقراطيات ضد روسيا والصين ويضمن أمن العالم الحر خلال الجيل المقبل، وللاستفادة من هذه المرحلة المفصلية بأفضل طريقة، يجب أن يستخلص الأميركيون وحلفاؤهم ثلاثة دروس أساسية من الحرب الكورية.

أولاً، لا بد من توسيع آفاق التحليلات. لم يحصر الرئيس الأميركي آنذاك هاري ترومان ردّه على عدوان كوريا الشمالية في شبه الجزيرة الكورية أو حتى آسيا، بل إنه سعى إلى تقوية العالم الحر ككل، واليوم يترافق العدوان الروسي مع احتمالات مشابهة، فهو يزيد الانقسام بين الديموقراطيات التي تدعم النظام الليبرالي والأنظمة الاستبدادية القوية التي تحاول تدميره، ويعتبر ثمانية أشخاص من كل عشرة سكان في الولايات المتحدة أزمة أوكرانيا جزءاً من معركة كبرى في سبيل الديموقراطية العالمية، وعلى المدى القصير، قد تُبعِد الأزمة القائمة في أوروبا أنظار واشنطن عن منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، لكن على المدى الطويل، يستطيع الأميركيون وحلفاؤهم الاستفادة من الاستياء الذي أثارته موسكو للتعامل بصرامة مع بكين، ويجب أن يتعلق الهدف الأميركي الشامل ببناء تحالف إقليمي بين الديموقراطيات لمواجهة روسيا والصين وإقناعهما بأن العدوان المحلي ينتج ردة فعل عالمية سريعة ومدمّرة.

ثانياً، يتطلب الوضع تحركات سريعة، فقد كان ترومان يعرف أن لحظات التضامن بين الحلفاء والوحدة الداخلية قد تكون عابرة، لذا سارعت إدارته إلى تحضير استراتيجية احتواء شاملة خلال أشهر، حيث يقول العالِم السياسي روبرت جيرفيس: "بحلول عام 1951، اتضحت جميع العوامل التي ربطناها بالحرب الباردة أو أصبحت وشيكة"، واليوم يجب أن يستفيد الأميركيون وحلفاؤهم من التحالف الناشئ للتعامل مع الأزمة الأوكرانية ويستعدوا لاستعمال التحالف نفسه مجدداً ضد الصين.

يمكن تحويل الشراكات التي منعت روسيا من الوصول إلى النظام المالي العالمي والتقنيات الأساسية مثلاً إلى نموذج لفرض عقوبات مشابهة ضد الصين إذا أقدمت على غزو تايوان، كذلك، يُفترض أن تتوسّع الجهود المستمرة لتخفيف اتكال أوروبا على الطاقة الروسية وتتحول إلى حملة شاملة لفصل اقتصادات العالم الحر عن روسيا والصين في مجالات محورية مثل التقنيات المتقدمة، والعناصر الأرضية النادرة، والإمدادات الطبية العاجلة، ومن الضروري أن تنشأ تحالفات تكنولوجية متداخلة حيث تجمع الديموقراطيات الأموال والموارد للتفوق في مجالات أساسية مثل أشباه الموصلات أو الذكاء الاصطناعي، تزامناً مع حرمان الأنظمة الاستبدادية من أهم المدخلات والرساميل.

تتمحور هذه المقاربة حول استعداد الولايات المتحدة لإعادة الانضمام إلى "اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ" باعتبارها أفضل نموذج عن المبادرات التي أثبتت أهميتها الاستراتيجية وتترافق مع تراجع التكاليف السياسية مقابل ارتفاع ثمن الجمود، وإذا لم تُضيّع الديموقراطيات هذه الفرصة، فقد تُمهّد الأزمة الأوكرانية في نهاية المطاف لنشوء كتلة اقتصادية محصورة في العالم الحر، مما يُصعّب على الأنظمة الاستبدادية استمالة الآخرين أو ترهيبهم.

لكن تتوقف القوة الاقتصادية عند هذا الحد، لذا يحتاج العالم الديموقراطي أيضاً إلى برنامج سريع ومتعدد الأطراف لإعادة التسلح وتحسين التوازن العسكري الذي بدأ يتآكل في أوروبا ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وتسمح هذه الخطوة بتحسين طريقة نشر القوات المدجّجة بالسلاح، لا سيما المدرعات والقوة الجوية في شرق أوروبا ومجموعة من الرماة وأجهزة الاستشعار في غرب المحيط الهادئ، لتحويل حملات الاستيلاء على الأراضي إلى مستنقعات دموية مطوّلة، كذلك، ثمة حاجة مُلحّة إلى تعزيز الخطط المتعلقة بتفاصيل العمليات التي تسمح للأميركيين وأبرز حلفائهم، مثل أستراليا واليابان، بالرد على أي عدوان صيني، وفي غضون ذلك، يجب أن يسمح الأميركيون وحلفاؤهم بنقل الأسلحة إلى دول المواجهة المحتملة، مثل بولندا وتايوان، شرط أن تلتزم هذه البلدان بزيادة كبرى في إنفاقها الدفاعي وتتبنّى استراتيجيات عسكرية مناسبة لكسب الوقت استعداداً لإطلاق رد متعدد الأطراف على نطاق أوسع.

تتطلب هذه الخطوات كلها أموالاً تجد الديموقراطيات صعوبة في جمعها في زمن السلم لكنها لا تتردد في إنفاقها حين تلوح الحرب في الأفق، ويجب أن تُخطط الولايات المتحدة لإنفاق نحو 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع خلال العقد المقبل (مقارنةً بـ3.2% اليوم) كي تتمكن من الرد على أي عدوان في منطقة معينة من دون تعريض نفسها للخطر في مناطق أخرى، ويُفترض أن يلتزم أهم الحلفاء على جانبَي أوراسيا بهذا النوع من الزيادات النسبية.

قد يكون الأميركيون وحلفاؤهم مضطرين للتحرك سريعاً، لكن يجب ألا يبالغوا في تحركاتهم أيضاً، فقد أدى تصعيد الصراع الكوري وتبنّي سياسة احتواء غير محدودة جغرافياً إلى توسّع مفرط ونتائج مأساوية، فثمة خط رفيع بين التحركات العاجلة والتهور.

يجب أن تتجنب واشنطن إذاً أي تدخل عسكري مباشر في أوكرانيا وتتجاهل الدعوات الحماسية لتغيير النظام في روسيا أو الصين، لأن العالم الديموقراطي يفتقر إلى القوة اللازمة لتحقيق هذا الهدف من دون تكبّد كلفة تفوق قدراته، وفي الوقت نفسه، يجب أن تبقى الولايات المتحدة انتقائية حين تُحدّد المجالات التي تستحق أعلى درجات التنافس مع موسكو وبكين: يحمل شرق أوروبا وشرق آسيا أهمية كبرى، على عكس آسيا الوسطى وإفريقيا. لكن يجب أن يتحلى الأميركيون وحلفاؤهم بالصبر قبل أي شيء آخر، فقد اعترف الرئيس ترومان في عام 1953 بأن الحرب الباردة لن تنتهي في أي وقت قريب، لكنه قال بكل وضوح: "لقد أطلقنا المسار الذي يضمن فوزنا في هذه الحرب". إنه معيار منطقي للسياسة الأميركية في بداية هذا العقد الجديد.

أخيراً، تستطيع روسيا أن تحتفظ بقدرتها على إحداث مشاكل جيوسياسية حتى لو تدمّر اقتصادها وأصبحت محاصرة عسكرياً، ومن المتوقع أن تصبح الصين من أقوى الخصوم خلال العقود المقبلة، حتى لو مُنِعت من تغيير ميزان القوى في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ وأماكن أخرى، كان هجوم العالم الحر خلال الحرب الكورية عبارة عن برنامج عاجل، لكنه أنتج منافع استراتيجية دائمة وكفيلة بتحديد نتيجة الحرب الباردة، فقد تعطي الأزمة الأوكرانية اليوم أثراً مشابهاً في خضم معركة شاقة وطويلة أخرى إذا شجّعت الأميركيين وحلفاءهم على الالتزام جدّياً بالدفاع عن النظام العالمي الذي حقّق مصالحهم بأفضل الطرق.

● مايكل بيكلي وهال براندز

● مايكل بيكلي وهال براندز

back to top