الولايات المتحدة لم تتوقع الأسوأ في السودان!

نشر في 11-03-2022
آخر تحديث 11-03-2022 | 00:00
لا تملك الولايات المتحدة اليوم نفوذاً كافياً لتغيير المسار السياسي في السودان وحدها، لاحتواء الجيش بالشكل المناسب، ويجب أن تضمن امتناع الصين أو بعض دول الخليج عن مساعدته، لكن هذه العملية تتطلب قيادة قوية والتزامات جدّية من كبار المسؤولين في الحكومة الأميركية، وإيماناً صادقاً باحتمال تحقيق النجاح.
حين نزل المحتجون المعارضون للحكومة إلى شوارع السودان في أواخر عام 2018 وبداية 2019، شاركوا في تحقيق هدف أميركي قديم لكنه صعب المنال: إسقاط رئيس البلد الفاسد والمستبد، عمر البشير، وبعد ثلاثة عقود من الحُكم القمعي والحرب الأهلية شبه الدائمة، سقط البشير من جراء انقلاب عسكري تزامن مع تظاهرات حاشدة، فتجدّد الوعد بنشوء نسخة إصلاحية وأكثر ديموقراطية من السودان، وتابع المواطنون حركتهم الاحتجاجية بعد الانقلاب، وسرعان ما نشأت حكومة انتقالية تتألف من قادة مدنيين وعسكريين لحُكم البلد طوال ثلاث سنوات، على أن تُنظَّم بعدها انتخابات ديموقراطية لتحديد مستقبل البلد السياسي.

لكن لم تحصل العملية الانتقالية السياسية في السودان بالشكل المُخطط له، وطوال سنتين وجد قادة البلد العسكريون والمدنيون صعوبة في التوفيق بين أولوياتهم داخل الحكومة الانتقالية، وفي أكتوبر 2021، سيطر الجيش على البلد بالكامل بعد إطلاق انقلاب آخر، لكن ردة فعل الولايات المتحدة كانت مُحبِطة ومربكة بالقدر نفسه، وبدل دعم القوى التي تنادي بالديموقراطية وحققت ما عجز عنه الأميركيون، أبعدت واشنطن نفسها عن هذه المسألة وأبدت تقديراً غريباً للقادة العسكريين الذين ينوون الحفاظ على هياكل السلطة الماضية في السودان، فلا يمكن نَسْب هذه المفارقة الواضحة إلى تغيّر المصالح الأميركية في السودان، بل تشتق هذه المواقف من المقاربة الأميركية التي تحمل طابعاً شخصياً مفرطاً: بعد تصميم السياسة الأميركية استناداً إلى الضغط على البشير و"حزب المؤتمر الوطني" على مر عقود عدة، تبدو الولايات المتحدة غير مستعدة للتعامل مع النظام السياسي الذي تركه وراءه، وهي تعجز عن تخيّل أي نظام مختلف.

بدا وكأن الانتفاضة التي بدأت في عام 2018 توشك على إحداث التغيير الذي أرادته واشنطن منذ فترة طويلة، فقد سقط البشير من السلطة في السنة اللاحقة وأصبح قيد الاحتجاز، ثم مررت الحكومة الانتقالية قانوناً يقضي بحل "حزب المؤتمر الوطني"، كما أنها فككت جهاز الاستخبارات التابع للبشير بعدما أسكت المعارضين بطرق وحشية وحمى أقوى أعضاء النظام.

لكن أثبت الجنرال عبدالفتاح البرهان، رئيس القوات المسلحة السودانية، عدم استعداده لتقاسم السلطة، وفي أكتوبر 2021، قرر البرهان إقالة رئيس الوزراء المدني عبدالله حمدوك، واعتقله مع أعضاء غير عسكريين من حكومته، وحلّ الحكومة الانتقالية، وشكّل حكومة جديدة بشكلٍ أحادي الجانب.

كانت ردة الفعل الأميركية الفاترة تجاه الاستيلاء على السلطة بهذا الشكل كفيلة بإحباط عدد كبير من الناشطين السودانيين الداعمين للديموقراطية، وامتنعت إدارة بايدن عن استعمال كلمة "انقلاب" في بياناتها التي تدين استيلاء الجيش على الحُكم ورفضت معاقبة البرهان والقادة العسكريين الآخرين، حتى أنها دعت إلى إخراج حمدوك من الإقامة الجبرية وتعيينه رئيساً للحكومة مجدداً، ودعمت العودة إلى نظام تقاسم السلطة الشائب، واعتبرت الفئات الداعمة للديموقراطية في السودان هذه التدابير غير مناسبة.

طوال أسابيع، سعى صانعو السياسة الأميركية إلى إعادة تعيين حمدوك، وكأن وجوده في الحكومة يرضي المتطلبات الديموقراطية الأميركية في السودان، مع أنه اعتُبِر عاجزاً عن إحداث أي تغيير بنظر الإصلاحيين والديمقراطيين، فأبرم حمدوك صفقة مع البرهان لاسترجاع منصبه في شهر نوفمبر، لكن اتّضح منذ البداية أنه لا يستطيع طرح نفسه كقوة مدنية ناجحة في وجه الجيش، ولهذا السبب، لم يتفاجأ أحد باستقالته في بداية نوفمبر، فقد كان واضحاً أن حريته تتماشى مع مصالح الجنرالات الذين يتابعون قتل المحتجين تزامناً مع إعادة إحياء عناصر من النظام القديم.

لكن السياسة الأميركية تجاه الحكومة الانتقالية الجديدة في السودان بدأت تُهمّش داعمي الإصلاح الديموقراطي الحقيقي قبل وقوع الانقلاب الأخير، وحذفت الولايات المتحدة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وأيّدت إزالة جزء من ديون الحكومة السودانية، لكنها تباطأت في تقديم الدعم المالي اللازم لتطبيق الإصلاحات البنيوية الضرورية من دون تضرر الشعب السوداني بالقدر نفسه، وخلال عهد دونالد ترامب، أبدت واشنطن أيضاً اهتمامها بتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان وعدد من دول الخليج أكثر من تصميم السياسة التي تناسب السودان، حتى أنها تملّقت بعض الدول العربية المعادية للديموقراطية بدرجة مفرطة.

وبدل الاستفادة من الزخم المتزايد في السودان لتطبيق الإصلاحات وإرساء الديموقراطية، بدت واشنطن بعيدة عن البلد في معظم مراحل العملية الانتقالية، حتى أنها امتنعت عن تعيين سفير أميركي في السودان حتى عام 2022، ولم يحصل الانقلاب في شهر أكتوبر بسبب تدابير معينة اتخذها صانعو السياسة الأميركية، بل إن خليطاً من الحذر والإهمال الأميركي تجاه المرحلة الانتقالية منح الجيش السوداني الوقت والمساحة لفرض سلطته على نطاق أوسع، وسرعان ما استنتج هذا الجيش أنه يستطيع الاستيلاء على جميع مقاليد السلطة بكل بساطة.

يتعلق جزء من مشكلة واشنطن بتركيزها المفرط على الشخصيات الفردية، ولو على حساب الأنظمة القائمة، ومثلما أعاق التركيز الأميركي على زعيم شائك واحد سياستها في عهد البشير، جعلها تركيزها على زعيم ضروري مثل حمدوك خلال الأسابيع الحاسمة تغفل عن واقعٍ بات واضحاً في الشارع السوداني: لن يتحمل الجيش أي سيطرة مدنية حقيقية على السلطة، وبرأي بعض صانعي السياسة الأميركية، كان إسقاط البشير التغيير الذي يحتاج إليه السودان، حتى لو بقي معظم النظام الذي بناه واستعمله على حاله، وبشكل عام يكون دعم تغيير القيادة أسهل بكثير من تأييد التعديلات البنيوية، وهو أكثر وضوحاً من العمليات الانتقالية الديموقراطية التي تشمل خليطاً متناقضاً من الأصوات والمصالح والطموحات.

أدى سقوط البشير إلى التخلص من مصدر إزعاج كبير للولايات المتحدة، فبدا أي بديل عنه مقبولاً في المرحلة اللاحقة، وكان بعض أعضاء الحكومة الانتقالية بغيضاً، لا سيما الزعيم شبه العسكري محمد حمدان دقلو، المسؤول عن عدد من أسوأ الأعمال الوحشية في دارفور وعن المجزرة بحق المحتجين المدنيين العزل في عام 2019، لكن مسؤولين آخرين، مثل البرهان، بدوا أقل سوءاً وأوحوا بأنهم قادرون على إرساء الاستقرار في تلك المنطقة المضطربة، كما حصل في عهد البشير، كان المسؤولون الأميركيون يستطيعون الاختيار بين الشخصيات السودانية إلى حين إيجاد محاورين مقبولين.

لكن لم يكن السودان يطرح مشكلة على الولايات المتحدة طوال عقود بسبب مجموعة من الشخصيات السامة في أعلى مراتب السلطة، وستكون محاسبة هؤلاء الأشخاص على أفعالهم خطوة صائبة وعادلة، حتى أنها قد تمنع أي انتهاكات مستقبلية، لكن لن يكون هذا القرار كافياً لاستئصال السرطان الراسخ في عمق الدولة السودانية، أي نظام المحسوبيات والإفلات من العقاب الذي بناه البشير ولا يزال قائماً اليوم، فلا يهتم هذا النظام بإرادة الشعب بل يشكك في حركات المعارضة، ويهمل أو يعادي السودانيين المقيمين خارج الخرطوم، ويبرع في التلاعب بالقوى الخارجية كي يُعتبر قادة السودان أهون الشرَّين في جميع الظروف.

هذا النظام لن يفكك نفسه بنفسه، بغض النظر عن اسمه أو شخصياته، لذا ستكون الدعوة للعودة إلى تمثيلية الحكومة الانتقالية بناءً على صيغة تقاسم السلطة السابقة محكومة بالفشل، لا يستطيع أي فرد صالح أو شخصيات مشارِكة بهذه التمثيلية تجديد ثقة الشعب السوداني أو إجبار الجيش على تطبيق الإصلاحات فجأةً.

أدت مساعي التغيير في أعلى مراتب السلطة في السودان على مر سنوات عدة إلى كبح الطموحات الأميركية، وخلال فترة طويلة، ركّز صانعو السياسة الأميركية على التخلص من إحدى المشاكل بدل إيجاد حل مستدام، ولطالما بدت فكرة نشوء نظام ديموقراطي وملتزم بحُكم القانون في السودان خيالية لدرجة ألا تنتج أي استراتيجية أو خطة أميركية، وسرعان ما تبيّن أن غياب الطموحات الأميركية لا يتماشى مع توقعات الشعب السوداني الذي شهد على سقوط البشير وراح يطالب بإحداث تغيير منهجي.

لكن يجب ألا تفترض الولايات المتحدة أن السودان محكوم بالنظام الاستبدادي، ورغم استمرار القمع المتواصل والقاتل في معظم الأحيان، يشكّل الناشطون الشجعان والمنادون بالديموقراطية في السودان قوة مؤثرة لإحداث التغيير المنشود، فقد سبق أن بدأت واشنطن تتخذ الخطوات اللازمة لحرمان الحكومة العسكرية من تخفيف أعباء الديون والمساعدات الاقتصادية التي تحتاج إليها للحفاظ على شبكات المحسوبيات الخاصة بها، كما أنها كثّفت تواصلها مع المؤسسات المدنية التي تدعم الحركة الاحتجاجية، ولو في مرحلة متأخرة، لكن يجب أن تبذل الولايات المتحدة جهوداً إضافية لفهم طموحات تلك المنظمات وخطوطها الحمراء ولزيادة قدرتها على المشاركة في رسم مستقبل السودان، كذلك يُفترض أن تمتنع واشنطن عن تشريع الحوارات أو أطر العمل الانتقالية إذا أرادت أن تقوي الجيش وتسمح له بتحديد الجداول الزمنية، ورفض التعيينات المدنية أو الموافقة عليها، واختيار الفئات المقبولة أو المرفوضة في الساحة السياسية.

لكن كما حصل في عهد البشير، لا تملك الولايات المتحدة اليوم نفوذاً كافياً لتغيير المسار السياسي في السودان وحدها، لاحتواء الجيش بالشكل المناسب، يجب أن تضمن واشنطن في الوقت نفسه امتناع الصين أو بعض دول الخليج عن مساعدته، لكن تتطلب هذه العملية قيادة قوية والتزامات جدّية من كبار المسؤولين في الحكومة الأميركية، وإيماناً صادقاً باحتمال تحقيق النجاح، والاستعداد لتقبّل المقايضات مع مسائل مهمة أخرى، لكن في ظل غياب أي رؤية واضحة للعلاقات الأميركية مع السودان التي أصبحت مختلفة بطريقة جذرية اليوم (لم يقتصر التغيير على هوية الرئيس)، يصعب على إدارة بايدن أن تضطلع بهذا الدور القيادي وتتمسك بهذه الالتزامات رغم تلاحق الجهود الأميركية لإصلاح البلد على مر عقود طويلة.

ميشيل غافين

عندما سيطر الجيش على البلد كاملاً بعد إطلاق انقلاب آخر في أكتوبر 2021 كانت ردة فعل الولايات المتحدة مُحبِطة ومربكة

برأي بعض صانعي السياسة الأميركية كان إسقاط البشير التغيير الذي يحتاج إليه السودان حتى لو بقي معظم النظام الذي بناه واستعمله على حاله
back to top