روسيا تستعمل خليطاً خطيراً من الزخم الديني والتهديدات النووية

نشر في 11-03-2022
آخر تحديث 11-03-2022 | 00:00
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
أثبت أول أسبوع من الحرب الروسية الأوكرانية أن جزءاً كبيراً من التقديرات حول قدرات الغرب وأوكرانيا وروسيا ونواياهم الاستراتيجية غير صحيح، إذ تتطور هذه الحرب المدمّرة بطريقة لا يتصورها عقل.

قد تتلاحق الحسابات المغلوطة تزامناً مع تصاعد حدّة الصراع، وقد يحصل الأسوأ بينها في المجال النووي، فقد سبق أن اتخذت الحرب هذا المنحى حين أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين علناً بوضع كل قوات الردع الاستراتيجي ضمن النظام الخاص للخدمة القتالية، في 27 فبراير، حيث تشمل هذه القوات مثلثاً من الأسلحة النووية الجوية والبرية والبحرية، وذخائر دقيقة التوجيه وطويلة المدى، وقدرات الدفاع الصاروخي، ونظام قيادة وتحكّم للربط بين هذه الأدوات كلها.

لا يعني موقف بوتين أن العالم يواجه أزمة نووية، لكنه يثبت أن العالم يسير على طريق التصعيد، فقد تشتدّ المخاطر المطروحة لأقصى حد إذا أقدم الكرملين على خطوة لا يتوقعها القادة الغربيون مثل الجمع بين التهديدات النووية والخطاب الديني، ولا يمكن توقّع هذه النتيجة مسبقاً، لكنها أصبحت محتملة أكثر من أي وقت مضى، فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، توسّع دور الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في الهوية المحلية والسياسة الداخلية والأمن القومي في روسيا بدرجة كبيرة، وجعل بوتين النزعة الدينية المحافِظة جزءاً من الأيديولوجيا الروسية الوطنية واستعمل مقارنات دينية لمناقشة المسائل الأمنية، حتى أنه استخدم مصطلحات تاريخية وشبه ما ورائية لوصف هذه الحرب، ويتّضح الرابط بين الدولة والكنيسة داخل روسيا في صفوف الجيش، لا سيما في مجمع الأسلحة النووية.

إذا استعمل بوتين الدين لتعزيز أسلوب الإكراه النووي، فقد تصبح أفعاله أقرب إلى «نظرية المجنون»، حيث يتصرف الزعيم بطريقة غير منطقية لإثبات حقيقة تهديداته، وإذا بدأت موسكو بإصدار إشارات قسرية تجمع بين التهديد النووي والخطاب الديني، فسيواجه العالم تجربة جديدة بالكامل، وقد يجد الغرب في هذه الحالة صعوبة متزايدة في تحليل شخصية بوتين وتقييم خططه.

يجازف بوتين والمقربون منه بخسارة كل شيء بسبب العملية الأوكرانية الأخيرة، فهم لا يستطيعون تحمّل كلفة أي هزيمة محتملة، لذا من المستبعد أن ينسحبوا وقد يبدون استعدادهم لبلوغ أعلى درجات التصعيد، وصولاً إلى العتبة النووية، وإذا تعثّر الغزو مثلاً، فقد يحاولون تصعيد الوضع كي يتمكنوا من إنهاء الحرب بالشروط الروسية، حتى لو تطلّب هذا الهدف استعمال التهديدات النووية بدرجة غير مسبوقة. بعبارة أخرى، قد تستهدف تهديداتهم الغرب وأوكرانيا في آن لمنع الناتو من تقوية الجيش الأوكراني من جهة، ولإجبار كييف على قبول تسوية معينة إذا لم تسمح الوسائل التقليدية لموسكو بفرض إرادتها من جهة أخرى، ويُفترض أن تتماشى هذه الأهداف مع نظرية النصر الروسية التي تقضي بإخافة الأعداء لمنعهم من التدخل، وإقناعهم بعدم تسليح أوكرانيا، ودفع كييف إلى عقد السلام.

قبل الحرب، افترضت موسكو أن خصومها سيتعاملون بجدية مع تهديداتها النووية في أي صراع في محيطها، فينسحبون بكل بساطة لأن ميزان المصالح يصبّ في مصلحة موسكو، وبعد تورط روسيا والغرب في هذا الصراع اليوم، قد تقتنع موسكو بأن التهديدات التقليدية غير كافية، لكن من خلال اكتساب سمعة مختلفة كدولة يحرّكها الإيمان، قد يعتبر الغرب روسيا مجنونة ومتهورة كونها تعزز مبدأ المساومة القسرية في زمن الحرب.

إذا طرح بوتين نفسه كلاعب استراتيجي له دور إنقاذي بنظر منافسيه وألحق تهديداته النووية بخطاب تدميري، فقد يصبح أسلوب الإكراه الذي يستعمله شديد الفاعلية، وغالباً ما يظهر اللاعبون المتدينون كأشخاص لا يمكن ردعهم، وهذا ما يزيد مصداقية تهديداتهم، ومن الواضح أن بوتين اضطلع بهذا الدور تحديداً، فقد أدلى الرئيس الروسي بتصريحات متنوعة من هذا النوع قبل اندلاع الأزمة الأخيرة، وقد صوّر الحرب كصراع بين قوى الخير وقوى الشر، ويبدو أن بوتين يعتبر نفسه شخصية تاريخية تحمل دعوة شبه إلهية لحماية الحضارة الروسية، ونتيجةً لذلك، قد يصدّق الغرب اليوم أنه لا يخشى التصعيد، علماً أن المعسكر الغربي يشكك أصلاً بحسّ المنطق لديه.

لكن إذا جمع بوتين بين الخطاب الديني والتهديدات النووية، فلا يعني ذلك أنه مجنون بكل بساطة، بل إنه يستعمل خليطاً فريداً من نوعه يجمع بين رؤيته الصادقة للعالم واعتبارات عملية أخرى، وقد يحصل بوتين على منافع مزدوجة بفضل حساباته الاستراتيجية المتهورة وعواطفه الطبيعية، فحين يواجه الرئيس الروسي موقفاً محرجاً أو يخاف على صموده، قد تزيد نزعته إلى تصوير نفسه كمنقذ البلد، وفي الوقت نفسه، قد يستغل بوتين عمداً مشهد الكوارث المرتقبة لتعزيز أسلوب الإكراه الذي يعتمده، لا سيما إذا صعّد الغرب تحركاته ولم تتطور الحرب في أوكرانيا بالشكل الذي خطّط له، وقد يستفيد الكرملين من الخطابات الدينية التي استعملها الجيش الروسي والمسؤولون الدفاعيون والسياسيون الروس في الصراعات السابقة لزيادة الغموض حول التحركات الروسية والإمعان في إرباك الغرب.

وإذا حاول الكرملين استغلال صورته كجهة يُحرّكها الإيمان، فقد يزعزع الاستقرار الداخلي والخارجي معاً، إذ لم يسبق أن تعامل أحد مع إشارات نووية دينية تُصدرها الدول بحد ذاتها، ويجد المحللون صعوبة في فك شيفرة بوتين «العادي»، لذا من المنطقي أن يزيد ارتباكهم عند محاولة فهم بوتين «الديني النووي»، وقد يشلّ هذا الوضع حلف الناتو ويدفعه إلى التراجع، مما يُمهّد لتصعيد روسي تقليدي، حتى أنه قد يدفع الناتو إلى استباق الأحداث، مما يعني على الأرجح إطلاق ضربات لنزع ترسانة روسيا النووية، وقد يُسبب هذان الخياران كوارث كبرى للشعب الأوكراني والبشرية ككل.

كذلك، قد تطلق المواقف النووية الدينية شكلاً من الفوضى الداخلية، فكلما زاد انزعاج النُخَب والرأي العام والجيش في روسيا بسبب الخسائر المتلاحقة والأهداف الحربية ووحشية البلد، يزيد احتمال أن تلجأ موسكو إلى الإكراه النووي المتهور لمحاولة الفوز في الصراع سريعاً، لكن تتطلب هذه المقاربة تبريراً داخلياً وسيكون الخطاب المستعمل حينها دينياً على الأرجح.

لكن سيستهدف الخطاب الروس هذه المرة، فتزداد حينها قوة الطاعة العسكرية، لا سيما في صفوف القوى النووية، ويبدو الرابط الاستثنائي بين الكنيسة والجيش الأعمق على الإطلاق داخل السلك النووي، لكن لا يعرف أحد إلى أي حد سيكون الكهنة داخل هذا السلك مستعدين لدعم قيادة النظام المستقرة أو كبحها، فمن جهة، تتعدد الأسباب التي تشير إلى زيادة الطاعة والالتزام إذا صدر هذا الأمر (حتى لو شمل توجيه ضربة عسكرية)، ومن جهة أخرى، قد يقرر رجال الدين تشجيع المشغلين النوويين على تحدي ذلك الأمر.

المؤسسة الكنسية المدنية في روسيا هرمية لكنها ليست موحّدة، مما يعني أن الحرب الراهنة قد تزيد تطرّف المعسكرات المتنافسة داخل الكنيسة، بما في ذلك الأسماء التابعة لها في الأوساط النووية، ولهذا السبب، قد تكون الإشارات النووية الدينية سيفاً ذا حدَين، حتى أن التهديدات النووية التي يلوّح بها بوتين قد تزيد الفوضى الداخلية إذا حاولت النخبة الحاكمة والجيش إسقاط الرئيس المتهور من السلطة وقاومت جماعات أخرى من داخل المؤسسة الأمنية تلك المحاولات.

يسير العالم اليوم في طريق محفوف بالمخاطر، حيث يطرح بوتين نفسه كمنقذ لبلده، ويسعى إلى تصحيح ما يعتبره أخطاءً تاريخية وزيادة القوة الجيوسياسية الروسية ومن المستبعد أن يتراجع، وفي المقابل تحاول واشطن احتواءه ومعاقبته بلا رحمة وتعتبر أي تسوية محتملة شكلاً غير مقبول من الاسترضاء، وهي تستغل هذه الحرب لمنع بكين من التصرف بعدائية مماثلة في آسيا أو أي أماكن أخرى، إذ تعني هذه المواقف أن موسكو وواشنطن لا تتركان أي مخرج للطرف الآخر، بل إنهما تتابعان تصعيد الأزمة تزامناً مع انتشار مظاهر الموت والدمار والمأساة في أوكرانيا، ولا شك أن إضافة العنصر الديني إلى الصراع يزيد الوضع تعقيداً.

الظروف اليائسة تتطلب تدابير يائسة، فرغم الآراء التي تحملها روسيا والولايات المتحدة وأوروبا عن بعضها، يستلزم الوضع الراهن إنهاء اللعبة بطريقة جذرية، فخلال أبرز الحالات الطارئة النووية في الحرب الباردة (أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، وحرب أكتوبر في عام 1973، والذعر من الحرب في عام 1983)، نجح كل طرف من الصراع في التوصل إلى تسوية لحفظ ماء وجهه، لكن ستكون هذه المهمة أكثر صعوبة بكثير اليوم، فقد أصبحت القيادة الروسية الحازمة متورطة في حرب محتدمة ويدعم الغرب أوكرانيا بكل قوة، وبما أن جميع الأطراف غير مستعدة لخوض اللعبة النهائية، أصبحت المشكلة أكثر إلحاحاً، ويجب أن تبدأ واشنطن وموسكو التفكير بالتنازلات التي يمكن تقديمها قبل بدء مرحلة المخاطر القصوى، ولا يعني ذلك أن يوافق أي طرف على الرؤية العالمية التي يحملها الطرف الآخر، لكن يجب أن يمنع الفريقان تصعيد الوضع طالما تبقى الفرصة سانحة.

ديمتري أدامسكي

back to top