ارمي بقلبك على كتفي*

نشر في 21-02-2022
آخر تحديث 21-02-2022 | 00:08
 خولة مطر عندما انغلقت النوافذ أو أغلقتها هي، كان من السهل أن تغطس في بحر من الأحزان، وكأنها نبشت خزائن مغلقة لطالما أحبت أن تتركها في تلك الزاوية من النفس أو العقل، لم تستطع أن تمنع شلال الدمع، وتعبت وهي تحاول إيقافه بشيء من الهروب عبر الموسيقى أو القراءة أو مشاهدة الأفلام التي كانت جليسها لزمن ما الأكثر حميمية، فيها كانت تهرب إلى عالم مضى تتصور أو تصوره الأفلام بأنه كان أكثر بهجة وصفاء وجمالاً، وقد يكون كذلك قبل أن تتعقد الحياة لتصبح كتلة مركبة متعددة الأوجه وفي مجملها متعبة.

كثيرات مثلها يدركن أن الاستمرار في مسيرة ما بتفاصيل لا تشبهها ولا تعبر عن قناعاتها واهتماماتها واحترامها لذاتها، ومثلهن تتنازعها الهواجس وتقفز الأسئلة المتعددة الأوجه كلما أحست ببعض اليقين أن قرارها هو الصواب، وهي ككثير من النساء في أوطاننا يبقين على شك في كل ما يتخذنه من قرارات حتى تصفعهن الحقائق، ولا يبقى أمامهن سوى المواجهة مع النفس وطرد كل أقاويل المجتمعات المعقدة، وفي لحظة يجمعن كل ما لديهن من الشجاعة ويعلنّ القرار الذي لا يتماشى مع قيم المتجمع الغارقة في تخلفها أو سطحيتها.

هي مثلهن أمسكت تلك اللحظة بقبضتها وأعلنت قرارها، بل لم تكتف بإعلانه في وجهه والمقربين منه، بل كانت في نشوة اللحظة تحس أنها بحاجة أن تنثره كعطرها بين كل معارفهم وأهلهم، تمضي نشوة اللحظة سريعا وتعود هي إلى روتين يومياتها وبعض نظراتهم وكثير من الأسئلة المحبوسة خلف العبارات المسطحة أو الأحاديث البسيطة كيوميات بعضهن وبعضهم أيضا، هي لا تريد أن تكون موضوع حديثهم بين فناجين القهوة والشاي الصباحية أو كؤؤس المساءات الصاخبة، أن ينتهي الأمر بمجرد الإعلان والإشهار عن الانفصال الذي لم يعد حدثاً غير عادي في هذه المدينة، وربما في كل المدن، تتذكر ما سمعته من إحدى صديقات خالتها عن تلك اللحظة التي تسمى مصيرية، أي الارتباط "المقدس"، كانت تقول لها إنه "ليس طرحة وشنيول" ويمكن إضافة حفلة فاخرة في مكان رومانسي حالم، ومع إشارات الصباح الأولى يعود الواقع إلى ما كان عليه قبلها، وتختفي سندريلا وحبيبها إلى الأبد!

تلك اللحظة التي تبدو شديدة الألم حينها ستتحول مع الوقت إلى تحد كبير بالنسبة لها لمواجهة مجتمع يعلم جيداً أن "الدنيا قد تغيرت" ولكنه يبقى متمسكاً ببعض ما بقي من الماضي، وكأنه سينتهي لو أفلت منه! الخوف من الانهيار ينتقل من العائلة الصغيرة إلى العائلة الكبيرة إلى العشيرة والقبيلة وحتى الدولة، وكأنها كلها مرتبطة بخيط رقيق من الحرير لو انقطع جزء منه فستفلت كل تلك المنظومة وتسقط، وبذلك تسقط معها مراكز القوة والسيطرة!

يبدو للبعض أن حديثاً مثل هذا فيه بعض المبالغة، وأن ركائز العائلة والعشيرة والدولة ليست بهذه الدرجة من الهشاشة، لكن كثيراً من المستجدات الأخيرة تعكس أن الخوف الأكبر لدى المجتمعات لا يزال من أن تخرج النساء عن دورهن الذي رسم بإحكام ليكن تحت قبضة الآخر، أو ربما تحت رحمته أو طغيانه، تسلسل لا يزال يمسك بقبضة من حديد على صورة نمطية للأدوار، فهذا دور المرأة وهناك دور للرجل أيضا، وعلى الاثنين أن يحافظا عليه وإلا سقط المعبد على رؤوسهم ورؤوسنا جميعا!

إنه مسار التغيير المجتمعي الذي عملوا جميعا رجالاً ونساء على إبقائه والمحافظة عليه، وتبدو مسؤولية النساء هي الأكبر في الحفاظ على الهيكل الهش، عادت هي لتدرك أن بعض أيامها الآن قد تكون مغمسة بالدمع والحزن، لكنها وغيرها يرسمنَ خطاً جديداً أكثر إشراقا لنساء كثر قادمات، قلت لها "ارمي بقلبك على كتفي" وامضي لتتركي بعض الأثر على رمال هذا الطريق الطويل، قد تتسلح به كثيرات قادمات باحثات عن أدوار خارج الإطار والمربعات المتداخلة.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

د. خولة مطر

back to top