راي تقية : الثورة الإيرانية تستنزف النظام الداخلي

نشر في 08-02-2022
آخر تحديث 08-02-2022 | 00:00
إذا قررت إيران العودة إلى الاتفاق النووي فقد تسترجع معظم توازنها المالي وتستعيد جزءاً من النمو الاقتصادي على الأقل، ولن تُخفف هذه الخطوة مشاكل البلد المتعددة، لكنها قد تبطئ حركة المعارضة التي بدأت تتشكل تدريجاً.
 فوراين بوليسي يواجه الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، مشاكل كثيرة بعد مرور بضعة أشهر على تسلمه منصبه، فقد ركّزت معظم التعليقات على عدائيته النووية، لكنه يواجه فعلياً انشقاقات بارزة في أوساط النخبة الحاكمة واحتجاجات شعبية حاشدة محلياً، ويشكك الكثيرون ببراعته في إدارة الاقتصاد ومقاربته الدبلوماسية في الملف النووي، وما لم يُحدِث المرشد الأعلى، علي خامنئي، وأقرب أعوانه تعديلات كبرى في طريقة تعاملهم مع القوى العظمى، فقد تصبح الجمهورية التي يُصرّون على التمسك بها مُهددة.

تأثّر الاقتصاد الإيراني بخليط متزامن من سوء الإدارة ووباء كورونا والعقوبات، يصل معدل التضخم إلى 40% تقريباً، وقد خسرت العملة المحلية معظم قيمتها، وفي غضون ذلك، يتعهد رئيسي بتحقيق نمو بنسبة 8% وتأمين نحو مليونَي فرصة عمل خلال السنتين المقبلتين.

إنها وعود خيالية نظراً إلى استحالة إحياء الاقتصاد الإيراني من دون تخفيف العقوبات المفروضة على البلد، ولن تتمكن إيران من بيع كميات إضافية من نفطها واسترجاع الأموال المجمّدة في البنوك الأجنبية من دون كسر حاجز العقوبات.

حتى أن الفكرة القائلة إن التجارة مع الصين قادرة على دعم دولة فيها 85 مليون نسمة تبقى شائبة، ولا يمكن اعتبار بيع نحو نصف مليون برميل نفط يومياً إلى الصين بأسعار مُخفّضة خطة اقتصادية حكيمة، حيث يشيد المسؤولون الإيرانيون باتفاقهم الممتد على 25 سنة مع الصين، لكن لم تتحقق الاستثمارات الموعودة على أرض الواقع بعد، فقد ترددت بكين في ضخ مبالغ ضخمة في إيران الخاضعة للعقوبات، وبالنسبة إلى نظام إسلامي يُصِرّ على مفاهيم الاكتفاء الذاتي والاتكال على الذات، لا يمكن تحسين الحظوظ السياسية عبر التحول إلى دولة تابعة للصين.

رغم الاستقرار الظاهري الذي يفرضه الحُكم الاستبدادي، تبقى إيران أرضاً تكثر فيها التظاهرات والإضرابات، وفي السنوات القليلة الماضية، انضمت الطبقة العاملة إلى فئات أخرى من المجتمع لمعارضة النظام بعدما كانت من أهم ركائز دعمه، وقد سبق أن بدأت الاضطرابات في عهد رئيسي الجديد.

في شهر نوفمبر اضطربت مدينة "أصفهان" حين اشتكى المزارعون هناك من إقدام الحكومة على تحويل المياه التي يحتاجون إليها لزرع محاصيلهم، وسرعان ما تحولت المشاكل الاقتصادية المألوفة إلى حركة سياسية ترفع شعار "الموت لخامنئي"، وفي الوقت نفسه نزل المعلمون إلى الشارع في أكثر من خمسين مدينة للمطالبة برفع أجورهم، وقمعت الحكومة هذه التحركات كلها عبر استعمال القوة الوحشية، فأمعنت في إضعاف شرعيتها الهشة أصلاً.

تبرع الجمهورية الإسلامية في تحويل أشرس مناصريها إلى معارضين لها، فبعد الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل في عام 2009، اعتُبرت الحركة الإصلاحية أداة للفتنة واستُبعِد أكثر السياسيين الإيرانيين شعبية من معترك السياسة، وتتعلق أبرز مشكلة يواجهها النظام بتفوق شعبية قادة الحركة الإصلاحية على السياسيين الآخرين في إيران.

ربما منعهم المتشددون من إنشاء نظام ديموقراطي في ممارساته وديني في جوهره، لكنهم يحتلون مكانة خاصة بنظر الرأي العام، ولهذا السبب، لن يمنعهم النظام من الفوز في الانتخابات إلا عبر تجريد مرشّحيهم من أهليتهم.

سارع المعسكر الإصلاحي إلى إصدار تحذيرات مفادها أن البلد يتجه إلى كارثة ما لم تُغيّر الحكومة مسارها، وفي رفضٍ صريح للمقاربة الدبلوماسية التي يطبقها رئيسي، نشرت الحركة الإصلاحية رسالة تم تداولها على نطاق واسع وتذكر ما يلي: "بينما تواجه الأمة الإيرانية أزمة اقتصادية كبرى، سيؤدي أي تأخير في العودة (إلى خطة العمل الشاملة المشتركة) إلى تضرر البلد بدرجة إضافية".

انضم إلى هذه الدعوة "حزب الثقة الوطنية" الوسطي الذي أسّسه مهدي كروبي، رئيس البرلمان السابق الذي ترشّح للرئاسة عام 2009 ولا يزال تحت الإقامة الجبرية حتى الآن، كذلك حذر إسماعيل جرامي، وهو مسؤول مرموق في ذلك الحزب، من احتمال أن تؤجج حكومة رئيسي اضطرابات كبرى، فقال: "حين يصبح الشعب تحت خط الفقر، من الطبيعي أن يختار الاحتجاج على الوضع"، لكن يتجاهل المعنيون هذه الأصوات وسواها.

كانت الانتخابات الرئاسية في عام 2021 من أهم الاستحقاقات في تاريخ الجمهورية الإسلامية، فقد شكّلت فرصة كي ينقلب النظام على نفسه ويستبعد المحافظين الذين خدموا النظام الديني لفترة طويلة، فقد أثبت خامنئي بهذه الطريقة أنه لن يتقبّل أي شكل من المعارضة، وفي غضون ذلك، تكشف الأزمة التي يعيشها اسمان بارزان في الثورة، وهما رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني والرئيس السابق حسن روحاني، أن أوساط النخبة في إيران بدأت تضيق.

ينحدر لاريجاني من واحدة من أعرق العائلات الإيرانية، وقد بقي في منصب رئيس البرلمان لأطول فترة وهو عضو جدير بالثقة في أوساط المحافظين، وخلال عهده الطويل في السلطة، تولى مناصب مهمة كثيرة، منها كبير المفاوضين النوويين، لكنه استُبعِد من السباق الرئاسي بسبب تعليقاته خلال ثورة عام 2009 ودعمه للاتفاق النووي الإيراني.

وفي خطوة متمردة واضحة، أصدر لاريجاني موقفاً لاذعاً يربط النظام كله بـ"خطة العمل الشاملة المشتركة"، فكتب في رسالته الطويلة: "لمناقشة الاتفاق النووي، نظّم البرلمان 20 اجتماعاً بحضور القادة، وعُقِد نحو 40 اجتماعاً آخر في المجلس النووي بإدارة الرئيس، وحصلت أربعة اجتماعات على الأقل في المجلس الأعلى للأمن القومي"، واليوم يقف لاريجاني للمرة الأولى في مسيرته خارج مجالس السلطة ولا شيء يشير إلى تراجعه عن موقفه.

يواجه روحاني أيضاً موقفاً لا يُحسَد عليه، غالباً ما تمنح الجمهورية الإسلامية درجة من الاحترام والمراعاة إلى رؤسائها السابقين عبر تعيينهم في هيئات حكومية متنوعة، فكان علي أكبر هاشمي رفسنجاني مثلاً رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام المسؤول عن حل الخلافات بين مختلف فروع الحكومة لوقتٍ طويل، وفي المقابل، لم يحصل روحاني على أي امتيازات مماثلة، بل يُهدده البرلمان المتشدد بملاحقته قانونياً، وعلى غرار لاريجاني، فصل روحاني نفسه عن النظام بالكامل.

واجهت الجمهورية الإسلامية احتجاجات شعبية طوال عقود من جانب الطلاب الجامعيين المتمردين، وأفراد الطبقة الوسطى المحرومين، والفقراء في المدن في الفترة الأخيرة، حيث تتراوح المسائل التي تُحرّك هذه الجماعات بين تزوير الانتخابات والمشاكل المالية، ويدرك الناس على ما يبدو أن النظام يعجز عن إصلاح نفسه لأن سياسته متحجرة وقادته متعنتون أكثر من اللزوم.

لم يصمد النظام في وجه هذه الاضطرابات كلها بفضل أجهزته الأمنية فحسب، بل لأن التظاهرات تلاشت في نهاية المطاف، وتفوّقت الحكومة بسبب غياب أي بنية تنظيمية للتحركات، وإذا استمرت الاحتجاجات، يرتفع احتمال أن يظهر قادة جدد، لكن من الأفضل أن ينشغل النظام بانشقاق قادته أولاً.

ربما يشهد العالم اليوم نقطة مفصلية في تاريخ الجمهورية الإسلامية، فأصعب ما يستطيع السياسي فعله هو التحول من منشقّ إلى معارِض، وقد بدأ عدد كبير من الإصلاحيين ينضم إلى صفوف الرأي العام المستاء، مما يزيد زخم التحركات الشعبية، وستكون مسيرة المحافظين المستبعدين أكثر صعوبة، لكنهم قد ينجحون في إنشاء أوساطهم المعارِضة الخاصة، تزامناً مع زيادة نزعة النظام إلى إقصاء الآخرين محلياً والتخبّط خارجياً. باختصار، يبدو أن خامنئي يخلق نظاماً ستكون فيه المعارضة الموالية له مستحيلة.

من الواضح أن خامنئي ورئيسي نسيا سبب صمود النظام الديني لفترة طويلة، إذ لم يصمد هذا النظام يوماً عبر استعمال القوة حصراً، ورغم إقدام السلطات الحاكمة على تضييق عدد المرشحين للمناصب العامة، قدّمت الانتخابات خيارات متنوعة من السياسيين للرأي العام، فأصبحت بمنزلة صمام أمان للناس، وفي غضون ذلك ربطت دولة الرفاهية الواسعة الفقراء بالنظام.

يفتقر النظام الإسلامي في إيران اليوم إلى مصادر قوته، لقد استُنزِفت خزانة الدولة بسبب العقوبات، وهي تعجز عن الحفاظ على مستوى معيشة مقبول، وفي غضون ذلك، لطالما أكدت الانتخابات على خيارات خامنئي عن طريق حملات الطرد وإقصاء المرشحين المعارضين، فكانت الانتخابات الرئاسية في عام 2021 من أقل الاستحقاقات تنافسية وإثارة للاهتمام في آخر أربعة عقود.

لا تستطيع إيران أن تتحمل كلفة المواجهة التي تستمتع بها ضد القوى العظمى، إذ يقترح الأميركيون وشركاؤهم الأوروبيون على إيران مساراً لحل المعضلات التي تختارها بنفسها، وإذا قررت العودة إلى الاتفاق النووي فقد تسترجع معظم توازنها المالي وتستعيد جزءاً من النمو الاقتصادي على الأقل، ولن تُخفف هذه الخطوة مشاكل البلد المتعددة، لكنها قد تبطئ حركة المعارضة التي بدأت تتشكل تدريجاً.

غالباً ما تنهار الأنظمة حين تتجاهل أسرار نجاحها، ويتزامن افتقار رئيسي إلى حس الابتكار مع جهله للتاريخ أيضاً، ولن يكون البرنامج النووي القوي كافياً لإنقاذ الجمهورية الإسلامية، بل إن أي مقاربة دبلوماسية مدروسة قد تطيل فترة صمودها.

● راي تقية - فورين بوليسي

خزانة الدولة استُنزِفت بسبب العقوبات وتعجز عن الحفاظ على مستوى معيشة مقبول
back to top