الخطاب الاستفزازي يقوّض فرص الإصلاح الاقتصادي

• يخلق رفضاً مجتمعياً لسياسات الحكومة... وأضراره توازي سلبيات المقترحات الشعبوية
• تسطيح المطالب المعيشية وتحميل المجتمع مسؤولية الإخفاق التنموي ينتجان ردود فعل سلبية

نشر في 03-02-2022
آخر تحديث 03-02-2022 | 00:05
محمد البغلي
محمد البغلي
يرصد المتابع للخطاب الاقتصادي في الكويت هذه الأيام وتيرة متصاعدة للغة استفزازية تحمّل المجتمع مسؤولية الإخفاق التنموي في البلاد، في موازاة تسطيح العديد من المطالبات ذات الأبعاد المعيشة المستحقة، باعتبارها متوافرة ومتاحة أو غير ضرورية أصلاً، وفي الحالتين يتعامل هذا الخطاب المتعالي أو الاستفزازي مع مطالب المجتمع بخدمات أفضل، من زاوية غير منطقية لا تراعي الاحتياجات الخدمية التي يحتاج إليها الجميع.

فمثلما تعتبر المطالبات الشعبوية ذات الطابع المالي كإسقاط القروض، وتوزيع ما يُعرَف بأرباح «التأمينات» ومختلف المطالبات بزيادات الرواتب والكوادر مُضرّة لاقتصاد الدولة وماليتها وتمتد آثارها السلبية سنوات قادمة، فإن الخطاب المتعالي أو الاستفزازي باعتبار احتياجات أفراد المجتمع، من سكن وتعليم وصحة وطرق ومكافحة التضخم ومحاربة الاحتكار، أنها مطالب غير مستحقة أو مُبالَغٌ فيها ستخلق آثاره ردة فعل سلبية في المجتمع، خصوصاً لدى الطبقتين المتوسطة والمحدودة اللتين ستتكلان على دعم المطالبات الشعبوية طالما وجدتا مناخاً يستهزئ أو لا يبالي باحتياجاتهما المستحقة.

سياسة عامة

الخطاب الاستفزازي، الذي ربما يتبناه البعض بحسن نية أو حتى بسوء نية- مع التأكيد على وجود بعض الاجتزاء والنقل غير المحايد للبعض الآخر- لا يقتصر فقط على تصريحات أفراد معينين، بقدر ما يمكن قياسه كسياسات عامة والتي باتت علنية وواضحة تربط بين اتخاذ قرارات تخص المواطنين بسلامة الوزراء أو الحكومة مجتمعة أو رئيسها، كما حدث في أكثر من مناسبة، مثل موافقة مجلس الوزراء العام الماضي، وسط إحدى أصعب الفترات المالية في تاريخ الكويت، على وقف استقطاع أقساط القروض 6 أشهر، وتوزيع مكافآت الصفوف الأمامية، لضمان حضور نواب مجلس الأمة جلسات البرلمان، بل والإعلان عن برنامج زمني هذا الأسبوع لتوزيع هذه المكافآت بغرض تجاوز التهديد باستجواب رئيس الوزراء، فضلاً عن تخلي الحكومة، بمختلف جهاتها المالية والخدمية، عن رفض زيادة رأسمال بنك الائتمان فقط لتجاوز وزير الدفاع اختبار التصويت على طرح الثقة في مجلس الأمة!

هذه المساومة العلنية ما بين مصالح المواطنين- بغض النظر عن مدى أحقيتها- ومناصب الوزراء، جزء من خطاب استفزازي لا يقل سوءاً وأثراً سلبياً عن الاستهانة بمطالب الناس واحتياجاتهم، إذ سيفضي إلى عدم تصديق رجل الشارع غير المختص لأي بيان حكومي يتحدث عن وجود تحديات تواجه المالية العامة للدولة أو وجود عجز بالميزانية أو حتى أي مصاعب تواجه السيولة طالما كانت مليارات الدنانير تظهر فجأة لتجاوز استجواب أو عقد جلسة للبرلمان.

مسؤولية الإخفاق

ومن أوجه الخطاب الاستفزازي أيضاً تحميل المجتمع مسؤولية الإخفاق في تنفيذ مشاريع التنمية على مدار السنوات الـ 12 الماضية، إذ تشير بيانات خطة التنمية الثانية لعام 2020 - الثالثة لم تصدر حتى الآن - إلى قصور واضح في تنفيذ عدد ضخم من المشاريع الإنشائية والخدمية، فلم تتمكن الحكومات المتعاقبة رغم السنوات والخطط والفوائض المليارية من إنجاز مثلاً ميناء مبارك الكبير أو مشاريع تطوير الموانئ أو البدء بمدينة الحرير أو تنفيذ مطار الكويت الجديد أو حتى جودة الطرق، فضلاً عن إخفاق تنموي آخر تمثل في تدهور التعليم ومخاطر اتجاهات سوق العمل وشح التنوع في الاقتصاد... وهذه الإخفاقات مرتبطة بشكل وثيق بإدارة البلاد التنفيذية المهيمنة على المؤسسات العامة أكثر من قدرة المواطنين على إحداث التغيير أو الإصلاح فيها.

في الحقيقة، سيكون أشبه بالمهمة المستحيلة تسويق سياسات حكومية ربما تكون ضرورية في أي اقتصاد آخر، كإقرار ضريبتي القيمة المضافة والانتقائية أو حتى ضرائب الدخل ورفع أسعار الرسوم والخدمات وسط تراكم الطلبات الإسكانية وتباطؤ إنجازها أو مع السياسات، التي تتجاهل الارتفاع اللافت للتضخم محلياً... لأن أي إخفاق أو تجاهل لملف اقتصادي أو خدمي سيجعل من يدفع ضريبة غير مباشرة نتيجة لانحراف السياسات يرفض دفعها مباشرة خصوصاً، في ظل تراجع الثقة بمؤسسات الدولة وقدرتها على استدامة توفير الخدمات في المستقبل.

خطاب مفقود

لا شك أن هناك خطاباً بديلاً هادئاً وعقلانياً مفقوداً، ولابد أن يجد صدى إيجابياً لدى الرأي العام، إن تم شرح مخاطر الأوضاع الاقتصادية والمالية والخدمية الحالية واستحالة استدامتها على المدى الطويل، وتفصيل أضرار ضخ السيولة العالية في السوق على التضخم بما يعود سلباً على المستهلك، وأن مكافحة التضخم والاحتكار وتوفير الخدمات الأساسية أجدى للاقتصاد والمستهلكين من إسقاط القروض أو توزيع أموال التأمينات أو زيادة الرواتب، وأن الثروات الوطنية ملك للأجيال القادمة لا الجيل الحالي فقط، وهذا كله لابد أن يتسق مع مبادرات تقدم بدائل سكنية أو استثمارية للمواطنين بالتوازي مع التدرج والعدالة في المعالجة على المديين المتوسط والطويل، فضلاً عن تقديم نماذج إصلاح ونجاح حتى يتلمس المواطن جدية التوجهات الإصلاحية.

توعية ورشد

إن التصدي للمقترحات الشعبوية كإسقاط القروض أو توزيع أموال «التأمينات» لا يكون بإلقاء اللوم على المواطن، إنما ببيان أضرارها على حياة الناس ومعيشتهم وارتباط أي قانون شعبوي غير مدروس بالتضخم بكل آثاره الاقتصادية والاجتماعية، وأن مسؤولية الدولة هي تقديم الخدمات باستدامة وجودة عالية

لا توزيع الأموال، وأن الدولة جادة في حماية أموالها سواء تعلّق الأمر بقضايا الفساد

أو بالصفقات السياسية، التي تهدر فيها المليارات لتحقيق مكاسب شخصية، فقناعة الناس بحقيقة الأوضاع الاقتصادية والمالية للبلاد هو إشارة البداية لأي سياسة إصلاح اقتصادي، وهذا يتطلب قليلاً من التوعية وكثيراً من الرشد في السياسات العامة أقلها مخاطبة المعنيين بحقيقة الأوضاع دون استفزازهم أو تحميلهم مسؤولية إخفاقات

لا يتحملون نتائجها، وأهمها أن تكون في الدولة نماذج نجاح لسياسات ومشاريع تحقق الخدمة والاستدامة للمجتمع لتكون مصداً لأي مقترح مالي شعبوي يستنزف أموال الدولة وينعكس سلباً على حياة من حصل عليها لينتفع بها.

محمد البغلي

قناعة الناس بحقيقة الأوضاع الاقتصادية تتطلب قليلاً من التوعية وكثيراً من الرشد في السياسات العامة

الخطاب العقلاني الذي يوجه إلى المجتمع بشأن مخاطر الأوضاع الحالية واستحالة استدامتها مفقود

المساومة العلنية بين مصالح المواطنين ومناصب الوزراء جزء من خطاب استفزازي لا يقل سوءاً وأثراً سلبياً عن الاستهانة بمطالب الناس واحتياجاتهم
back to top