نحو كوبا الجديدة...

نشر في 07-01-2022
آخر تحديث 07-01-2022 | 00:02
حين بدأ الزعيم الكوبي فيدل كاسترو يستولي على كوبا التي كانت أشبه بمعقل للعصابات في عهد فولغينسيو باتيستا خلال الخمسينيات، أصبح المشهد السياسي في الجزيرة مُعدّاً للانفجار، وعند مراجعة تاريخ كوبا المتقلّب، يسهل أن نستنتج أن الفوز بالمعركة في سبيل سيادة البلد يترافق في كل مرة مع حدث ضخم ودراماتيكي.

في كتاب Cuba :An American History (كوبا: تاريخ أميركي)، تُحلل المؤرّخة أدا فيرير هذا الاستنتاج بجميع تفاصيله، حيث وُلِدت فيرير في كوبا لكنها نشأت وتعلّمت في الولايات المتحدة، وهي توضح في المقدمة أن كتابها هو نتاج ثلاثين سنة من الأبحاث، وهي أستاذة تاريخ في جامعة نيويورك، ولطالما كانت كوبا وجوارها محور مسيرتها المهنية.

يحتلّ كاسترو وعهده الذي امتد على نصف قرن ثلث الكتاب المؤلف من 33 فصلاً، مما يثبت تأثيره الكبير على التغيرات الثورية التي شهدها المجتمع الكوبي وتعقيدات العلاقة بين كوبا والولايات المتحدة، وتكتب فيرير في نهاية أحد الفصول: "لم يكن الصراع بين هاتَين الجمهوريتَين الأميركيتَين يقتصر على الحرب الباردة أو الشيوعية بكل بساطة، بل إنه صراع بين القوة الأميركية وسيادة كوبا وكان يتمحور حول طبيعة كل بلد وحدوده".

بدأت فيرير تكتب كتابها في عام 2015، خلال الانفراج التاريخي في العلاقات الأميركية الكوبية بوساطة من الرئيس الأميركي باراك أوباما وراؤول كاسترو، وكانت تلك الفترة واعدة بشكلٍ استثنائي بالنسبة إلى الكوبيين والأميركيين معاً، بعد خمسة عقود ونصف من العدائية، وقد بلغت الأجواء الإيجابية ذروتها مع زيارة أوباما إلى هافانا في مارس 2016، وتتذكر فيرير الصخب الذي انتشر في أنحاء العاصمة الكوبية قبيل ذلك اليوم الكبير، فقد رُصِفت الطرقات وأُعيد طلاء المباني واستُبدِلت النوافذ القديمة.

تُركّز فيرير، انطلاقاً من نظرتها التاريخية إلى ذلك الحدث المحوري، على جزأين أساسيَين من الخطاب التاريخي الذي ألقاه أوباما في "غران تياترو" في هافانا، علماً أن كاسترو حَضَر ذلك الحدث ونقله التلفزيون الكوبي الحكومي مباشرةً. تكتب فيرير: "طُرِح أول جزء مهم من الخطاب في مرحلة مبكرة، حين بدأ أول رئيس أسود للولايات المتحدة يَصِف الروابط بين البلدين قائلاً: "نحن نتقاسم الدم نفسه... نحن نعيش في عالم جديد استعمره الأوروبيون. على غرار الولايات المتحدة، بُنِيت كوبا جزئياً على يد العبيد الذين جاؤوا إلى هنا من إفريقيا". برأي فيرير، بدا وكأن أوباما يقول للكوبيين من أصل إفريقي: "أنا أراكم وأدرك أهميتكم في ماضي بلدكم ومستقبله".

أما المقطع البارز الآخر في خطاب أوباما فهو يرتبط بتعليقه عن علاقة كوبا التاريخية مع الولايات المتحدة، حيث تكتب فيرير: "تكلم أوباما عن كوبا في حقبة ما قبل الثورة بمصطلحات مقاربة من تلك التي تستعملها الحكومة الكوبية، لقد تحدّث عن جمهورية تعاملت معها الولايات المتحدة كأداة يمكن استغلالها وتجاهلت في المقابل مظاهر الفقر والفساد، وفي ما يخص الثورة الكوبية بحد ذاتها، تكلم أوباما بأسلوب محترم، فأشار إلى "القيم التي تشكّل نقطة انطلاق لأي ثورة، بما في ذلك الثورة الأميركية والكوبية وحركات التحرير حول العالم"، ومن اللافت برأي فيرير أن يضع رئيس أميركي الثورة الكوبية في عام 1959 والثورة الأميركية في عام 1776 في السياق نفسه. بدا وكأن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وكوبا أوشكت على الانتهاء بعد أكثر من نصف قرن على بدئها.

لكن تبيّن لاحقاً أن رحلة أوباما كانت بداية مرحلة جديدة لم تَدُم طويلاً، وسرعان ما أدى فوز دونالد ترامب المفاجئ على هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 إلى إنهاء التقارب القصير بين الولايات المتحدة وكوبا، وقد تزامنت هذه التطورات مع وفاة فيدل كاسترو عن عمر تسعين عاماً، وشكّلت تلك الفترة نهاية حقبة كاملة على مستويات عدة.

في عام 2018، قرر راؤول كاسترو الذي خَلَف شقيقه المريض قبل عشر سنوات التنحي من منصب الرئاسة وسلّم مقاليد السلطة إلى ميغيل دياز كانيل، وهو رجل موال للنظام وفي أواخر الخمسينيات من عمره وتم اختياره بعناية، وفي أبريل من 2021، قبل عيد ميلاد راؤول كاسترو التسعين بشهرَين، تخلى هذا الأخير عن منصبه كسكرتير أول للحزب الشيوعي الكوبي لصالح دياز كانيل أيضاً، وبحلول تلك الفترة، أعلن كاسترو أن عمله انتهى، وفي عام 2019، طُرِح دستور كوبي جديد حيث اعتُبِرت الاشتراكية العقيدة السياسية الوحيدة والنهائية للبلد، لكنه اعترف في الوقت نفسه بجوانب معينة من الرأسمالية، منها الملكية الخاصة للممتلكات والشركات والاستثمارات الأجنبية، حيث حملت هذه المرحلة الانتقالية شعار "نحن الاستمرارية".

لا تطلق فيرير حُكماً نهائياً على عهد كاسترو، لكنها تُسلّط الضوء على توسّع مشاعر الاستياء وسط الناس العاديين، فتكتب ما يلي: "يبدو أن عدداً كبيراً من الكوبيين بات يفضّل التغيير على الاستمرارية، ولا يُعبّر هذا التوجّه بالضرورة عن موقف سياسي معيّن، بل إنه يعكس بكل بساطة رغبة كبرى في تحسّن العائدات، والإمدادات الغذائية، والتنقلات اليومية، والخيارات والفرص المتاحة، ونوعية الحياة عموماً".

اليوم، أصبحت الحياة في كوبا أصعب مما كانت عليه منذ سنوات، وكان وباء كورونا كفيلاً بعزل كوبا عن العالم الخارجي ووقف حركة السياحة التي تُعتبر من أهم مصادر الدخل طوال سنة ونصف، مما أدى إلى تفاقم الفقر الذي تزامن مع عهد دونالد ترامب، وتبنّى ترامب أسلوباً عدائياً في تعامله مع هافانا وأغلق معظم الممرات التي سمح بها أوباما لتخفيف المصاعب الاقتصادية في الجزيرة، وكتبت فيرير أن الكوبيين العاديين كانوا الأكثر تأثراً بهذه الأحداث: "كل من فتح شركات صغيرة على أمل الاستفادة من توسّع السياحة الأميركية عاد وأغلق أبوابه وأوقف نشاطاته... نتيجةً لذلك، تراجعت الإمدادات الغذائية، وطالت صفوف الانتظار، وارتفعت الأسعار".

لم يُحدِث جو بايدن تعديلات كثيرة في السياسة الأميركية تجاه كوبا، رغم فوزه في الانتخابات الرئاسية في 2020 ووعده بالانقلاب على أسوأ إجراءات ترامب، خوفاً من رد الناخبين الكوبيين الأميركيين المحافظين في فلوريدا، وقد أدى غياب التغيير الذي تزامن مع نقصٍ مزمن في الضرورات الأساسية إلى توسّع موجات التشاؤم، وحين اندلعت الاحتجاجات في مختلف المدن والبلدات الكوبية في يوليو 2021، وهو تعبير غير مسبوق عن استياء المواطنين العاديين، حمّلت الحكومة الولايات المتحدة مسؤولية تأجيج مشاعر الاستياء وأطلقت حملة قمع صارمة.

سرعان ما تجدّد النظام في ظل الضغوط المتصاعدة، لكن نظراً إلى استمرار النقص الذي يشبه الحرمان في حقبة "الفترة الخاصة" في بداية التسعينيات، غداة انهيار الاتحاد السوفياتي، لا أحد يعرف إلى متى سيكون هذا الوضع قابلاً للاستمرار، ولم يعد الأخوان كاسترو في السلطة، وقد ظهر جيل جديد من الكوبيين المولودين غداة تفكك الاتحاد السوفياتي، ولا تُعتبر هذه الفئة جزءاً من الإرث الاشتراكي، إذ يشكّل هؤلاء الكوبيون نحو ثلث السكان وليسوا أيديولوجيين بقدر أهاليهم وأجدادهم، بل إنهم يرغبون في عيش حياة طبيعية بكل بساطة، فهم يريدون أن يعملوا ويعيشوا ويسافروا ويعبّروا عن أنفسهم بكل حرية، كما يفعل الناس في معظم دول نصف الأرض الغربي.

كذلك، يملك الكثيرون اليوم الوسائل اللازمة لمعرفة ما يفوّتونه نظراً إلى سهولة الوصول إلى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي ظل هذا الاختلاف الواضح بين الأجيال، تفرض الحكومة الكوبية سلطتها عبر ترسيخ المأزق القائم وتملأ الفراغ عبر دعوة مواطنيها إلى التصرف كوطنيين مخلصين، ومن واجبهم، برأي هافانا، أن يدعموا استقلال كوبا الذي ناضل البلد في سبيله وكَسِبَه ورسّخه عن طريق الثورة والاشتراكية.

لم تتضح بعد مدى قدرة الحزب الشيوعي الحاكم في كوبا على البقاء في السلطة لنصف قرن آخر عبر تبنّي الرأسمالية والسيطرة عليها في إطار دولة استبدادية، كما فعلت الصين وفيتنام، وبرأي فيرير، يبدو أن الحكومة تُخطط لإطلاق اقتصاد مختلط بدرجة بسيطة، لكن لا يزال الاستياء من سيطرة الحكومة قائماً، وتتوقع فيرير أن تتابع الدولة قمع معارضي سياساتها مشيرةً إلى مرسوم سابق أصدره دياز كانيل لمنع الفنانين من تقديم عروض علنية من دون نيل إذن مسبق من وزارة الثقافة.

كانت فيرير محقة حين وضعت الواقع الكوبي الراهن في خانة "الأزمة" واعتبرت مستقبل البلد غير واضح، لكنها تضيف أن تحسّن الحياة اليومية للشعب الكوبي لا يتوقف على هوية الرئيس الأميركي بكل بساطة، بل تتأثر هذه التغيرات أيضاً بالقرارات التي تتخذها الحكومة الكوبية والشعب الكوبي بحد ذاته، وفي النهاية يجب أن يُحدد المواطنون، أي المدنيين العاديين في كوبا، الوجهة المناسبة للحكومتَين معاً.

في غضون ذلك، بدأ الشعب الكوبي يُعبّر عن طموحاته التي تتجاوز المخاوف التاريخية على السيادة الوطنية في مناسبات متزايدة، فعلى المدى القصير، يبدو أن عدداً إضافياً من المواطنين سينضم إلى الدعوات المرتبطة بتوسيع هامش الحرية في الحياة اليومية، حيث إن يونيور غارسيا وهو كاتب مسرحي عمره 39 عاماً، أصبح المتحدث باسم الكوبيين المنادين بالتغيير، فقال غارسيا حديثاً: "نحن نريد بلداً تعددياً فيه مكان لجميع الناس، حيث تُحترَم حقوق جميع المواطنين"، لكن تحقيق أبسط الأهداف قد يكون الأصعب على الإطلاق أحياناً.

*جون لي أندرسون

Foreign Affairs

back to top