المحكمة الجنائية الدولية وتحقيقها الشائب بشأن أفغانستان

نشر في 12-11-2021
آخر تحديث 12-11-2021 | 00:00
كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية
كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية
إذا أصرّت المحكمة الجنائية الدولية على الانسحاب من التحقيقات الصعبة المرتبطة بسلوك الدول القوية فستجازف بتبرئة الغرب دوماً مقابل تأديب وإدانة بقية الأطراف، وإذا تبلور هذا الوضع الخطير على أرض الواقع، فقد تخسر المحكمة أعضاءها.
بعد مرور بضعة أشهر على تسلم كريم خان منصب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، يبدو أنه فشل منذ الآن في اختبار مهم، فقد أعلن خان في أواخر شهر سبتمبر أنه سيستأنف التحقيق بجرائم الحرب المشبوهة والجرائم ضد الإنسانية في أفغانستان منذ عام 2003، لكنه سيعطي الأولوية للانتهاكات المزعومة من جانب حركة "طالبان" وتنظيم "الدولة الإسلامية في ولاية خراسان" مقابل تخفيف التركيز على "جوانب أخرى من هذا التحقيق"، منها الجرائم التي يُفترض أن تكون ارتكبتها قوات الأمن الوطنية الأفغانية والجيش الأميركي ووكالة الاستخبارات المركزية.

من خلال تضييق نطاق التحقيق، يسمح خان للولايات المتحدة بتجنب عواقب أفعالها ويحرم الضحايا الأفغان من أي وسيلة لتحقيق العدالة أو محاسبة المرتكبين، وهذه المقاربة ليست مجرّد بداية سيئة في مسيرة خان كمدع عام، بل إنها تُرسّخ أيضاً الفكرة القائلة إن مساعي المحكمة الجنائية الدولية لتحقيق العدالة ليست متوازنة، قد ترحّب الولايات المتحدة بهذه الخطوة في الوقت الراهن، لكن لن تكون خسارة المحكمة لشرعيتها كمؤسسة دولية في مصلحة واشنطن.

لن تقتصر تداعيات قرار خان على الولايات المتحدة وأفغانستان، بل إن الدول الأخرى التي تواجه تحقيقات محتملة ستتنبه إلى هذه الخطوة أيضاً، ونتيجةً لذلك، أصبحت المخاطر المطروحة على المحكمة وشرعيتها في أعلى المستويات، حيث تواجه المحكمة الجنائية الدولية منذ سنوات تُهَماً بإطلاق خط استعماري جديد لأن تحقيقاتها تُركّز على دول في الجنوب العالمي، فكانت جميع تحقيقات المحكمة السابقة تتعلق بدول إفريقية، ولا يزال جميع المتّهمين حتى الآن من الأفارقة، وقد يزداد الوضع تعقيداً اليوم بسبب رفض إجراء التحقيقات حول دولة قوية في الشمال الجنوبي، مثل الولايات المتحدة، حيث يجب أن يثبت خان إذاً أن المحكمة الجنائية الدولية تستطيع إجراء تحقيقات صعبة ضد الدول النافذة، وإلا سيعتبرها الكثيرون مؤسسة منحازة وغير شرعية.

سجل شائك مع الولايات المتحدة

كانت علاقة واشنطن معقدة مع المحكمة الجنائية الدولية منذ نشوئها، إذ شاركت الولايات المتحدة في المفاوضات التي مهّدت لتأسيس المحكمة، لكنها من بين الدول السبع التي صوّتت ضد "نظام روما الأساسي" الذي كان ركيزة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في عام 1998، عاد الرئيس بيل كلينتون ووقّع على المعاهدة في عام 2000، لكن لم يتم إرسالها إلى مجلس الشيوخ الأميركي للمصادقة عليها، وفي عام 2002، ألغى الرئيس جورج بوش الابن ذلك التوقيع على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، وأبلغ أمين عام الأمم المتحدة والولايات المتحدة بأنه لا ينوي الانضمام إلى المحكمة مطلقاً. في الوقت نفسه، أطلقت الولايات المتحدة عمليات عسكرية في أنحاء الشرق الأوسط تحت شعار مكافحة الإرهاب.

في عام 2006، فتحت المحكمة الجنائية الدولية "تحقيقاً أولياً" حول ادعاءات مرتبطة بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية خلال حرب أفغانستان منذ عام 2003، فقد أراد لويس مورينو أوكامبو، المدعي العام للمحكمة في تلك الفترة، أن يُحقق بالانتهاكات المشبوهة من جانب القوات الموالية للحكومة والمعارضة لها، وكانت تلك المرة الأولى التي تفرض فيها محكمة جنائية دولية أي شكل من السلطة على عناصر في القوات المسلحة الأميركية.

مع تقدّم تحقيق المحكمة الجنائية الدولية، قاومت الولايات المتحدة جميع الخطوات المتلاحقة، وأصرّت إدارة بوش على عدم السماح لأي عنصر أميركي بالرضوخ للمحكمة لدرجة أن تشترط في مرحلة معينة ألا تُسلّم الدول التي تتلقى المساعدات الخارجية أي مواطنين أميركيين إلى المحكمة، وتغيّر مسار عدد كبير من "اتفاقيات الحصانة الثنائية" هذه في نهاية المطاف، ثم دعمت الإدارة الأميركية ضمناً قرار مجلس الأمن بإحالة قضية الإبادة الجماعية في دارفور، بالسودان، إلى المحكمة الجنائية الدولية لإجراء التحقيقات اللازمة، لكن بوش رفض في مناسبات متكررة أن تفرض هذه المحكمة سلطتها على الولايات المتحدة.

في المرحلة اللاحقة، دعمت إدارة باراك أوباما المحكمة الجنائية الدولية دبلوماسياً ومالياً حين كان عملها يخدم مصالح واشنطن، فأيدت الإدارة الأميركية مثلاً قرار الأمم المتحدة بإحالة ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية لإجراء التحقيقات بعد سقوط الدكتاتور معمر القذافي في عام 2011، وساهمت في اعتقال هاربين من أمثال قائد الميليشيا المسلحة الكونغولية بوسكو نتاغاندا ونقلهم إلى المحكمة، لكن على غرار بوش، اعتبر الرئيس أوباما خيار الانتساب إلى المحكمة الجنائية الدولية (وبالتالي فرض سلطة المحكمة على الأميركيين) غير وارد، وفي ما يخص أفغانستان، اعترف أوباما "بتعذيب بعض الأشخاص"، لكنه أعلن أن البلد كان يحتاج إلى "التطلع إلى الأمام بدل النظر إلى الوراء"، كما أنه أشاد بعناصر الجيش الأميركي لأنهم "بذلوا جهوداً كبرى للحفاظ على أمن الأميركيين" وما كان يُفترض أن يهدروا وقتهم وهم يشعرون بالقلق على سلامتهم برأيه.

في المقابل، أنهى الرئيس دونالد ترامب جميع أشكال التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، حتى في القضايا التي تخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، على غرار التحقيقات المستمرة في ليبيا والسودان، ثم جاء الرئيس جو بايدن ليعكس عقوبات ترامب ضد فاتو بنسودا، المدعية العامة قبل خان، ومسؤولين آخرين في المحكمة بعد أشهر قليلة على وصوله إلى سدة الرئاسة، وقد تكلم عن تجدّد الاهتمام الأميركي بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، شرط أن تكون التحقيقات مرتبطة بالدول الأخرى، ولا يزال بايدن مُصِراً على رفض تطبيق صلاحيات المحكمة ضد الجنود وعملاء الاستخبارات الأميركيين.

عدالة جزئية

ستكون نزعة خان الانتقائية في تحقيق أفغانستان مُحبِطة بالنسبة إلى المدافعين عن العدالة الدولية تحديداً لأن هذه المقاربة تمنح الولايات المتحدة ما تريده، أي غياب أي محاسبة جدّية، لكنّ خان ليس أول مدع عام يتخذ هذا النوع من القرارات، فقد قررت بنسودا مثلاً عدم التحقيق بجرائم حرب مزعومة ترتبط بعناصر من الجيش البريطاني في العراق، وتجازف تحقيقات مستمرة أخرى في المحكمة الجنائية الدولية بتطبيق مقاربة المحاسبة نفسها، مما يعني تحقيق العدالة ضد الضعفاء والامتناع عن محاسبة الأقوياء.

في الأراضي الفلسطينية مثلاً، باتت القوات الإسرائيلية والفلسطينية معاً مُتّهمة بتنفيذ تحركات غير قانونية، وعلى الجانب الإسرائيلي، تشمل هذه التُهَم إنشاء مستوطنات غير قانونية، أما القوات الفلسطينية وحركة "حماس"، فهي مُتّهمة باستعمال صواريخ غير قانونية، لكنّ فلسطين منتسبة إلى المحكمة الجنائية الدولية، على عكس إسرائيل، ولهذا السبب، رفضت إسرائيل مطالب المحكمة بفرض سلطتها عليها، كذلك، عارضت الولايات المتحدة هذا التحقيق، فهذه المعارضة الأميركية تفيد الإسرائيليين لأن إسرائيل هي حليفة قديمة لواشنطن في المنطقة، كما أنها تخدم مصالح الولايات المتحدة لأن واشنطن لا تريد أن تمنح المحكمة الجنائية الدولية صلاحيات غير مسبوقة ضد الدول غير المنتسبة إليها.

بدأ تحقيق آخر ومشابه في جورجيا، حيث تُحقق المحكمة بجرائم حرب مزعومة وجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب التي اندلعت في عام 2008 وشملت قوات من جورجيا وروسيا ومن منطقة أوسيتيا الجنوبية المتنازع عليها التي تحتلها روسيا الآن، وعلى غرار الولايات المتحدة وإسرائيل، رفضت روسيا سلطة المحكمة الجنائية الدولية، وكانت موسكو قد وقّعت على "نظام روما الأساسي" ثم ألغت المصادقة عليه بعد إطلاق التحقيق حول جورجيا في عام 2016، وبعدما استنكرت المحكمة ضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.

لم يحصل أي تقدّم بارز في تحقيق جورجيا، لا سيما في ما يخص تورط روسيا، ولم يُحدد مكتب المدعي العام في المحكمة أي مشتبه بهم فرديين ولم يُصدِر أي مذكرات توقيف أو استدعاءات، وتباطأ مسار التحقيق حول شبه جزيرة القرم بالطريقة نفسها أيضاً، ثم أنهت بنسودا بحثها الأولي هناك في نهاية عام 2020، لكنها لم تتخذ الخطوة المنطقية اللاحقة التي تقضي بطلب إذن من قضاة المحكمة لفتح تحقيق شامل.

إذا أصرّت المحكمة الجنائية الدولية على الانسحاب من التحقيقات الصعبة المرتبطة بسلوك الدول القوية، فستجازف بتبرئة الغرب دوماً مقابل تأديب وإدانة بقية الأطراف، وفق ما كتبه خبير العلاقات الدولية عمر با حديثاً في صحيفة "فورين أفيرز"، وإذا تبلور هذا الوضع الخطير على أرض الواقع، فقد تخسر المحكمة الجنائية الدولية أعضاءها، وقد سبق أن انسحبت بوروندي والفلبين من المحكمة بحجة انحيازها لأطراف معينة، وقد يحذو آخرون حذوهما أو يتجاهلون المحكمة بكل بساطة أو يرفضون التعاون معها.

كان تحقيق أفغانستان سيمنح المحكمة الجنائية الدولية فرصة قيّمة لبدء عقدها الثالث عبر ترسيخ سلطتها على القوى العظمى العالمية بطريقة قانونية ومنطقية وقوية، وكان هذا الوضع سيسمح للولايات المتحدة في المقابل بتقييم أضرار حربٍ امتدت على عشرين سنة، قد يتكلم المدافعون عن خان حول نزعته البراغماتية لمنع أي مواجهة شاملة محتملة مع الولايات المتحدة في حال اتهام جنودها وإصدار مذكرات توقيف بحقهم أو محاكمتهم، لكن مبدأ تجنّب الصراعات يتعارض مع غاية المحكمة الأصلية لأن المحاسبة ليست عملية طوعية، وفي هذا السياق تقول خبيرة القانون الدولي، صوفي دوروي: "حين يقرر المدعي العام في أي محكمة دولية، وهو المُكلّف بإنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب بحق جميع المرتكبين بلا استثناء، أن يجري تحقيقاً أحادي الجانب... لا مفر من انتشار انطباع حول ازدواجية المعايير، لا البراغماتية".

مع ذلك، يبقى الأمل موجوداً، فقد سبق أن عكست المحكمة الجنائية الدولية مسارها في الماضي على مستوى علاقتها مع الولايات المتحدة، ورُفِض طلب بنسودا بفتح تحقيق كامل حول الحرب في أفغانستان في عام 2019، ثم تمت المصادقة عليه في عام 2020، وقد يعكس خان قراره الأخير أيضاً، شرط أن تتصاعد الضغوط عليه وتدفعه إلى إعادة تقييم أولوياته وتقدير التكاليف المترتبة على العدالة الجنائية الدولية وحُكم القانون على المدى الطويل.

* كيليبوجيل زفوبغو

Foreign Affairs

المحكمة تواجه منذ سنوات تُهَماً بإطلاق خط استعماري جديد فتحقيقاتها تُركّز على دول في الجنوب العالمي
back to top