ما نظرة باكستان إلى أفغانستان؟

نشر في 29-10-2021
آخر تحديث 29-10-2021 | 00:02
باكستان أسهمت في إجلاء نحو 20 ألف مواطن أجنبي وأفغاني بعد الانسحاب الأميركي
باكستان أسهمت في إجلاء نحو 20 ألف مواطن أجنبي وأفغاني بعد الانسحاب الأميركي
السلطات الجديدة التي تقودها «طالبان» مضطرة لإثبات استعدادها لحُكم أفغانستان بطريقة أكثر اعتدالاً، لكن التاريخ سيحكم بقسوة على الجميع إذا لم تحاول الدول المعنية إنشاء أفضل بيئة ممكنة لدفعها في الاتجاه الصحيح وتحقيق مصالح الأفغان والعالم في آن.
كان الرئيس جو بايدن محقاً حين قرر إنهاء المهمة العسكرية الأميركية في أفغانستان، فقد اتّضح أن النظام في كابول يعجز عن حماية نفسه، وكان دعمه بمليارات الدولارات الإضافية سيؤخر انهياره الحتمي بكل بساطة، ونظراً إلى نفور المجتمع الأفغاني تاريخياً من الاحتلال الأجنبي، كان إيجاد حل عسكري يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة لإنهاء الصراع مستحيلاً، ولهذا السبب حرصت باكستان على تأييد تسوية دبلوماسية شاملة منذ بدء المفاوضات المعروفة باسم "عملية بون" غداة الغزو الأميركي في عام 2001.

اليوم، تواجه أفغانستان خيارَين: يمكنها أن تسلك طريق السلام الشاق أو تعود إلى حقبة الاضطرابات المدنية، حيث سيترافق الخيار الثاني مع تداعيات كارثية على الشعب الأفغاني، ويسهل أن تتمدد عواقبه إلى المنطقة المجاورة وأماكن أخرى، ولن تتحقق مصالح الشعب الأفغاني أو بقية دول العالم، لا سيما باكستان، في حال انتشار اللاجئين والمخدرات والأسلحة والإرهاب العابر للحدود، وستتوقف النتيجة النهائية على طريقة تعامل المجتمع المدني مع الواقع السياسي الجديد في أفغانستان وأسلوب الحُكم الذي تختاره حركة "طالبان".

حاولت الولايات المتحدة في مرحلة معينة الضغط على باكستان لتصعيد حملتها العسكرية ضد حركة "طالبان" الأفغانية، لكن وجود تلك الجماعة لم يكن منظّماً في باكستان وما كان أي تحرك عسكري ضد أفراد متفرقين ليغيّر الوضع في أفغانستان، بل إنه كان سيؤدي بكل بساطة إلى سقوط المزيد من الشهداء الباكستانيين. لهذا السبب، لم يكن التصعيد خياراً ممكناً بالنسبة إلى باكستان، وقد نقل الباكستانيون هذه الرسالة إلى الولايات المتحدة خلال أكثر من عشر سنوات، وكان الخيار البديل يقضي بإقامة حوار سياسي لإجبار جميع الأطراف على تقديم التنازلات، ما يُمهّد لنشوء حكومة شاملة وإنهاء الصراع قبل سنوات، لكن اعتُبِر الباكستانيون غير صادقين دوماً حين كانوا يطرحون هذا الحل.

لكنّ انهيار حكومة أشرف غني سريعاً أكّد عدم ارتباط باكستان بإخفاقات الحكومة، بل تنجم عودة "طالبان" عن استفحال الفساد، وسوء الحُكم، ورفض الأفغان دعم حكومتهم ودولتهم، وقرار قوات الأمن الوطنية الأفغانية بعدم القتال ضد حركة متمردة ومسلّحة. كان مفاجئاً إذاً أن يتابع البعض في واشنطن وعواصم غربية أخرى لوم باكستان على هذا الفشل، لكنّ هذا اللوم ليس مغلوطاً فحسب، بل إنه يُضعِف روح التعاون الدولي المطلوب لإنهاء دوامة العنف التي دمّرت أفغانستان.

أفضل مقاربة في المرحلة المقبلة

تستحق أفغانستان السلام والازدهار، لكن لا يمكن تحقيق هذه الأهداف إذا استمر تبادل اللوم بين اللاعبين الدوليين، ولن يستفيد أحد أيضاً من تكرار الأخطاء المرتكبة في فترة التسعينيات، حين تخلّت الولايات المتحدة عن أفغانستان وفرضت عقوبات على باكستان، حليفتها المقرّبة خلال الثمانينيات، بعد طرد السوفيات من كابول، وقد أدى هذا الوضع إلى عزل المنطقة تزامناً مع تلاشي المساعدات العالمية وتراجع الاهتمام الدولي بهذا الملف، فأصبحت أفغانستان على طريق الحرب الأهلية والانهيار الاقتصادي، وزادت قوة العمليات الإرهابية الدولية التي بلغت ذروتها في اعتداءات 11 سبتمبر.

سيواجه الأفغان والباكستانيون العاديون أكبر المخاطر المرتبطة بغياب الاستقرار في أفغانستان دوماً، لكن موجات الهجرة الجماعية والأعمال الإرهابية تُهدد العالم أجمع، ومن مصلحة كل بلد إذاً أن يمنع التاريخ من تكرار نفسه.

تقضي أكثر الخطوات أماناً في المرحلة المقبلة أن يتعاون المجتمع الدولي مع الحكومة الجديدة في كابول بطريقة بناءة، ويجب أن يتمحور الهدف الأساسي حول إنشاء الظروف التي تمنح المدنيين الأفغان معيشة لائقة وتسمح لهم بالعيش بسلام، ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن يؤدي المجتمع الدولي، لا سيما الدول التي كانت حاضرة في أفغانستان طوال عشرين سنة، دوراً إيجابياً لدعم السلام والاستقرار.

كانت باكستان في طليعة الدول التي بذلت جهوداً إنسانية منذ سقوط كابول، فشاركت في إجلاء نحو 20 ألف مواطن أجنبي وأفغاني من البلد وأنشأت جسراً جوياً وبرياً لنقل إمدادات الطوارئ إليه. هذه الجهود مهمة طبعاً، لكن يجب أن يتطور التواصل الدبلوماسي مع أفغانستان بدرجة إضافية، فلا تملك أفغانستان الموارد أو القدرات المؤسسية اللازمة للتصدي للكارثة الاقتصادية التي تواجهها، ولإرساء سلام دائم، يجب أن يُحدّد المجتمع الدولي الوسائل التي تسمح بتأمين المساعدات التنموية تزامناً مع معالجة المخاوف المرتبطة بظروف البلد، لكن نظراً إلى هشاشة الوضع الإنساني والاقتصادي في أفغانستان، يُعتبر الوقت عاملاً جوهرياً. سيكون الانتظار إلى حين تغيّر الأوضاع مرادفاً للتخلي عن البلد، مع أن عدداً كبيراً من الدول يعتبر هذه المقاربة أكثر منطقية من الناحية السياسية.

لا تختلف توقعات باكستان حول الحكومة الجديدة عن تطلعات الحكومات الغربية: تريد باكستان نشوء دولة شاملة تحترم حقوق جميع الأفغان وتضمن عدم استعمال الأراضي الأفغانية لإطلاق عمليات إرهابية ضد أي بلد آخر، وعلى عكس ما حصل خلال التسعينيات، عبّرت حركة "طالبان" في مناسبات متكررة عن اهتمامها بمتابعة التواصل مع العالم، إنها فرصة مناسبة للمجتمع الدولي، ويمكن استغلال تأثير المساعدات والشرعية التي ستحصل عليها "طالبان" بفضلها لإرساء نظام حُكم شامل في عهد الإدارة الجديدة.

خلال الشهر الماضي، أطلقت باكستان مبادرات دبلوماسية مع الدول المجاورة لأفغانستان وبلدان أخرى في المنطقة لمناقشة المقاربة المناسبة للمرحلة المقبلة، فهذه الجهود ستستمر، لكن يجب أن تتزامن الدبلوماسية الغربية أيضاً مع مبادرات إقليمية لوضع أجندة مشتركة وتحديد القنوات الثنائية أو متعددة الأطراف لنقل المساعدات المطلوبة، ويمكن البدء بتنظيم مؤتمر واسع بين الجهات المانحة حيث يجلس اللاعبون الإقليميون والدول الغربية معاً لوضع خطط محددة لتقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية، كما يجب أن تتفاهم هذه الأطراف أيضاً حول شروط الإفراج عن احتياطيات البنك المركزي الأفغاني، علماً أن الولايات المتحدة تملك معظمها، ويمكن الاستفادة من هذا المنتدى لتشجيع الدول التي أطلقت مشاريع تنموية غير مكتملة في أفغانستان وحثّها على التفكير بإنهائها لمساعدة الشعب الأفغاني.

تسمح أي مقاربة عالمية مشتركة بتخفيض مخاطر الانقسامات الدولية بشأن أفضل طريقة للتواصل مع "طالبان"، ويجب أن يبقى الجميع واقعياً حول الأهداف التي يمكن تحقيقها في ظل الظروف الراهنة، لكن من المتوقع أن تُحسّن هذه المقاربة احتمال التوصل إلى نتيجة تفيد الأفغان العاديين ويسهل أن يتقبّلها المجتمع الدولي.

بصفتي مستشار الأمن القومي في باكستان، يقضي عملي بالدفاع عن الخيارات السياسية القادرة على حماية بلدي، وتدرك باكستان أنها لا تستطيع فك ارتباطها عن أفغانستان، إذ يتقاسم البلدان حدوداً مشتركة تفوق مساحتها 1600 ميل وتجمعهما روابط ثقافية تعود إلى قرون مضت، وهذه الروابط الجغرافية والاجتماعية تدفع باكستان إلى دعم السلام في أفغانستان لأن مظاهر الفوضى هناك قد تصل إلى بلدنا، ولا يمكن السماح لحركة "طالبان الباكستانية" أو "داعش" أو أي جماعات عدائية أخرى بإيذاء باكستان، كما أن وضعنا لا يسمح لنا باستقبال المزيد من اللاجئين الأفغان الذين يميلون إلى التوجه نحو باكستان حين تبدأ جولة جديدة من العنف في بلدهم الأم.

يدرك الباكستانيون أيضاً أن معيشة ملايين الأفغان مرتبطة بباكستان، وتتكل أفغانستان غير الساحلية على باكستان في مجالات التجارة والترانزيت، وقد يصبح موقع البلد الجغرافي مفيداً إذا تحوّل إلى معقل لعمليات الترانزيت بين آسيا الوسطى ومياه باكستان الدافئة، لكن حكومة أشرف غني أعاقت هذه الاحتمالات، فرفضت عرض باكستان بتكثيف التعاون التجاري والاقتصادي وتسريع المشاريع التي تشكّل صلة وصل مع آسيا الوسطى.

لن يكون هذا الشكل من التواصل أساسياً لتنفيذ رؤية باكستان الجغرافية والاقتصادية فحسب، بل إنه يتماشى أيضاً مع الرؤية الإقليمية التي تقودها الولايات المتحدة لإنشاء روابط اقتصادية بين أفغانستان وباكستان وأوزبكستان، وقد سبق أن أصبح عدد من هذه المشاريع قيد التنفيذ، بما في ذلك خطط لتفعيل تدفقات الطاقة والكهرباء من آسيا الوسطى، ومشروع سكك حديد عابر لأفغانستان من أوزبكستان، ومشاريع أخرى لتحديث الطرقات وإنشاء ممر حيوي بين مختلف النقاط. قد تطلق المشاريع الأميركية والاستثمارات التنموية الدولية والإقليمية الأخرى في مجالات الطاقة والمعادن والبنى التحتية حقبة جديدة من التعاون في المنطقة وتعزز جهود إرساء السلام.

تستطيع باكستان أن تدفع أفغانستان في اتجاه إيجابي ومثمر، ومن المتوقع أن تفعل ذلك، لكنها تعجز وحدها عن تحقيق النتائج التي يريدها الجميع، ولا تملك باكستان تأثيراً استثنائياً على الحكام الجدد في كابول، ولا يمكن أن تأتي المساعدات النقدية أو مواقف الاعتراف بشرعية "طالبان" إلا من القوى العالمية الكبرى، لكن قد يسمح التنسيق بين القوى الغربية، والصين، وروسيا، ودول الشرق الأوسط، وجيران أفغانستان بتحسين فرص تحقيق أهدافنا المشتركة في أفغانستان.

سلام دائم

تلتزم باكستان بإرساء السلام في أفغانستان والمنطقة عموماً. لقد تكبدنا خسائر بشرية ومادية هائلة لدعم الحرب المجاورة لبلدنا، وأثبتنا في مناسبات متكررة التزامنا بإعادة الاستقرار إلى أفغانستان وتعزيز ازدهارها الاقتصادي، كما أننا تعاونا مع الولايات المتحدة لتسهيل عملية السلام في أفغانستان، وواجهنا تهديدات إرهابية محلياً، واستقبلنا ملايين الأفغان على مر أربعة عقود، وطبّقنا سياسة ضبط النفس الاستراتيجي رغم الاستفزازات العدائية التي قامت بها جهات تخريبية. اليوم، تسعى باكستان إلى تعزيز التواصل الاقتصادي عبر إقامة روابط إقليمية وتطوير الشراكات تزامناً مع تسوية الخلافات السياسية سلمياً.

قد تصبح أفغانستان نموذجاً يُحتذى به لتحقيق هذه الرؤية الإقليمية، لكن يجب أن يؤدي المجتمع الدولي دوره في هذه العملية أيضاً، ومن خلال إشراك السلطات الأفغانية الجديدة اليوم، تستطيع الولايات المتحدة وقوى عالمية أخرى أن تمنع وقوع أزمة إنسانية كبرى، وتساعد الأفغان على العيش بسلام، وتضع حداً للتهديدات الإرهابية المشتقة من الأراضي الأفغانية نهائياً، فهذه الأهداف ليست جزءاً بسيطاً من مسؤوليات الدول الجماعية فحسب، بل إنها تسمح لها بتحقيق مصالحها الخاصة أيضاً.

في نهاية المطاف، ستضطر السلطات الجديدة التي تقودها "طالبان" لإثبات استعدادها لحُكم أفغانستان بطريقة أكثر اعتدالاً، لكن سيحكم التاريخ بقسوة على الجميع إذا لم تحاول الدول المعنية إنشاء أفضل بيئة ممكنة لدفعها في الاتجاه الصحيح وتحقيق مصالح الأفغان والعالم في آن، وإذا لم يحصل ذلك، فستضطر باكستان وحدها لتحمّل معظم التداعيات المترتبة عن أوضاع أفغانستان، وقد سبق أن تحمّلنا أصلاً أعباءً تفوق قدراتنا.

● مؤيد يوسف – فورين أفيرز

أفغانستان تواجه اليوم خيارَين إما طريق السلام الشاق أو العودة إلى حقبة الاضطرابات المدنية

وضعنا لا يسمح باستقبال المزيد من اللاجئين الأفغان الذين يميلون للتوجه نحو باكستان حين تبدأ جولة جديدة من العنف في بلدهم الأم مستشار الأمن القومي في باكستان
back to top