قيمة الحوار الوطني في تبني «مشروع دولة»

• «العفو» المرتقب يحقق هدفاً قصيراً... والتحدي الأكبر معالجة «خطايا» السنوات الماضية
• ضرورة تغيير نظام الإدارة الذي يسمح بوصول نواب ووزراء وقياديين لصوص أو عليهم شبهات

نشر في 21-10-2021
آخر تحديث 21-10-2021 | 00:05
محمد البغلي
محمد البغلي
أفضى «الحوار الوطني بين السلطتين التشريعية والتنفيذية»، الذي شهدته الكويت خلال الأسابيع الماضية، إلى تفاهمات أولية لطيّ واحدة من أشهر صفحات الخلاف التي سيطرت على المشهد السياسي خلال السنوات الماضية.

فمع تكليف سمو أمير البلاد رؤساء السلطات الثلاث باقتراح الضوابط والشروط، تمهيدا لإصدار مرسوم العفو عن المحكومين في قضايا سياسية، يكون هناك جانب مهم من الغرض القصير الأمد من الحوار قد تحقق، غير أن قيمة «العفو» الحقيقية - على أهميته - هي في اعتباره كإعلان حُسن نوايا بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، أو أساس تفاهم بينهما كي يفضي الى معالجة «خطايا» السنوات الماضية التي عانتها الكويت، وباتت تهدد استدامتها،

وتستنزف أي جهد أو ثروة فيها.

وهذه الخطايا تتجاوز في أهميتها أي ملفات سياسية مهمة، كأوضاع البدون أو الحريات، أو خدمية كالإسكان والتعليم والصحة، أو حتى اقتصادية كأزمة نفاد السيولة في المالية العامة أو تصاعد تحديات الإنفاق العام سنويا.

فنجاح الحوار بين السلطتين، إن استمر، لا يتطلب التوافق على قوانين معيّنة مهما بلغت أهميتها، فالقوانين مكانها في الاقتراح والمناقشة مجلس الأمة ولجانه، إنما وضع أساس من الثقة والتفاهم يفضي الى مشروع دولة يخفض من عوامل الخلاف التي طغت على المشهد السياسي منذ 20 عاما، ويتجاوز كل سلبيات السنوات الماضية التي شهدت فيها الكويت انحدارا عميقا على مختلف الصٌّعد، عبر دعم خطوات تضع الخطوط الأولى لتغيير جوهري في نظام الإدارة العامة الذي سمح بوصول وتولّي نواب ووزراء وقياديين مشبوهين ولصوص مناصب تشريعية وتنفيذية على درجة عالية من الأهمية.

استهلاك الأدبيات

إن تبنّي مشروع دولة ينطوي تحته إنجاز كل المشاريع المؤجلة كافة والتعامل مع التحديات القائمة، فقد استهلكت الكويت خلال 20 عاما مضت أدبيات متنوعة بشأن المشاريع الكبرى؛ أبرزها خطط التنمية، ومشاريع المركز التجاري والمالي، ووثائق الإصلاح الاقتصادي وتوصيات اللجان الحكومية العليا والفرعية والمنبثقة والمؤسسات المحلية والدولية، لكن لم يكن أيٌّ منها مشروعا بالمعنى الحقيقي للدولة، بل في معظمها تجميع لخطط بعضها متناقض من وزارات الدولة ومؤسساتها، وبلا آليات تنفيذ، وعلى الأغلب كما ورد في وثيقتي الإصلاح الاقتصادي 2016 واستدامة 2018 تتضمن عرضا للأزمة الاقتصادية والمالية من دون تقديم حلول عملية.

وحتى اللقاءات الأخيرة لسمو رئيس مجلس الوزراء مع خريجي جامعة الكويت المتفوقين، قبل نحو شهرين، أو عبر اجتماعات مجلس الوزراء «الأربعائية» المخصصة للشؤون الاقتصادية تكشف أن ثمّة خلطا واضحا في الخطاب الحكومي بين المشاريع الكبرى و«المشروع الواضح للدولة».

استدامة وتطور

فالأول، أي المشاريع الكبرى، يتعلّق بالبنية التحتية وإنجازها ومدى تقديم الخدمة للعملاء أو المستهلكين، أما مشروع الدولة فيستهدف الاستدامة، ويجب أن يتوجه على الأقل إلى مجتمع يضم أكثر من 640 ألف كويتي وكويتية دون سن الـ 20 عاما، حيث يهتم أولا بتوجيه ما يُنفق على تعليمهم وتطوير قدراتهم ومهاراتهم، وتاليا في تحويل مشاريع البنية التحتية التي يجري تنفيذها الى منافع اقتصادية واجتماعية لهم، من خلال فرص العمل وجذب الاستثمارات ودعم المبادرات، وصولا الى نقل اقتصاد البلاد من واقعه الحالي المنكشف بحساسية عالية على تقلبات أسعار النفط، إلى اقتصاد شبه متنوّع قادر على التعامل مع مختلف الأزمات، حتى وإن كان مشروع الدولة يستهدف على المدى المتوسط وجود توازنات معقولة لاختلالات الإيرادات العامة وسوق العمل والتركيبة السكانية... وهذا كله سيكون في إطار الخطاب الإنشائي المكرر، ما لم تنفذه حكومة ترتكز على البرامج بعيدا عن محاصصة الجينات والولاء، ويراقبها مجلس تشريعي معبّر عن إرادة الناخبين في بيئة تسمح بالتطور السياسي الذي يؤدي الى تطوير مختلف أوجه الحياة الأخرى.

ضريبة غياب المشروع

في الحقيقة، لا يوجد في أفق الدولة ولا في الحوار الوطني ولا حتى القوى السياسية أو مؤسسات المجتمع المدني - حاليا على الأقل - أي بوادر أو برامج يمكن أن تفضي الى إحداث تغيير جوهري في آليات الإدارة نحو خلق مشروع للدولة، وهذا ما يجعل الكويت دائما تدفع ضريبة غياب المشروع على صيغ مختلفة، منها ارتفاع حدة الخطابات والمقترحات الشعبوية، ومنها أيضا أن تتحول خطط الحكومة الاقتصادية الحالية لتجاوز معضلة على مستوى نفاد السيولة الى مقترحات ذات أثر قصير - بغضّ النظر حتى عن كفاءتها - كالسحب من احتياطي الأجيال القادمة، أو الاقتراض عبر بوابة الدَّين العام، ومنها أيضا إخفاقات في تنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبرى أو في تحقيق أهدافها، ومنها ما هو أهم، وتحديدا التهديد المستمر لصيغة الحياة غير المستدامة في الكويت.

نفاد وإهمال

إن تجاوز المرحلة الحالية، التي ستمتد آثارها إلى المستقبل، بقدر ما يتطلب إصلاح مناحي الإدارة والسياسة، فإنه يتطلب أيضا تبنّي مشروع دولة حقيقي، في وقت تتردى أوضاع الكويت بين نفاد سيولة الاحتياطي العام، وصولا الى تحوّل الإهمال الى خطر يستهدف حياة الناس في الشوارع، كان آخرها فقد شاب حياته نتيجة سوء إغلاق غطاء منهول في الطريق، وما بينهما من مشكلات خدمية؛ كانتشار الحصى في الشوارع، أو تحوّل العلاج في الخارج من خدمة إلى تنفيع سياسي وانتخابي، ناهيك بالفشل في ترجمة الإنفاق الملياري على التعليم والصحة والسكن الى حلول تنموية.

ولعل أزمة الكويت على المديين المتوسط والطويل ليست في الصراع الحكومي - النيابي، أو ما يُعرف بالتأزيم، أو حتى في منع انعقاد جلسات مجلس الأمة، إنما في اختلالات اقتصادية ومالية لم يعد حتى ارتفاع أسعار النفط قادرا على معالجتها أو تغطيتها.

ليس ترفاً

ثمّة أسئلة عديدة عن آثار دخول الكويت لسوق الديون السيادية ومدى حصافة الاقتراض في ظل سياسات الهدر وتعاظم الإنفاق وعن كفاءة توجيه مصروفات الميزانية لمصلحة المشروعات ذات القيمة التنموية أكثر من الاستهلاكية، وهل يمكن إعادة تنمية الاحتياطي العام بعد استهلاك سيولته خلال أقل من 5 سنوات، وفوق ذلك كله أمامنا تحديات سوق العمل والتركيبة السكانية وخلق بيئة استثمارية مجدية للمستثمر المحلي والأجنبي، ومعالجة إخفاقات المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ناهيك بتدهور سمعة الكويت الاقتصادية والمالية التي تعرّضت للتشويه بسبب جرائم الرشا والأموال المشبوهة وعمليات غسل الأموال.

لذلك، فإن الحديث عن حوار وطني يضع الأساس لمشروع دولة، يستهدف معالجة ما يمكن معالجته من سلبيات السنوات الماضية وتحديات الأعوام القادمة، ليس ترفا ولا تنظيرا، بل مطلب وطني يتجاوز في أهميته حتى العفو عن أبناء الكويت المهجّرين والسجناء لأسباب سياسية.

الكويت استهلكت خلال 20 عاماً مضت أدبيات متنوعة بشأن المشاريع الكبرى وخطط الإصلاح دون جدوى

أوضاع البلاد تتردى بين نفاد سيولة الاحتياطي العام وتحوّل الإهمال إلى خطر يستهدف حياة الناس في الشوارع

الأزمة ليست في التأزيم بل في اختلالات اقتصادية ومالية لم يعُد حتى ارتفاع أسعار النفط قادراً على معالجتها أو تغطيتها
back to top