مرثية إلى أمي

نشر في 08-10-2021
آخر تحديث 08-10-2021 | 00:00
 جاسم كلمد قطعت القارات وحيدا ونصب عينيّ بوابات عالم الموتى، كي أستعيد أمي التي تأخرت هناك أكثر مما يجب، لعل تأخيرها سببه شاغل طرأ، أو لعلها ببساطة أضاعت طريق العودة، كانت أختي قد هاتفتني من عاصمة الأنوار كما يطلقون عليها زوراً، وقالت بصوت مذعور بأن أمي في غيبوبة، عجّل إلينا، أسرِع، فتساقطت كلماتها حولي كنقوش عصية على الفهم، وامتلأ فمي بالتراب.

تم تشخيص أمي بسرطان الثدي من المرحلة الرابعة، وهي مرحلة تتضاءل فيها نسبة الشفاء، إلا أنه ليس بالمستحيل، فكتب لها الله الشفاء بفضله أول الأمر، لكن بعد ثلاث سنوات من علاجٍ بالكيماوي ترك جسدها منهكا، وأسبغ على ملامحها حزن راهبة مؤرقة، تدهورت حالها من جراء انتشار الخلايا السرطانية إلى أن بلغت منها المخ، فما عاد من دواء إلا الدعاء.

دخلتُ إلى مبنى صغير بدا وكأنه سقط من ذاكرة المدينة الحديثة، ترقد في باحته الخلفية مقبرة صغيرة تحفها أشجار كسولة، وجدت أمي في غرفة يتردد فيها نذير السكون وجثمانها مسجّى في تابوت، بدت وكأنها تنعم في نوم عميق، قرأت على روحها سورة التين، التي أخفى الله فيها سرّ نشأة البشر، ثم ودعتها.

ويوم جلست في الطائرة لرحلة العودة لم تكن أمي بجانبي، بل كانت في الأسفل في شحن الطائرة، مغمضة عينيها تنتظر سفراً ما بين أبدية زائلة وأخرى سرمدية، وفي الشهر الذي أنجبتني فيه أودعتها جوف أرضٍ كانت بيوم قد احتضنت إيكاروس بجناحيه.

لاحقاً وجدتُ أمي في غرفتي، لا أدري متى جاءت ولا كيف، ورأيتها تتجه بحزم إلى النافذة لتفتح الستائر على اتساعها فسطع ضياء الشمس في عيني، واستيقظتُ.

أحيانا يوقظنا الموتى من منامنا لنكف عن التمسك بهم ونتركهم يرحلون، أو لعلها أيقظتني لأواجه واقعاً تطالعني فيه إحصائيات مخيفة من موقع منظمة الصحة العالمية، وأرقام مدوّنة بحبر الموت تحكي عن: تشخيص ثلاثة ملايين ومئتي ألف امرأة بسرطان الثدي حول العالم في عام 2020 وحده، وأن هناك سبعة ملايين وثمانمئة ألف امرأة في السنوات الخمس الأخيرة أصابها المرض الذي انتشل بمخالبه روح أمي.

قريبا سأذهب لا محالة إلى العالم الذي غابت فيه أمي، وسأقف أمام بواباته التي تنتصب شامخة وراء بحر الظلمات، ربما لن يكون بين يديّ قيثارة أورفيوس لأرسل بألحانها الوحش ذي الثلاثة رؤوس إلى النوم، لكنني سأتمكن على الأقل من سؤالها عن السبب الذي شاغلها كل هذا الوقت، وجعلها تتأخر عن العودة إلى البيت حتى اليوم.

جاسم كلمد

back to top