التحفظ عن العفو الكامل... ومع العفو الجزئي

نشر في 06-10-2021
آخر تحديث 06-10-2021 | 00:07
أرى ألا نتفاءل ونؤمل كثيراً في حال تم العفو، فلن تتبدل الأجواء السياسية إلى الأفضل، ولن يتم التعاون المنشود بين السلطتين المجلس والحكومة لأنه «ما زال ما في النفوس في النفوس»، حيث لم يعد الاختلاف في الآراء حول قضايا ومواقف وأفكار بقدر ما هو خلاف ارتبط بأشخاص، وهذا من الصعب القضاء عليه والتخلص منه.
 يوسف الشايجي تداولت العديد من الأطراف السياسية في الفترة الأخيرة إعادة طرح قضيتي "العفو والمصالحة الوطنية" كأولوية للقضايا السياسية المطروحة على الساحة، وأنهما مدخلان رئيسان يسبقان أي نوايا أو أفكار أو برامج إصلاحية، بل يبالغ البعض بأن يطالب بأن يكون العفو أمراً حتمياً غير مشروط وغير مقبول حتى الحديث حول قبوله من عدمه، لدرجة أن يشعروك بأن أي حديث أو رأي يصب في التوجه المخالف لهذا المطلب كمن يدعو لهدم أسس الثوابت الوطنية التي قام عليها المجتمع الكويتي، وسيواجه بردة فعل من الاستهجان مساوية لمن يتحدث علناً ويدعو إلى التطبيع مع إسرائيل إن لم تكن أكثر، وأعتقد والأمر كذلك أن هذا يدخل في خانة الإرهاب الفكري خصوصا للمتعمقين في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لكني واثق بأن من يطالب بهذا العفو من منطلق الإيمان الحق بالحريات الخاصة والعامة هو مؤمن كذلك في الوقت نفسه بحق الرأي الآخر المخالف في التعبير عن رأيه.

بعد هذه المقدمة الواجبة نرجع إلى الوراء عدداً من السنوات العشر أو دون ذلك للتعرف أو للتذكير بخلفية الأحداث، وبما قام به هؤلاء المطلوب العفو عنهم، وما اقترفوه من أفعال وما تلفظوا به من أقوال رأى القضاء فيها ما يستحقون من أحكام سجن مع الشغل والنفاذ صدرت بحقهم، وحالياً يطالبون بإلغاء هذه الأحكام من خلال العفو الأميري.

باستعراض أبرز وأهم أحداث تلك المرحلة يأتي في مقدمتها:

- اقتحام مجلس الأمة وكسر باب قاعة عبدالله السالم المغلق حينها والعبث بمحتويات القاعة، والدوس بأقدامهم والوقوف على كراسي النواب وطاولة الرئاسة.

خطاب الإساءة للذات الأميرية المصونة دستورياً والمعروف باسم (لن نسمح لك) وترديده من العديد من قيادات الحراك وأنصارهم، ولم يكتفوا بمن أطلقه لأول مرة في ساحة الإرادة وسط حضور جماهيري كبير، والذي لو نظرنا بعين العدل والإنصاف لربما أنصفنا من ردده لأول مرة في لحظة انفعالية متأثراً بالحماس الزائد الذي خيم على ذلك اللقاء، مقارنة بالآخرين الذين لا عذر لهم في ترديده، حيث كانوا في أجواء هادئة مختلفة تماماً عن أجواء ذلك اللقاء المشحون حماساً، إضافة لعلمهم المسبق بتجريم القانون لذلك الخطاب، فأخذ ترديد هذا الخطاب من الآخرين صفة أو شكل التحدي والإصرار على مخالفة قوانين الدولة وفي أعلى درجاتها، وهي التطاول على مقام حاكم الدولة ورمزها.

تبني "بلاغ الكويت" المزور والمفبرك من قبل تلك القيادات والأفراد، واستندت إليه في الهجوم والإساءة على رئيسي السلطتين التشريعية والتنفيذية واتهامهما بالتخطيط للانقلاب على نظام الحكم رغم علمهم المسبق في التشكيك في محتوى تلك الأشرطة، وتبع ذلك التشكيك برئيس مجلس القضاء الأعلى رئيس السلطة القضائية كونه يأتي على قمة الهرم القضائي، وذلك بعد صدور حكم القضاء بعدم الاعتراف بصحة مضامين تلك الأشرطة، فتأكدت خصومتهم اللدودة للقضاء، حيث سبق ذلك الحكم حكم قضائي يقضي بصحة النظام الانتخابي المعروف بـ"الصوت الواحد" والذين خرجوا للشارع للمطالبة بإلغائه.

استغل شريط الفتنة للهجوم والتشكيك في مواطنة رؤساء سلطات الدولة الثلاث التي يقوم عليها نظام الحكم، وبعدم وفائها للسلطة الشرعية، بل شطح أحد تلك القيادات بعيداً، بعد أن راهن على صحة هذه الأشرطة عند عرضها على القضاء خارج الكويت الذي لا يُشترى أو يُرشى باتهام مباشر للقضاء الكويتي، فكيف لهذه القيادات وكياناتها السياسية التي تمثلها والتي تدعي المعارضة الإصلاحية من أجل الكويت وأمنها واستقرارها أن تتمنى من خلال تبنيها لشريط الفتنة بأن تكون هناك مؤامرة فعلية لقلب نظام الحكم وما ستسفر عنه تلك المؤامرة حتى في حال فشلها من آثار كبيرة مدمرة تقضي على أمن وأمان واستقرار الجبهة الداخلية، وذلك بدلاً من أن تكون هذه القيادات وكياناتها هي أول من يسعى إلى القضاء على هذه الفتنة لو صحت مزاعم ذلك الانقلاب (لا قدر الله) وتسرع في إعادة ربط أواصر المجتمع قبل تفككها سعياً لاستقرار وأمن الوطن، ولكن ما حدث منها مخالف لذلك تماماً؟

من خلال استرجاع هذه الأحداث يتبين لنا سخونة واحتقان الساحة السياسية والأمنية حينها، فلم تسلم أي سلطة من الإساءة لها أو أي ركن من أركان الدولة من التعدي عليه، ابتداء من رأس الدولة سمو الأمير الراحل ثم رؤساء السلطات الثلاث، مما يعرض أسس الدولة أي دولة للاهتزاز والانهيار.

يبرر كل ذلك من يطالب بالعفو عنهم بأنهم كانوا تحت ظروف صعبة وفي ظل تحركهم لمكافحة الفساد المتفشي حينها، لكن ذلك ليس مبرراً للقيام بكل تلك التجاوزات الخطيرة بحجة التصدي للفساد والمفسدين، فمن غير الجائز والمقبول أن نعالج الخطأ بخطأ أكبر منه، فقد مرت على الكويت ظروف سياسية أصعب من ذلك بكثير خلال الحل "غير الدستوري" للبرلمان في فترتين الأولى استمرت أربع سنوات ونصف السنة، والثانية ست سنوات... صحيح أنه في الفترة الأولى لم تأخذ أشكال المعارضة والرفض لذلك التعدي على الدستور الحجم والتحرك الكافي لإيصال الموقف الشعبي الوطني الرافض له، أما في الفترة الثانية فقد كان واضحاً رفض تلك الإجراءات من المعارضة الوطنية، ولكن من خلال اتباع أساليب تعبير سلمية آمنة لا تعرض البلد والمواطنين للخطر، تمثل في خطاب وطني موحد من خلال دواوين الاثنين المعروفة التي اتخذت طابعاً شعبياً عريقاً وحضارياً في تصديها للاستفراد بالقرار السياسي من قبل السلطة آنذاك ومن خلال رفع كتب مطالبة ومناشدات للسلطات العليا وإقامة الندوات الشعبية، ولم تنزلق للخطاب المسيء والمشكك للمخالفين لهم في مواطنتهم ووفائهم لبلدهم ونظامهم الشرعي، بالرغم مما جوبهت به قيادة المعارضة حينها من تعسف شديد من السلطة والتضييق الخانق عليها والحالة الأمنية شبه المستنفرة التي عاشها البلد في ظروف صعبة لم يمر بها من قبل، وصلت إلى المطاردات للناشطين السياسيين، واقتحام رجال الأمن للديوانيات متجاوزين حرماتها الخاصة والقبض على مرتاديها، ومع كل ذلك التزم الخطاب الوطني بمبادئه وتقديره لتلك الأحداث في حدودها الصحيحة، ولم يسمح بأن ينجر لأمور أخرى لا تحمد عقباها، ويرجع الفضل في ذلك إلى القيادة الحكيمة والرشيدة التي كانت تدير تلك التحركات المعارضة والمتمثلة بالنواب المعارضين لتلك الأوضاع ومن التف حولهم من شخصيات وطنية عريقة لا تقل حكمة عن هذه القيادة، وهذا بالضبط ما افتقدته قيادة هذه المجموعة محل النقد، إضافة للاختلاف الواضح في الخلفية الفكرية والثقافية لكلتا القيادتين.

كل ما سبق من أفعال وتجاوزات تلك القيادات موثق من خلال أشرطة الفيديو، وتم تداولها للعديد من المرات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

من جانب آخر العفو متوافر ومتاح لكل من يشعر بالحنين إلى الوطن حقاً ويرغب في العودة، فما عليه سوى أن يحزم حقائبه ويعود ولا ينتظر الموافقة على العفو من عدمه، وسيلقى المعاملة نفسها التي تمت مع اثنين أو أكثر من زملائه، قبل نحو سنتين في أواخر حكم المغفور له الشيخ صباح الأحمد، حيث حضروا للكويت وقضوا يومين أو ثلاثة بحد أقصى رهن الحجز وتقدموا أثناءها بكتاب طلب العفو من سمو الأمير من خلال أقربائهم، فتمت الموافقة على الطلب وخرجوا من الحجز، ومع تقديري الشديد لهذا الإجراء المتبع والمرن جداً إلا أنني "أتحفظ" عنه فقط من حيث مدة الحجز اليومين أو الثلاثة.

كان من الأفضل أن تكون مدة الحجز نصف المدة التي قررها الحكم القضائي و"يعفى بعدها مما تبقي من عقوبة وذلك من أجل.. إعطاء الأحكام القضائية وسريانها القيمة الحقيقية والفعلية لها، فيفترض في دولة قانون ومؤسسات إعلاء سلطة القانون والأحكام القضائية.

وهذا الإجراء المقترح أو الافتراضي يتفق وقناعتي ويعبر عن موقفي المبدئي من تقييم هذه الأحكام منذ بدء صدورها والإعلان عنها والتي رأيت فيها تعسفاً بحق المحكومين خصوصا أن هذه السابقة الأولى لهم أو لغالبيتهم، صحيح هم أخطؤوا ويجب أن ينالوا جزاء خطئهم ذلك بموجب القانون، ولكن كان يجب الأخذ بالاعتبار أنها سابقتهم الأولى، فكان التدرج في العقوبة هو المطلوب، لذلك كانت تلك الأحكام فيها شده غير مرغوبة من وجهة نظري.

للأسف من يطالبون بالعفو عنهم للعودة من الواضح أنهم ما زالوا وبعد مرور كل هذه المدة يكابرون في الاعتراف بأخطائهم وتجاوزاتهم وما زالوا على الأفكار والنهج التصعيدي نفسه للأوضاع فماذا نتوقع منهم، عند عودتهم؟!

فليست هناك أي مؤشرات على تغيير هذا النهج العدائي، وشخصنة القضايا الذي أصبح نهجاً لما بعدهم من نواب تدعي المعارضة، وكلنا عشنا دور الانعقاد الأول للمجلس الحالي الذي لم يمر على الحياة البرلمانية الكويتية بتاريخها الممتد لنحو 60 عاماً دورٌ مثيلٌ له، حيث لم يعقد أي جلسات عادية طوال سبعة أشهر كاملة سوى جلستي الإجراءات في بداية الدور جلسة الافتتاح وجلسة انتخابات اللجان البرلمانية، أما ما تلا ذلك فلم تعقد أي جلسات غير تلك التي كانت بالكاد تعقد لدقائق لإقرار إجراءات ضرورية، كما تم في جلسات إسقاط عضوية النائب بدر الداهوم بعد الحكم القضائي بذلك وجلستي الحساب الختامي وميزانية الدولة التي وافقت عليها الحكومة وهي واقفة عند مدخل قاعة عبدالله السالم في مشهد غريب، ثم أصبح من المألوف أن تنتهي هذه الجلسات بالصخب الفوضوي في مشاهد غريبة جداً لم يسبق أن شهدتها هذه القاعة، وذلك بفضل نواب (العفو والمصالحة)، فهل هذه المشاهد تبعث على الاطمئنان بانتهاء ذلك النهج العدائي الشخصاني أم هي تعزيز وتطوير له، حيث تم تحديث صور رئيسي السلطتين التشريعية والتنفيذية السابقين عند استبدالهما بصور الرئيسين الحاليين في خطوة لإعادة المشهد السابق، وذلك إثر عدم إنجاح مرشحهم للرئاسة في الجلسة الافتتاحية في واقعة "الباركود" الشهيرة والمهينة لكل من شارك فيها.

ومما زاد تلك المشاهد قتامة خضوع واستسلام بعض النواب ممن كنا نأمل منهم خيراً ونتوسم فيهم استقلالية الموقف الوطني لهذه التجاوزات دون حتى التصريح باستنكارها ورفضها لتكتمل عندها الصورة سواداً، فهل كل ما تقدم من مشاهد وبعين المراقب المحايد مؤشر لانتهاء تلك الحقبة وطي صفحتها كما يأمل ويصرح من يدعون للعفو والمصالحة؟ أم هو توجه مخالف له واستمرار لهذا النهج التصعيدي بل بصورة أشد؟

ونتيجة لكل هذه المؤشرات والمعطيات تم الدفع بالكثيرين للتحفظ عن عملية العفو خوفاً من عودة أجواء الحراك المشحونة والمحتقنة التي أزعجت الكثيرين وأرعبتهم وجعلتهم يرددون: "لا طبنا ولا غدا الشر"، أو كما قال من سبقونا: "فاقد الشيء لا يعطيه"، فلا نتفاءل ونؤمل كثيراً في حال تم العفو وعادوا، فلن تتبدل الأجواء السياسية إلى الأفضل، ولن يتم التعاون المنشود بين السلطتين المجلس والحكومة لأنه "ما زال ما في النفوس في النفوس"، حيث لم يعد الاختلاف في الآراء حول قضايا ومواقف وأفكار بقدر ما هو خلاف ارتبط بأشخاص، وهذا من الصعب القضاء عليه والتخلص منه.

لكل تلك الأسباب مجتمعة وتأكيداً على إرساء مبدأ العدالة واحترام القانون وإنفاذ أحكامه على الجميع، نتحفظ عن العفو عن كامل المدة ونأمل وندعو بالعفو عن نصف المدة وتنفيذ باقي مدة الحكم بشرط ألا تتعدى أطول مدة تنفيذ حكم سنة واحدة.

يوسف الشايجي

ليست هناك أي مؤشرات على تغيير هذا النهج العدائي وشخصنة القضايا الذي أصبح نهجاً لما بعدهم من نواب تدعي المعارضة
back to top