أهلاً بكم في روسيا الجديدة!

نشر في 01-10-2021
آخر تحديث 01-10-2021 | 00:02
انتهت انتخابات البرلمان الروسي يوم الأحد 19 سبتمبر الماضي، وكانت نتيجتها متوقعة حيث فاز حزب «روسيا الموحّدة» الحاكم في هذا الاستحقاق، إذ يشتق هذا التصويت من انتخابات قد تكون الأكثر تنظيماً والأقل تنافسية في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وبعد اعتقال أهم سياسي معارِض روسي، ألكسي نافالني، أصبحت انتخابات مجلس الدوما تعبيراً واضحاً عن التحول المحوري للدولة الروسية من كيان شبه استبدادي إلى دولة استبدادية بالكامل.

يُفترض أن تُمهّد هذه الانتخابات البرلمانية للانتخابات الرئاسية في عام 2024، ومن المتوقع حينها أن يُعاد انتخاب الرئيس فلاديمير بوتين أو أن يفوز شخص آخر من اختياره خلال انتخابات مدروسة بالقدر نفسه، ففي السنوات الأخيرة، شهدت روسيا قمعاً واسعاً للشخصيات الروسية المعارِضة الأكثر تأثيراً، وإغلاق آخر وسيلة إعلامية مستقلة، وتطبيق سياسة منهجية لقمع المجتمع المدني، وأدى تصنيف كل من يتلقى تمويلاً أجنبياً أو له معارف في الخارج كـ»عميل خارجي» إلى تصدّع المجتمع المدني الروسي. لقد تعلّم النظام كيفية السيطرة على الإنترنت والتحكم بمواقع التواصل الاجتماعي وتحديد أماكن المشاركين في التظاهرات، وجَعَل أي مراقبة مستقلة للانتخابات شبه مستحيلة.

المجتمع المدني تحت الضغط

حتى عام 2024، من المتوقع أن تتراجع المساحة المتاحة أمام وسائل الإعلام المستقلة في روسيا بدرجة إضافية، في المقابل، ستزيد صعوبة التعاون مع المجتمع المدني والأكاديميين وكل من يعارض النظام، حتى أن هذا التبادل قد يصبح مستحيلاً، ويسهل أن نتوقع منذ الآن توافد المهاجرين من روسيا إلى أوروبا، ولن تقتصر وجهتهم على دول البلطيق وبولندا والمملكة المتحدة، بل ستشمل ألمانيا وفرنسا أيضاً، فبدأت روسيا تنغلق على نفسها وسيغادر عدد إضافي من المنظمات الدولية الناشطة راهناً في البلد لأنها تُعتبر جهاتٍ غير مرغوب فيها.

يُعتبر «مركز الحداثة الليبرالية» في برلين ومنظمة «التبادل الألماني الروسي» التي تنشط في مجالات اجتماعية متنوعة منذ عقود في روسيا من أحدث الأمثلة الألمانية على التغيير الحاصل، إذ تثبت هذه الأحداث كلها أننا نعيش في عالمٍ مغاير اليوم، حيث أصبحت روسيا مختلفة بالكامل، مما يعني أنها لا ترغب في تقليد الديمقراطية أصلاً بل يحكمها نظام يهتم بصموده بأي ثمن، وتكشف استراتيجية الأمن القومي الروسية المنشورة حديثاً إلى أي حد يشعر النظام بالضعف، فهو يتخذ موقفاً دفاعياً ويحصر اهتماماته بالشؤون الداخلية ويُركّز على الاستقرار المحلي، ونتيجةً لذلك تتراجع مظاهر الإصلاح والتقدم المتوقعة.

نهاية علاقة مميزة

كانت ألمانيا طوال عقود اللاعبة الأساسية في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا بصفتها أهم دولة في الاتحاد، لطالما ارتبطت الحكومة الألمانية بعلاقة خاصة مع الكرملين، وقد حددت مفاهيم مثل «الشراكة من أجل الحداثة» طبيعة المقاربة الأوروبية تجاه روسيا، لكن تغيّر هذا الوضع في السنوات القليلة الماضية ولم تعد ألمانيا شريكة بنظر الكرملين بل عدوة، فأصبحت أول جهة تستهدفها حملات التضليل الروسية في أوروبا، فشَهِد عهد المستشارة أنجيلا ميركل أكبر شرخ في العلاقات الألمانية الروسية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، لم تعد ألمانيا الجسر الذي تستعمله روسيا للوصول إلى أوروبا، بل البلد الذي يمكن إضعافه لكبح مسار الاتحاد الأوروبي والنظام الديموقراطي الليبرالي.

في هذا السياق، يبدو أن الهدف من مشروع «نورد ستريم 2» لا يتعلق بزيادة إمدادات الغاز إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي بقدر ما يصبو إلى تقسيم أوروبا وإفساد العلاقات العابرة للأطلسي تزامناً مع إضعاف مصداقية ألمانيا، إنه تحوّل بارز في العلاقات الألمانية الروسية، وهو يتطلب إعادة النظر بسياسة ألمانيا تجاه روسيا. لقد أصبح الاعتماد المتبادل نقطة ضعف ويبدو أن ألمانيا، بروابطها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الوثيقة مع روسيا، أصبحت من أضعف الدول في وجه التدخّل الروسي.

بعد الانتخابات الفدرالية في ألمانيا في 26 سبتمبر، سيضطر المستشار الألماني الجديد والبوندستاغ للتعامل مع نسخة مختلفة ومنغلقة وقمعية من روسيا، لكن رغم جميع المصاعب المطروحة، تبحث النُخَب الألمانية عن مجالات معينة للتواصل مع روسيا، فمن بين المسائل التي تخضع لأوسع النقاشات اليوم، تبرز تحديات مشتركة مثل التغير المناخي، والانتقال إلى استعمال الطاقة الخضراء، ومواضيع أمنية مثل أفغانستان وسورية وليبيا، ويبقى التبادل بين جماعات المجتمع المدني نقطة التواصل الأكثر تطوراً، لكنه المجال الذي ترغب القيادة الروسية في منع أي تدخّل خارجي فيه، ويثبت الهجوم الأخير على الأسس السياسية الألمانية أن هذا المجال أيضاً يتعرض لضغوط شديدة. أُعيق مسار «حوار بطرسبرغ» مثلاً لأن ممثّلي المجلس والمنظمات التابعة لهم باتوا يُعتبَرون اليوم أشخاصاً غير مرغوب فيهم داخل روسيا، فهذا المبدأ يدخل في صلب العلاقات الألمانية الروسية التي تتمثل بشبكة واسعة من الشراكات بين البلديات، والمشاريع الاجتماعية، والتبادل بين الشباب، والتعاون الأكاديمي والثقافي.

لا شريك لتكثيف التعاون

أمام هذا الوضع، سيصبح هامش المناورة الذي يملكه أي مستشار ألماني جديد محدوداً، فلا مجال للتواصل مع روسيا نظراً إلى غياب الشركاء في الفريق الآخر، لقد أصبحت عقلية النُخَب الروسية مختلفة بالكامل عن عقلية الألمان، وفي ملف التغير المناخي مثلاً، بدأت ألمانيا تتخلى عن عصر استعمال الكربون، حتى أن قطاع صناعة السيارات فيها سيضطر للتأقلم مع هذا التغيير عبر وقف استخدام محركات الاحتراق، وفي غضون ذلك، لا تزال القيادة الروسية تتكلم عن وجود منافع للاحتباس الحراري، منها غياب الجليد في الطريق البحري الشمالي وظهور فرص جديدة في قطاع الزراعة، فلا شيء يثبت حتى الآن أن دور تصدير الغاز والنفط والفحم سيتراجع في اقتصاد روسيا وميزانيتها خلال السنوات المقبلة.

بالعودة إلى الانتخابات الألمانية، سيكون أداء حزب «الخضر» وعدد بنوده في الاتفاق على الائتلاف الحكومي مؤثراً جداً على العلاقات الروسية الألمانية، حيث يُعتبر أعضاء حزب «الخضر» من أبرز منتقدي نظام بوتين ومشروع «نورد ستريم 2» وانتهاكات حقوق الإنسان في روسيا، لكن حتى لو أصبح أولاف شولتس من «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» المستشار الألماني وأراد التواصل مع القيادة الروسية، لم تعد الثقة موجودة بين الطرفين ولا مجال لإقامة علاقات مبنية على التعاون المشترك.

تُعتبر انتخابات مجلس الدوما الأخيرة تعبيراً عن حقبة جديدة في السياسة الروسية إذاً، فقد أصبح البلد اليوم أكثر انغلاقاً على نفسه وبات أكثر شَبَهاً بالاتحاد السوفياتي، فلا تزال معظم النخَب الألمانية تُقيّم الوضع بناءً على تجارب الماضي، لكنها تحتاج إلى التكيّف مع الواقع الجديد، وإلا سيتراجع تأثير ألمانيا على روسيا بدرجة إضافية، ومن الضروري أن تتعامل الحكومة الألمانية الجديدة بجدّية مع التحديات الروسية، وتصبح أقل انفتاحاً على العلاقات غير الرسمية، وتعالج نقاط ضعف ألمانيا.

لكن للأسف، لا يبدي أيٌّ من المرشّحين الحاليين لمنصب المستشار الألماني استعداده لقيادة أوروبا في ملف روسيا، وإذا لم تتأقلم النُخَب الألمانية مع الوضع الجديد في روسيا ومحيط الاتحاد الأوروبي، فستضعف قدرة البلد على رسم التطورات إقليمياً وعالمياً أكثر من أي وقت مضى، وبسبب الإصرار على إنكار الواقع الجديد، ستخسر ألمانيا والاتحاد الأوروبي ككل الجماعات الروسية التي تسعى إلى إنشاء نسخة مختلفة وأكثر ديموقراطية من روسيا، وإذا حصل ذلك فسينتصر «نظام بوتين» المبني على المصالح الخاصة.

● ستيفان مايستر – إنترناشيونال بوليتيك

حتى عام 2024 من المتوقع أن تتراجع المساحة المتاحة أمام وسائل الإعلام المستقلة في روسيا بدرجة إضافية
back to top