انسحاب واشنطن من كابول... نهاية الإمبراطورية الأميركية؟

نشر في 10-09-2021
آخر تحديث 10-09-2021 | 00:00
كيف تندثر الإمبراطوريات؟ في معظم الحالات، تتوسع مظاهر الانهيار ثم يقع حدث معيّن ويشكّل نقطة تحوّل محورية، فبعد الحرب العالمية الثانية، كانت بريطانيا العظمى شبه مفلسة وأصبحت إمبراطوريتها مفككة، لكنها صمدت بفضل قرض من الحكومة الأميركية ومتطلبات الحرب الباردة الجديدة التي سمحت لها بالحفاظ على مكانتها كلاعبة عالمية ظاهرياً، فلم يتّضح انتهاء أيام الإمبراطورية قبل أزمة السويس في عام 1956، حين ضغطت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والأمم المتحدة على بريطانيا لإجبارها على سحب قواتها العسكرية من مصر بعدما غزتها إلى جانب إسرائيل وفرنسا غداة استيلاء جمال عبدالناصر على قناة السويس.

في فبراير 1989، حين سحب الاتحاد السوفياتي جيشه من أفغانستان بعد فشل محاولات إرساء السلام هناك طوال تسع سنوات، نفّذ هذه العملية بطريقة منظّمة وحذرة تضمن حفاظه على كرامته وجدّيته أمام الآخرين، وتوجّه موكب منظّم من الدبابات نحو الشمال عبر "جسر الصداقة" الذي يمتد على طول نهر "آمو داريا"، بين أفغانستان وأوزبكستان التي كانت حينها جمهورية سوفياتية، ومرّ القائد والملازم السوفياتي بوريس غروموف بذلك الطريق مع ابنه المراهق وهو يحمل باقة أزهار ويبتسم أمام الكاميرات، ثم أعلن أنه لا يترك وراءه أي جنود سوفيات في البلد، وفي وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، قال غروموف خلال مسيرة عسكرية: "لقد حلّ اليوم الذي ينتظره ملايين السوفيات، ورغم جميع تضحياتنا وخسائرنا، ها قد نفذنا واجبنا الدولي بالكامل".

لم يكن خطاب الانتصار الذي أدلى به غروموف موازياً لخطاب جورج بوش الابن حين أعلن أن "المهمة أُنجِزت" غداة غزو العراق في عام 2003، لكنه يبقى قريباً منه وكانت الرسالة التي أراد توجيهها مُطمْئِنة، بالنسبة إلى الناس داخل الاتحاد السوفياتي على الأقل: بدأ الجيش الأحمر يغادر أفغانستان لأنه يرغب في ذلك وليس لأنه تعرّض للهزيمة. عيّن الكرملين مسؤولاً أفغانياً قوياً وموالياً له وكلّفه بإدارة البلد في غيابه، فكان هذا الرجل قائداً سابقاً للشرطة السرية واسمه نجيب الله، وانتشر الجيش الأفغاني أيضاً بعدما اكتسب خبرة واسعة في القتال واستفاد من المعدات والتدريبات السوفياتية.

في غضون ذلك، عمّت احتفالات كبرى وسط جيوش المجاهدين التي حظيت بدعم وأسلحة الولايات المتحدة وشركائها السعوديين والباكستانين، وتجمّعت وحداتها القتالية خارج المدن التي يسيطر عليها النظام في أفغانستان، وانتشرت توقعات كثيرة حول استسلام نجيب الله خلال فترة قصيرة واسترجاع كابول قريباً، لكن هذا الأخير نجح في الصمود ثلاث سنوات أخرى وأدى سقوطه بكل بساطة إلى اندلاع حرب أهلية جديدة.

رغم كثرة الكلام عن الواجب الدولي، أصبحت أفغانستان التي تركها السوفيات وراءهم مجرّد معقل للمعاناة، فمن أصل 12 مليون نسمة، قُتِل مليونا مدني من سكانها خلال الحرب، وهرب أكثر من خمسة ملايين من البلد، ونزح مليونان آخران داخلياً، كذلك، تحوّل جزء كبير من البلدات والمدن إلى ركام وتدمّرت نصف المناطق الريفية والقرى الصغيرة في أفغانستان.

وفق الأرقام الرسمية، قُتِل 15 ألف جندي سوفياتي فقط، مع أن الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير، وأصيب 50 ألف جندي آخر، لكن في الوقت نفسه دُمرت مئات الطائرات والدبابات والمدفعيات أو فُقِدت، واستُعمِلت مليارات الدولارات من الاقتصاد السوفياتي المتضرر لدفع هذه التكاليف كلها، لكن مهما حاول الكرملين تغطية هذه الخسائر، أدرك المواطن السوفياتي العادي أن التدخل في أفغانستان كان مجرّد فشل ذريع ومكلف.

لم تحاول مجموعة من المتشددين تنفيذ انقلاب ضد رئيس الوزراء الإصلاحي ميخائيل غورباتشوف إلا بعد مرور 18 شهراً على الانسحاب السوفياتي من أفغانستان، لكن هؤلاء المتشددين أخطأوا في تقدير قوتهم ودعمهم الشعبي، وفي ظل توسّع التظاهرات الشعبية ضدهم، فشل انقلابهم بعد وقت قصير ثم انهار الاتحاد السوفياتي كله في المرحلة اللاحقة، وبحلول تلك الفترة تراكمت عوامل عدة، إلى جانب المستنقع الأفغاني الذي وقع فيه الاتحاد السوفياتي، وسرعان ما ضعفت الإمبراطورية التي كانت قوية سابقاً من الداخل.

يحمل الحدثان الجانب المهين نفسه على الأرجح، لكن وحده الوقت سيكون كفيلاً بالتأكيد على المقولة القديمة التي تعتبر أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات. هل سيكون مصير الولايات المتحدة مشابهاً للاتحاد السوفياتي بسبب ذلك البلد؟ هذا ما سيحصل فعلاً برأي المحللة السياسية روبين رايت، فقد كتبت في 15 أغسطس الماضي: "يمكن اعتبار الانسحاب الأميركي العظيم من أفغانستان مهيناً بقدر انسحاب الاتحاد السوفياتي في عام 1989 على الأقل، وقد أدى ذلك الحدث في الماضي إلى إنهاء الإمبراطورية السوفياتية والحُكم الشيوعي... انسحبت هاتان القوتان الكبيرتان كما يفعل الخاسرون ووسط أجواء من الإحراج التام، وتركتا وراءهما أعلى درجات الفوضى". تعليقاً على الموضوع نفسه، يقول جيمس كلاد، نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق: "إنها ضربة موجعة حتماً، لكن هل نحن أمام "نهاية" الإمبراطورية فعلاً؟ ليس بعد! ولن يحصل ذلك على الأرجح قبل مرور وقت طويل، لكن هذه الهزيمة المريعة أدت إلى ضرب الهيبة الأميركية وشكّلت لطمة جيوسياسية موجعة في وجهنا. هل ستكون تلك الضربة قاتلة؟ على مستوى العالم عموماً، تحتفظ الولايات المتحدة حتى الآن بدورها الخارجي المرتبط بتجديد توازن القوى، ورغم بعض المقالات الصحافية اللاذعة، لم يحصل أبرز خصومنا الجيوسياسيين، أي الصين، على منافع لا رجعة عنها".

تحتفظ الولايات المتحدة حتى الآن ببراعتها العسكرية وقوتها الاقتصادية، لكنها بدت عاجزة عن استعمال أيٍّ منهما لمصلحتها في آخر عقدَين، وبدل ترسيخ هيمنتها عبر استغلال نقاط قوتها بطريقة حكيمة، عمدت واشنطن في مناسبات متكررة إلى إهدار جهودها وإضعاف هالتها كقوة لا تُقهَر وتخفيض مكانتها بنظر الدول الأخرى. لقد توسّعت مظاهر الإرهاب في أنحاء العالم غداة الحرب العالمية المزعومة على الإرهاب، علماً أنها شملت غزو العراق بقرارٍ من بوش بحثاً عن أسلحة دمار شامل غير موجودة أصلاً، وقرار باراك أوباما بالتدخل في ليبيا وتردده في رسم "الخطوط الحمراء" في سورية، وخيانة دونالد ترامب للأكراد في البلد نفسه واتفاقه مع حركة "طالبان" في عام 2020 لسحب القوات الأميركية من أفغانستان، ربما لم يعد تنظيم "القاعدة" قوياً بقدر ما كان عليه في حقبة هجوم 11 أغسطس، لكنه لا يزال موجوداً ولديه فرع في شمال إفريقيا. يملك "داعش" فروعاً له هناك وفي الموزمبيق أيضاً، وفي أفغانستان طبعاً، وقد اتضح ذلك بعد الاعتداءات المريعة في مطار كابول يوم الخميس الماضي، كذلك استرجعت "طالبان" السلطة، مما يعني العودة إلى نقطة البداية وتجدّد الظروف التي كانت قائمة منذ عشرين سنة.

أمام التطورات الحاصلة في أفغانستان، سيطر الرعب على روري ستيوارت، وزير سابق في الحكومة البريطانية كان عضواً في مجلس الأمن القومي في عهد رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وتعليقاً على الأحداث الأخيرة، يقول ستيوارت: "على مر الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تحمل رؤية عالمية متماسكة. تلاحقت الإدارات الأميركية، لكن لم تتغير رؤيتها العالمية لهذه الدرجة، لكن بعد هجوم 11 سبتمبر واكبنا، نحن حلفاء واشنطن، النظريات الجديدة التي ابتكرها الأميركيون لتفسير ردّهم على التهديدات الإرهابية في أفغانستان وأماكن أخرى، لكن لم يستمر النهج نفسه منذ ذلك الحين، ومن الواضح أن نظرة الولايات المتحدة إلى العالم في عام 2006 تختلف بالكامل عن نظرتها إليه اليوم. لقد تحوّلت أفغانستان من محور تركيز العالم إلى مكان لا يطرح أي نوع من التهديدات، ويثبت هذا الوضع أن جميع النظريات السابقة لا تعني شيئاً اليوم، فلا مفر من الشعور بانزعاج شديد حين نشاهد هذه النزعة المفاجئة إلى عزل الذات وتدمير كل ما حاربنا من أجله معاً طوال عشرين سنة".

كان ستيوارت قد شارك في تأسيس "مؤسسة الجبل الفيروزي" التي دعمت مشاريع التراث الثقافي والصحة والتعليم في أفغانستان طوال 15 سنة، وقد أصبح اليوم مسؤولاً بارزاً في "معهد جاكسون للشؤون العالمية" في جامعة "يال"، فهو يشكك في موقف جو بايدن الذي أكد أن الأولويات الأميركية الاستراتيجية لم تعد قائمة في أماكن مثل أفغانستان بل تكمن في التصدي للتوسّع الصيني. يوضح ستيوارت: "لو اعتبرنا هذا الكلام صحيحاً، كان جزء من منطق المواجهة الأميركية مع الصين سيرتكز على الفكرة التالية: "سنثبت طبيعة قيمنا عبر توسيع وجودنا في أنحاء العالم". هذا ما فعلته الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، ولتحقيق هذا الهدف، تقضي الطريقة الوحيدة بالحفاظ على الوجود الأميركي في الشرق الأوسط وأماكن أخرى لأن الانسحاب يترافق مع نتائج عكسية دوماً، وفي النهاية، أظن أن هذه المواقف كلها حول توجيه الأنظار نحو الصين هي مجرّد عذر لتبرير السياسة الانعزالية الأميركية".

● جون لي أندرسون – نيويوركر

back to top