آخر الحالمين على عرش الخيبة

نشر في 27-08-2021
آخر تحديث 27-08-2021 | 00:00
 جاسم كلمد لم يكن مجيئي إلى الدنيا في القرن الماضي حدثاً ذا قيمة تُذكر، بقدر ما له وقع من السعادة على والديّ، حسب ظني، إذ كنت طفلهما الأول بعد حب تُوّج بزواج ثار على تقاليد المجتمع آنذاك، وكعادة كل الآباء، لابد أن توقعات والديّ مني بلغت سقف السماء، وجمح بهما الخيال بعيداً في تصوّر ما سأكون عليه في قادم العمر، بل ربما رسما كل حياتي يوم كنت لا أزال في المهد وهما يتناوبان على إخراسي لينعما بنوم هانئ.

في الحقيقة لا أتذكر يوم كنت صغيراً أني تمنيت أن أكون شيئاً مهماً في المستقبل، أو أن أمتهن مهنة يفاخر بها كل أبٍ في الديوانية بين فنجان قهوة وآخر، أو كلّ أمّ في الزيارات النسائية أثناء تناول المكسرات، ولا أتذكر أني طمعت في يوم أن ألتحق بمهنة تدر أجراً فلكيّاً، أو تمنحني وجاهة في المجتمع قد أُحسد عليها، ولأني من جيل سحيق غابر، لم يكن لديه ما يفعل سوى لعب كرة القدم ومشاهدة التلفاز، فأن أصبح لاعب كرة قدم كان أمراً وارداً بأيامي، إلا أن ذلك لم يحدث، وهذا من رحمة الله بي وبمشجّعي الكرة الكويتية.

لكنني أتذكر جيداً ماذا أردت أن أكون حين أكبر، إذ كان لديّ يقين لا يساوره شك بأن عالم الأميرات والتنانين حقيقي، ولا أدري إن كان ذاك عن جهل مستفحل بي، أو بسبب خيالات طفولية خصبة، لكنني أردت أن أصبح فارساً ينقذ أميرة، حتى وإن بدا ذلك من المستحيلات التي لا تحصى، إلا أن مهنة كهذه، والتي قد طرحها كل العقلاء من عالم الواقع، لا تزال وإلى اليوم تراودني، فلا سخرية أترابي ولا محاولات الكبار اليائسة أثنت الطفل الذي بداخلي عن التحليق في عالم الخيال بين الحين والآخر، ليُجهز على تنين كاسر ويحمل على صهوة جواده أميرة كانت تنتظره بلهفة.

بعد أن توفيت أمي، ومن قبلها أبي، كم وددت لو أخبرهما بأني وأخيراً التقيت بمن يشاطرني هذه الخيالات بل يؤمن بها إيماناً لا يتزحزح، فأقف أمام أبي متناسياً نظرات خيبة الأمل في عينيه لأخبره بثقة العارفين أني ما خُلقت إلا لأنقذ الأميرات، ثم أتلقى صفعاته بأخلاق الفرسان، وكم وددت يوم حكت لي أمي على فراش المرض عن زواجها بأبي وعن تدخّل وسطاء بين العائلتين ليتم الزواج، أن أخبرها بما أدركته في وقت متأخر من عمري أني لست المجنون الوحيد في هذا العالم، بل هناك اثنان يا أمّاه: ابنك الحالم المنغمس بأوهام اليقظة، والفارس الهُمام الغنيّ عن التعريف دون كيخوتة ولا فخر.

لا أعتقد أنني خيّبت ظن والديّ كثيراً حسب ظني.

● جاسم كلمد

back to top