صمت الهدوء *

نشر في 12-07-2021
آخر تحديث 12-07-2021 | 00:08
 خولة مطر هناك ألوان من الهدوء فمن قال إن الهدوء واحد؟ رغم أن الجميع عندما يحاول أن يبعد يقول "أنا بحاجة لبعض الهدوء"، بعضنا يجري لأقرب شركة سفريات ويبحث عن بقعة تبعده فيبعد بعض الشيء أو يغتسل من تراكم الآلام وزعلها أو ربما فقط تعب الأيام، وآخرون لهم في بلادهم مساحات من الجبال والبلدات الصغيرة أو "الضيعة" القديمة، فهناك يسيرون بين الشجر ليعيشوا الهدوء.. وآخرون البحر ملاذهم يساكنون الموجة التي تغازل الشاطئ رغم زحمة البشر وتراكم الأجساد بلا تلاصقها، وهي تتعمد بشمس الصيف الحارقة التي لا تطفئها إلا غطسة في ماء البحر المالح.

هناك هدوء ما بعد القصف أو توقف إطلاق النار هذا الآخر هدوء سماه زياد الرحباني في مسرحيته الرائعة "هدوء نسبي" لأن اللبنانيين حينها كانوا يبحثون عن هدوء ما بين طلقة وقذيفة، فكان أن انخفض التصعيد، كان الهدوء نسبيا فخرج الناس من المخابئ وراحوا ينجزون ما يقدرون عليه قبل أن ينتهي الهدوء وتعود للحظة ضجيجها القاتل.

هي تقول بحثت عن فراشي أو عدت له والنهار لا يزال ظهراً والشمس حارقة في الخارج والصيف هذا العام شديد الحرارة والرطوبة، ذهبت لفراشي بحثا عن شيء من الهدوء رغم أن أصوات العربات في الشارع المجاور والجيران بنبرات أصواتهم العالية وبائع الخردة في الشارع، رغم أن كل ذلك يبقى يطاردني حتى في فراشي تلك المساحة الضيقة التي تبقى خاصة جدا لي.. لي وحدي أنا ولا أحد غيري! الهدوء بالنسبة لهذه الصديقة هو أن تجد شبراً خاصاً في كيلومترات من العالم، فقد تمت استباحة كل الأرض والبحر، أما السماء فهي مشاع لهم يطاردوننا بأقمارهم التي أفسدت تلك اللوحة المطرزة بنجوم أصبحت شيئاً من الماضي البعيد ومادة للشعراء القدامى.

هناك هدوء تام أو هو صمت الهدوء وهو نادر جداً أو ربما هو ما يبحث عنه الكثيرون رغم أنه قد يكون بداخل كل إنسان، أو ربما هو الهدوء الذي يخلقه هو وحده ولا يعرفه أحد، ويمضي سني عمره يبحث عنه فيما هو الأقرب له بل هو يسكنه.

تغير مفهوم الهدوء مع ازدياد حدة الضجيج حتى أصبح له درجات مختلفة كما هي مقاييس الضجيج، ألا يجب أن يكون هناك مقياس للهدوء أيضا حتى يكون هناك تعريف أكثر دقة ووضوحا ولا تختلط الأمور فينتهي البحث عنه إلى العدم أو القول إن الهدوء في القبر كما كان يقول أهلنا إن "الراحة في القبر"! وإن الباحث عنه كذلك الذي يقضي عمره يجري خلف وهم اسمه السعادة وراحة البال.

هدوء البحر عند البعض ضجيج وهدوء الغابة عند الآخرين مخيف أو قاتل، وهدوءها يختلف عن هدوئه هو عندما يقول لها تعالي لنرحل صوب الهدوء هناك، وما هناك سوى كثير من الأصوات المتلاطمة أقوى من تلاطم موج ذاك الشاطئ، بل كل الشواطئ. بعضهم لديه عداء تاريخي مع الهدوء لأنه لا يعرفه أو لأن بعضهم قال له إنه يشبه تلك اللحظة التي يسقطونك في حفرة.. الخوف يبقى حاجزاً بين العارف والجاهل، بين من جرب ولم يجرب، بين من صادق وعاشر الشيء وآخر لم يقترب منه، حتى بين من ألف الهدوء حتى صادقه وتلاصق معه وآخرين يبقون في دائرة تجميل حديثهم بالتغزل به بين رشفة من فنجان قهوة وأخرى.

بعضهم يقول إنه يبحث عن هدوء البال أو راحته، وآخرون يقولون إن لديهم هدوءاً مع نفسهم، وهناك هدوء حذر وهدوء ما قبل العاصفة وهدوء ما بعدها أيضا، بعضهم هدوءه يشبه البرود أو الفتور وهو كذلك في هدوء الأماكن فليست كلها هادئة بجمال بل أحيانا هادئة بلا لون ولا طعم.. نعم للهدوء ألوان ومذاقات مختلفة وأحيانا أصوات، ألا يقول الشاعر "عجبا أيها الليل.. يقولون عنك هادئ وفيك تصرخ كل القلوب".

في الهدوء مساحة لبعض الصوت.. بعض الضوء وبعض الفرح.. للهدوء تنهيداته ومداعباته وكثير من صمته.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

د. خولة مطر

back to top