عقيدة بايدن الناشئة

نشر في 09-07-2021
آخر تحديث 09-07-2021 | 00:00
الرئيس الأمريكي جو بايدن في زيارته الأخيرة لأوروبا
الرئيس الأمريكي جو بايدن في زيارته الأخيرة لأوروبا
حدّد الرئيس الأميركي جو بايدن، خلال رحلته الأخيرة إلى أوروبا، الموضوع المحوري في سياسته الخارجية، فقال إن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين هي جزء من "صراع أوسع مع الحكام المستبدين" لتحديد قدرة الديموقراطيات على المنافسة خلال القرن الحادي والعشرين الذي يشهد تغيرات متسارعة، فلم يكن هذا الموقف مجرّد كلام عابر، فقد أعلن بايدن في مناسبات متكررة أن العالم بلغ "نقطة انقلاب" قد تُحدد فرص إطلاق حقبة جديدة من الهيمنة الديموقراطية خلال هذا القرن أو عصراً آخر من النمو الاستبدادي، وتوقّع بايدن أن يُحضّر المؤرخون مستقبلاً أطروحتهم بناءً على السؤال التالي: من تفوّق على الآخر: الاستبداد أم الديموقراطية؟

لم يكن بايدن يحمل هذه النظرة عن العالم دوماً، حتى أنه سخر من اعتبار الصين منافِسة جدّية لواشنطن في عام 2019، لكن تبدو فكرته حول نشوء أكبر الصراعات في هذا العصر بين الأنظمة الديموقراطية والاستبدادية صادقة، وهي تترافق مع تداعيات عميقة على السياسة الخارجية الأميركية والمعطيات الجيوسياسية.

برأي إدارة بايدن، يفسّر هذا المفهوم الأسباب التي تُحرّك علاقات الولايات المتحدة مع خصومها الأساسيين ويُحدد المسائل التي أصبحت على المحك. هو يربط المنافسة بين القوى العظمى بإعادة إحياء الديموقراطية الأميركية ومحاربة المشاكل العابرة للأوطان، مثل الفساد وانتشار فيروس كورونا، كما أنه يحصر تركيز الولايات المتحدة باستراتيجية كبرى لتقوية العالم الديموقراطي في وجه أخطر التهديدات التي يواجهها منذ أجيال.

لكن هل تستطيع الإدارة الأميركية أن تُحوّل هذه الرؤية اليوم إلى واقع ملموس؟ حدّد بايدن التحدي الاستراتيجي الأساسي في القرن الحادي والعشرين، لكن تبدو المشاكل الراسخة وذاتية الصنع بالغة التعقيد منذ الآن.

تتمحور سياسة بايدن الخارجية حول تنفيذ هذا المفهوم الطاغي على الاستراتيجية الأميركية والمبني على الفكرة القائلة إن تفوّق الديموقراطية أصبح مُهدداً أكثر من أي وقت مضى، فقد كانت أسوأ العلاقات الدولية في عهد ترامب تتعلق بأقرب حلفاء واشنطن، لكن يعطي بايدن الأولوية اليوم لإصلاح تلك التحالفات باعتبارها درعاً واقياً للكتلة الديموقراطية العالمية. حاول بايدن إخماد الخلافات الدبلوماسية والتجارية مع أوروبا لإنشاء جبهة موحّدة وأكثر قوة ضد روسيا والصين، وقد تعاون مع الحلفاء في أوروبا ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ للتأكيد على التكاليف الباهظة التي سيتكبّدها الحزب الشيوعي الصيني إذا اتخذ أي خطوة عدائية ضد تايوان. كذلك، أنتجت قمة مبكرة لمجموعة الدول الصناعية السبع لغة مشتركة حول التهديدات الصينية والخطط المرتبطة بتصميم برامج لتطوير مشاريع شفافة وعالية الجودة في الدول النامية: إنه ردّ ديموقراطي على "مبادرة الحزام والطريق" الصينية.

على صعيد آخر، أنشأت الإدارة الأميركية معاقل لتعزيز التعاون الديموقراطي حول تحديات عالمية أساسية. في عهد بايدن، أعلن التحالف الرباعي ومجموعة الدول الصناعية السبع عن خطط لتوزيع حوالى مليارَي لقاح ضد فيروس كورونا على الدول النامية، وتستعد الإدارة الأميركية أيضاً لتكثيف ضغوطها لمكافحة الفساد والتدفقات المالية غير القانونية التي برع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحكّام مستبدون آخرون في استعمالها كسلاح بحد ذاته. كان بايدن قد تكلّم سابقاً عن تنظيم "قمة عالمية للديموقراطية" لمعالجة هذه المسائل وسواها، لكنه يتكل حتى الآن على مجموعات أصغر حجماً لتحقيق تقدّم ملموس وفوري أو حتى تهيئة الظروف لإطلاق جهود أوسع في المرحلة اللاحقة.

طبّق بايدن المقاربة نفسها في مجال التنافس التكنولوجي. حتى الآن، استبعدت الإدارة الأميركية فكرة إنشاء تحالف ديموقراطي رسمي كبير لمحاربة النفوذ الاستبدادي في مجال التكنولوجيا، وفضّلت التعاون مع دول ومجموعات منتقاة لبناء تعاون ديموقراطي من الصفر (كوريا الشمالية لتأمين أشباه الموصلات وتكنولوجيا الجيل الخامس والسادس، والاتحاد الأوروبي للتوفيق بين التكنولوجيا والسياسة التجارية، واليابان لضمان شبكة إنترنت عالمية مفتوحة، وحلف الناتو لمجابهة الاعتداءات الإلكترونية وحملات التضليل).

في غضون ذلك، بدأت الإدارة الأميركية تتصدى لأفظع أشكال القمع الاستبدادي بالتعاون مع أطراف أخرى. يقال إن الرئيس الأميركي هدد بوتين بمواجهة عواقب وخيمة إذا استمرت الاعتداءات الإلكترونية الروسية ضد بنى تحتية أساسية، كذلك انضمّت واشنطن إلى الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على بيلاروسيا بعدما أجبرت حكومة الرئيس ألكسندر لوكاشينكو طائرة على الهبوط لأن معارضاً مطلوباً كان على متنها: إنه مثال على أسلوب القمع الخارجي الذي تستعمله روسيا والصين وأنظمة استبدادية أخرى لقمع منتقدي الحكّام وترسيخ سلطتهم. على صعيد آخر، تعاون فريق بايدن مع كندا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لفرض العقوبات على مسؤولين في الحزب الشيوعي الصيني بسبب تورطهم في حملة القمع المرعبة في "شينغيانغ"، مما أدى إلى انهيار سياسة "الذئب المحارب" والقضاء على اتفاق استثماري كانت بكين قد وقّعته مع بروكسل قبل أشهر قليلة.

داخلياً، سعى بايدن إلى إيجاد استثمارات في مجال البحث العلمي والتطوير والبنى التحتية الرقمية والواقعية وقطاعات أخرى لتحسين القدرة التنافسية ومعالجة مشكلة تهميش الطبقة العاملة والوسطى. يهدف وعده بتطبيق "سياسة خارجية لصالح الطبقة الوسطى" إلى إثبات المنافع التي ستحصدها العائلات العاملة عبر التواصل مع العالم، ويظن المسؤولون في الإدارة الأميركية أن دعم الرئيس لفرض حد أدنى عالمي للضرائب يساعد الديموقراطيات في زيادة استثمارها في مواطنيها. من وجهة نظر بايدن، تُعتبر هذه التدابير شروطاً مسبقة لإعادة إحياء الخطط المحلية وتطبيق الإصلاحات التي ساعدت الديموقراطيات سابقاً للفوز في سباق آخر بين الأنظمة خلال الحرب الباردة.

لكن حين تتضح تفاصيل أي استراتيجية، فلا مفر من أن تظهر التحديات والشوائب معها، ومن الواضح أن الخطط التي وضعها بايدن تروق لفئات معينة دون سواها، حيث ترتكز هذه الاستراتيجية على الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة تستطيع تعقّب التقدم الاستبدادي بأفضل الطرق عبر تعميق تضامنها مع الديموقراطيات الراسخة، لكنّ كبح القوة الروسية والصينية، عسكرياً أو دبلوماسياً، يتطلب أيضاً التعاون مع حكومات استبدادية كاملة أو شائبة، بدءاً من بولندا وتركيا وصولاً إلى فيتنام والفلبين.

يُفترض ألا يتحوّل هذا المطلب إلى مشكلة شائكة: سبق أن اعتبرت واشنطن التحالفات مع الديموقراطيات التي تحمل العقلية نفسها محور استراتيجيتها في زمن الحرب الباردة تزامناً مع بناء علاقات مثمرة مع أنظمة شبه ديموقراطية ودول استبدادية بالكامل، ويؤكد هذا الوضع على عدم وجود مقاربة واحدة لبناء جميع أنواع التحالفات، كما أن الاستراتيجيات المبنية على مبادئ محددة تتطلب تنازلات براغماتية.

لكن قد يكون توحيد الصفوف مع الحلفاء الديموقراطيين أصعب مما تتوقع الإدارة الأميركية. يستطيع بايدن أن يحصد مكاسب سريعة نتيجة إنهاء الحروب التجارية بين الدول الشقيقة أو الامتناع عن الإشادة بالدكتاتور الروسي. في ما يخص العلاقات مع أوروبا تحديداً، ثمة مجال واضح للتعاون في مسائل مثل تقييم الاستثمارات. لكن يبقى حشد جميع الأطراف، بما في ذلك أقرب الحلفاء الديموقراطيين، هدفاً صعباً. يُعوّل المصدّرون الأوروبيون على خطة تعافي مبنية على المشتريات الصينية بعد زمن الوباء، ولا تزال الانقسامات العابرة للأطلسي مستمرة بشأن الخصوصية والبيانات ومشاكل تكنولوجية أخرى. قد يكون إصدار بيانات مشتركة حول المخاوف من حصول اعتداءات صينية محتملة ضد تايوان أو استعمال أسلوب الإكراه الاقتصادي مع أستراليا سهلاً نسبياً، لكنّ إطلاق ردود متعددة الأطراف يبقى أكثر صعوبة، كذلك، قد تؤدي أي تحركات لتقوية العالم الحر في وجه تهديد واحد إلى إضعاف قدرته على مواجهة التحديات الأخرى: تخلّت إدارة بايدن مثلاً عن معارضتها لمشروع خط الأنابيب "نورد ستريم 2" على أمل إقناع برلين بتبنّي موقف مشابه من بكين، لكنها سمحت لموسكو حينها بزيادة ضغوطها على الديموقراطيات الهشة في أوروبا الشرقية.

على صعيد آخر، قد يؤدي التركيز على الصراع الإيديولوجي والتكنولوجي إلى إلهاء الإدارة الأميركية وإبعادها عن المخاطر العسكرية المُلحّة، ففي النهاية، قد تخسر الولايات المتحدة السباق بين الأنظمة إذا فشلت في احتواء المعتدين المستبدين ودافعت عن المعاقل الديموقراطية في شرق أوروبا وغرب المحيط الهادئ، وفي عام 2018، حذرت لجنة مؤلفة من الحزبَين الجمهوري والديموقراطي ومعنية بالاستراتيجية الدفاعية الأميركية من افتقار الولايات المتحدة إلى القوة العسكرية اللازمة لتنفيذ جميع التزاماتها في محيط أوراسيا. يواجه البنتاغون عدداً من نقاط الضعف في مضيق تايوان، ومع ذلك لم تعتبر الإدارة الأميركية الوضع العسكري هناك من المسائل الأكثر إلحاحاً: تبدو أول ميزانية طلبها البنتاغون ضئيلة ولن تكفي لتطبيق التدابير الرامية إلى تقوية مكانة الولايات المتحدة في المحيط الهادئ على المدى القريب. لا تقتصر الخصومات الراهنة فعلياً على القوة العسكرية، لكنّ القيم الديموقراطية لن تنقذ العالم الحر عبر خوض صراعات مسلّحة.

أخيراً، لا يُعتبر الرابط بين المكونات الخارجية والداخلية في الاستراتيجية المعتمدة سلساً بقدر ما تزعم الإدارة الأميركية. برأي بايدن، سيكون تحسين الفرص الاقتصادية لصالح الطبقة الوسطى ضمانة ضد تجدد الحركة "الترامبية" وأداة لتقوية الأسس المحلية للدبلوماسية الأميركية، وعلى أرض الواقع، كان شعار "اشتروا المنتجات الأميركية" مشابهاً لشعار "أميركا أولاً" لكنه مع خصائص ديموقراطية هذه المرة وسياسة تجارية مخيّبة للآمال. حتى الآن، دفعت هذه المقاربة دولاً كثيرة، لا سيما في آسيا، إلى التشكيك بعودة الولايات المتحدة إلى الساحة. إذا لم تدعم استراتيجية بايدن مفهوماً واسعاً وطموحاً لتحقيق الازدهار، فلن تنجح في تعزيز تماسك العالم الحر وتقويته.

في النهاية، لا بد من الاعتراف بأن بايدن نجح في تحديد أكبر تحد في هذا العصر، لكن ستبدأ المرحلة الصعبة الآن، لذلك يجب أن يُحوّل الرئيس الأميركي استراتيجيته إلى حقيقة ملموسة ويضمن نجاحها.

هال براندز

back to top