لا تخسروا لبنان وإن أخطأ بخسارتكم

نشر في 23-06-2021
آخر تحديث 23-06-2021 | 00:09
 د. بلال عقل الصنديد ناكرٌ للجميل كل من يتجاهل الحجم الكبير من الدعمين المعنوي والمادي اللذين تلقاهما لبنان من أشقائه العرب في كل مراحل أزماته وفي جميع أزمنة استقراره، ومتجنٍّ على الحقيقة كل من يدّعي أن الدول العربية- والخليجية تحديداً- قد استثمرت سياسيا في الداخل اللبناني بالطريقة والحجم اللذين يفترضهما منطق العلاقات بين الدول؛ فتوازن القوى السياسية في بلاد الأرز يشي بأن تدخل الأشقاء لم يترك أثراً واضحاً ومباشراً إلا الامتنان شعبياً وعدم إمكانية النكران رسمياً.

صحيح أن السياسة تحكمها لعبة المصالح، فلا شيء يمنح في العلاقات الدولية بالمجان، وصحيح أن معظم الدعم العربي والخليجي تلقاه لبنان الرسمي تحت عنوان الوقفة الإنسانية أو المشاعر الأخوية، ولكن الصحيح أيضا أن المحيط العربي لم ينجح في لعبة شراء الولاءات الطائفية والحزبية، فلم يجن في السياسة اللبنانية مقابلا عادلا لما قدمه من دعم أو حتى مارسه من ضغط في بعض المراحل، في حين أن غيره من الدول والمنظمات، الشرقية والغربية، قد تجاوز نفوذها في الداخل اللبناني أضعاف ما ساندت فيه بعض شرائح الموالين لها في المجتمع اللبناني.

لا شك أن الحريص على السيادة اللبنانية لا يسرّه أن يكون للخارج يد طولى في الزواريب المحلية، ولا يسعده أن يكون لأي دولة تأثيرها المباشر على صنع القرار الرسمي أو على التوجهين الحزبي والشعبي في لبنان، لكن واقع الحال لا تخفيه عصبية الانتماء، ولا تمحوه وجدانية الولاء، ولا يغير في حقيقته "فحص دم" الوطنية.

فالموضوعية تقتضي أن نواجه الحقيقة بما هي عليه، وأن نتعامل معها بعملانية لا يعوقها تحريف ولا تحورها مجاملة، وبالمقابل، فإن الواقعية تقتضي لفت النظر الى فداحة غض الطرف عن الحالة الخطيرة التي وصل اليها الشعب اللبناني، والواجب يفرض التحذير من خطورة ترك لبنان يتخبط وحيدا في أزمته الكيانية التي ساهم فيها أبناؤه بمقدار ما ساهمت في رسم معالمها وتعميق هوتها التدخلات والمصالح الخارجية المعروفة للقاصي والداني.

وإذا ما تجاوزنا كل الاعتبارات الأخوية والإنسانية وحتى العروبية والميثاقية التي تفرض تدخلاً واضحاً وسريعاً للأشقاء على خط الإنقاذ، فإنه من قبيل المصلحة الصرفة أن تدلي الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي بدلوهما في الأزمة اللبنانية غير المسبوقة سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً، والسوابق في تاريخ العلاقات اللبنانية-العربية كثيرة ومتنوعة، بحيث يمكن التأسيس عليها مع تغيير في الأسلوب والأهداف لتجاوز التجارب المحبطة بنتائجها.

لبنان، بشهادة التاريخ والجغرافيا، هو واحة الشرق ومركز الإشعاع فيه، فبقدر ما استطاع هذا البلد أن يصدّر الفرح والإبداع والتألق والإيجابية لمحيطه، بقدر ما يمكن لواقع انهياره أن ينقل سلبيات غير محمودة وغير محدودة لكل الدول الشقيقة وربما الصديقة.

تركيبة لبنان المعقدة سياسياً وطائفياً، تنوّع عقائده وأحزابه، وتمرّس ساسته حرباً وسلماً، من شأنه بلا أدنى مواربة ولا أي مبالغة أن يرتد بالتأثير المباشر والعميق على شبكة المصالح المتنوعة والمتداخلة التي تربط مكونات المجتمع اللبناني بمختلف المجتمعات المحيطة، كما أن مروحة العلاقات السياسية والاقتصادية المتبادلة رسمياً وشعبياً أدعى بألاّ يتم تجاهلها، وأعمق من أن يتم تسطيحها أو تسخيفها. واقع لبنان، بسلبياته وإيجابياته، فرض على أعدائه وجوب المتابعة الدقيقة والمتواصلة لكل ما يحصل فيه تمهيداً لتدخل سافر كلما دعت المصلحة الصهيونية لذلك، فكيف الأمر بالنسبة لكل الدول الشقيقة والصديقة التي تتشارك مع هذا البلد الصغير بتاريخ طويل من العلاقات والمصالح؟!

ليس من الحكمة اقتصار النظر الى لبنان على أنه مجرد بلد فقير يعيش على قوت الخارج، وليس من الإنصاف التعامل مع شعبه على أنه مجرد تجمع للطوائف الباحثة عن مرجعية هنا أو سند هناك، فلبنان الإشعاع والإبداع أثبت أنه يصحو من كبواته الكثيرة والمتنوعة أسرع مما يتمناه المحبون ويتصوره الكارهون، كما أن لبنان القوي والمتماسك هو الدرع الواقي لكل محيطه من كل التهديدات البنيوية التي تعصف من هنا أو يخطط لها من هناك، والوضع اللبناني هو مرآة نقية تعكس بشفافية وصدق كل ما قد تؤول اليه الأمور في الدول المحيطة والمجاورة.

ورغم كل الخطايا التي ارتكبها بعض اللبنانيين بحق لبنان وأشقائه، ورغم انشغال كل الدول بأزماتها المتراكمة وبالأخص ما بعد جائحة "كورونا"، ورغم كل الأصوات الداعية، بحق أو بغير حق، الى النأي بالنفس عن التعقيدات اللبنانية، فليس من الحكمة أن تتأخر أوراق الحلول العربية والخليجية من أن تطرح على الطاولة، فالطبيعة تكره الفراغ وعندما تترك المجالس ينتهز الآخر فرصة التربع فيها.

لبنان، ذاك الفتى جميل الطلّة، بهيّ الحضور وباهر المواصفات، يعيش في هذه الفترة الحرجة من عمره مراهقة تزداد حساسيتها بصحبة الأشرار؛ في يده يلعب السلاح وفي رأسه تتحكم الشياطين، فإن ترك الى مصيره أساء لنفسه ومحبيه، وإن استدرج الى حضن دافئ وعقل راجح، فسرعان ما يتجاوز رعونته، ويعود لرشده، ويقف سنداً الى جانب أشقائه يتباهى به الجميع، فلا تتركوا لبنان عمداً، وإن ترككم جهلاً.

● د. بلال عقل الصنديد

back to top