عشرية من الدروس والتطلعات

نشر في 02-06-2021
آخر تحديث 02-06-2021 | 00:06
د. محمد الهاشل محافظ بنك الكويت المركزي
د. محمد الهاشل محافظ بنك الكويت المركزي
تحمل الأزمات في طياتها دروساً قيمة يحسن استخلاصها، وعبراً بالغة ينبغي استقراؤها، لنخرج منها أكثر استعداداً للتعامل مع تحديات المستقبل ومستجداته، ولم تبخل أزمات العقد الماضي التي مرت علينا بمثل تلك الدروس، بدءاً من أزمة الرهن العقاري التي فجرها إفلاس بنك ليمان برذرز عام 2008، مروراً بأزمة الديون الأوروبية، ثم انهيار أسعار النفط عام 2014، وصولاً إلى الأزمة الراهنة جراء تداعيات جائحة كورونا، التي لا تشبهها أي من الأزمات الماضية عمقاً ولا تضاهيها حدة وامتداداً، فهي رغم أنها ناتجة عن أسباب غير اقتصادية، فإنها أدت إلى وقف الإنتاج وتراجع العرض وانحسار الطلب، مما أدخل الاقتصاد العالمي في حالة من الشلل الممتد، ودوامة أفضت إلى خسائر جمة في الإنتاج والوظائف، ترافق ذلك مع تدهور أسعار النفط، الأمر الذي شكل تحدياً مزدوجاً للدول المنتجة للنفط.

وفي كل من تلك الأزمات تشكل البنوك المركزية الملاذ الذي تهرع إليه الحكومات لإنقاذ اقتصاداتها من قبضة الركود، فتلجأ تلك البنوك إلى سياسات نقدية تيسيرية غير نمطية، فتارة تضخ تريليونات الدولارات من السيولة لتحفيز الاقتصاد، وتارة تتبنى معدلات فائدة صفرية، بل حتى سالبة، لخلق بيئة اقتراض منخفض الكلفة، حتى آل الأمر إلى مستويات هائلة وغير مستدامة من الدين العالمي.

ولقد علمتنا تلكم الأزمات المتتاليات دروساً كبرى في أهمية الحوكمة وإدارة المخاطر، ومنافع السياسات الحصيفة والإجراءات التحوطية إبان الرخاء، وحتمت علينا تبني نهج استباقي، يستشرف المستقبل، فيستبق بالحلول التحديات، ويبادر بالتدابير المخاطر، ويبذل أسباب الوقاية قبل الحاجة إلى العلاج.

ومبكراً استوعب بنك الكويت المركزي هذه الدروس، فترجمها إلى إجراءات عملية على أرض الواقع، ترسيخاً للاستقرار النقدي والاستقرار المالي في البلاد، بحيث تتمتع الكويت بنظام مالي يعد من الأقوى والأكثر أماناً واستقراراً على مستوى المنطقة.

وفي سبيل ذلك، تبنى «المركزي» نهجاً استباقياً، فبادر إلى رسم سياسة نقدية حصيفة، وطبقها بحرفية عالية على حد وصف صندوق النقد الدولي، محققاً في ذلك الثوابت الثلاثة الأساسية لسياسته النقدية، عبر استقرار نسبي لسعر صرف العملة الوطنية أمام العملات العالمية وما تشهده أسعار صرفها من تقلبات، والمحافظة على أسعار الفائدة عند مستويات تعزز نمواً صحياً للاقتصاد بقطاعاته المتنوعة، وترسخ جاذبية الدينار الكويتي كوعاء مجز وموثوق للمدخرات المحلية.

وعلى صعيد السياسات الرقابية، عمد إلى تعزيز أوضاع وحدات الجهاز المصرفي والمالي في البلاد ضمن منظومة رقابية متكاملة، تطبق أدوات الرقابة الجزئية، وأدوات التحوط الكلي التي تستهدف الحد من المخاطر، عبر رفع جودة إدارتها في القطاع المصرفي، وتدعيم القواعد الرأسمالية وتكوين المخصصات الاحترازية، وتطبيق مجموعة معايير بازل المعروفة بحزمة إصلاحات بازل (3)، حيث كان بنك الكويت المركزي من أوائل البنوك المركزية في العالم بتطبيق هذه الإصلاحات المتكاملة، التي تستهدف تعزيز متانة مؤشرات السلامة المالية للبنوك وتقوية أوضاعها، وتوطيد الاستقرار المالي.

كما عمل بنك الكويت المركزي على ترسيخ أسس الحوكمة الرشيدة، عبر بناء منظومة من السياسات والإجراءات تضبط القطاع المصرفي بأعلى معايير الحوكمة المطبقة عالمياً، فأصدر «قواعد ونظم الحوكمة في البنوك الكويتية» وحرص على تحديثها باستمرار، فكان آخر تحديث أدخل عليها في سبتمبر 2019 بإدخال أعضاء مجالس الإدارة المستقلين ضمن تشكيل المجلس واللجان المنبثقة منه، إضافة إلى تأكيد حوكمة الالتزام والأمن السيبراني، ورسَم بموجب هذه المنظومة الدور المنوط بمجالس الإدارات والإدارات التنفيذية ومسؤوليات أفرادها، كما عزز معايير الإفصاح وشفافية الهياكل القانونية والتنظيمية للبنوك ومجموعاتها، ونظم الرقابة الداخلية وإدارة المخاطر والتدقيق الداخلي والخارجي، مردفاً ذلك بقواعد وأسس لحوكمة الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية، التي تضيف إلى كل ما سبق متطلبات الرقابة الشرعية في العمل المصرفي الإسلامي.

وفي مواجهة انعدام اليقين، عمد بنك الكويت المركزي إلى إجراء اختبارات ضغط دورية، تمتحن قدرة النظام المصرفي على العمل في الظروف الضاغطة، وفق سيناريوهات متشددة، ليكشف بذلك عن أي نقاط ضعف قد تعانيها البنوك في مواجهة الصدمات مستقبلاً، فيسارع إلى تلافيها، ترسيخاً للاستقرار المالي في البلاد.

وقد آتى هذا النهج ثماره، إذ حصن البنوك الكويتية أمام الأزمات التي جاءت تترى، ومنح القطاع المصرفي المناعة في مواجهة جائحة كورونا وتداعياتها العميقة والممتدة، ليدخل هذه الأزمة من موقع قوة، فكان الجهاز المصرفي الكويتي في هذه الأزمة ظهيراً داعماً لجهود تحفيز الاقتصاد ومعالجة تداعيات الجائحة، ونجح في تخطي السنة الأولى من الأزمة بفضل ما أثمرته السياسات الرقابية، التي طبقها «المركزي» طوال العشرية الماضية، مما جعل البنوك الكويتية تتمتع بمؤشرات سلامة مالية عالية تفوق المتطلبات والمعدلات العالمية، رغم تداعيات الجائحة.

وجراء تلك الجهود المتواصلة، دأبت تقارير كبريات المؤسسات المالية الدولية ووكالات التصنيف الائتماني العالمية على الإشادة بسياسات بنك الكويت المركزي الحصيفة، منوهة بالدور الذي قام به البنك؛ سواء على مستوى السياسة النقدية، واستقرار سعر صرف العملة الوطنية، أو على مستوى دوره الرقابي الذي حقق للقطاع المصرفي في البلاد مستويات عالية من مؤشرات السلامة المالية المتمثلة في جودة الأصول وكفاية رأس المال والسيولة والربحية.

لكن نجاح هذه الجهود في مواجهة الأزمات الماضية لا يبيح لنا أن نغفل أحد أبرز دروس الجائحة، إذ تأتي الأزمات من خارج المنظومة المالية والاقتصادية، كما تأتي من داخلها، ويمكن أن يكون منشؤها صحياً أو تقنياً أو غير ذلك، والتحدي الأكبر أمام البنوك المركزية والجهات الرقابية يكمن في الرصد المبكر لتلك المخاطر والاستعداد المسبق لها.

كما أن المستقبل لا تحدده الأزمات الماضية فحسب، بل تصوغه أيضاً الرؤى البعيدة والابتكارات الجديدة، لذا وجه بنك الكويت المركزي أنظاره تلقاء مكامن فرص التقدم وآفاق التطور والتحديات الجديدة، التي يتعين استباقها لقطف جناها واتقاء جناياتها، ولذلك يبذل البنك جهوداً كبيرة على صعيد الدراسات والتواصل مع البنوك المركزية الكبرى والمؤسسات المالية الأبرز في العالم، ويعقد المؤتمرات التي تجمع نخبة من قادة الصناعة المصرفية والتقنيات المالية في العالم، وذلك لتدارس آفاق المستقبل وصياغة التصورات للاستفادة من فرصه ومواجهة تحدياته، وقد قادت هذه الجهود إلى عديد من النتائج الإيجابية، ترجمها بنك الكويت المركزي في توجيهاته إلى البنوك الكويتية لصياغة استراتيجيات للمستقبل تقوم على مجموعة متكاملة من الأسس، تراعي بناء علاقة وثيقة القرب من العملاء لإدراك احتياجاتهم وتلبيتها، كما تراعي تطوير الخدمات والاستفادة من التقنيات الحديثة، ورفع كفاءة البنوك في تقديم خدماتها وتحقيق إنجازات أكبر بما لديها من موارد، فضلاً عن تعزيز متانة البنوك من خلال توظيف التقنيات الحديثة لزيادة قدرتها على جمع البيانات وسرعة تحليلها وعمقه، مما يحقق قدرة أكبر على رصد المخاطر وإدارتها، ومن أهم أسس استراتيجيات البنوك تعزيز قدرتها على استقطاب المواهب الوطنية في المجالات المالية، وكذلك في المجالات الإحصائية وعلم البيانات والذكاء الاصطناعي، ووجهها لإنشاء إدارات متخصصة لتنفيذ تلك الاستراتيجيات المستقبلية وقيادة عمليات التحول الرقمي، وتعيين كفاءات وطنية مؤهلة لهذه الأدوار.

لكن بناء المستقبل يتطلب تطوير الكوادر الوطنية وتعزيز حضورها في القطاع المالي والمصرفي الكويتي، وهو ما يوليه البنك المركزي عنايته من خلال مجموعة من الإجراءات على صعيد بناء المعرفة، عبر قيادته لمبادرة «كفاءة» التي تقدم طيفاً من البرامج التدريبية العالية المستوى، ومنح الدراسات العليا في أعرق الجامعات العالمية، بهدف تكوين كفاءات وطنية عالية التأهيل، وتزويدها بالمعارف والمهارات اللازمة لتطوير القطاع المصرفي وتعزيز متانة الاقتصاد الوطني في الكويت، من خلال مده برأس المال البشري العالي التأهيل.

كما يحرص البنك على تمكين الطاقات الوطنية في القطاع المصرفي، لا على مستوى توطين الوظائف فحسب، بل كذلك على مستوى توطين القيادات في القطاع المصرفي.

بيد أن الدرس الأهم الذي تذكرنا به كل الأزمات، والذي يحضر عند التخطيط للمستقبل، هو الحاجة الملحة إلى منظومة شاملة وفعالة من الإصلاحات المالية والاقتصادية والهيكلية، والضرورة الماسة لتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، وتعزيز دور القطاع الخاص شريكاً في هذا التنويع المأمول، مساهماً في خلق فرص عمل تستوعب الطاقات الوطنية الشابة، التي تتدفق سنوياً إلى سوق العمل، وتحسن الاستفادة منها وتنمية قدراتها وإتاحة المجال لها، لتساهم في نهضة البلاد، وبناء الوطن.

وقد حرص «المركزي» على نحو متواصل، وفي كل فرصة ومناسبة، على تأكيد ضرورة اتخاذ خطوات جادة في هذا الاتجاه، وقدم للحكومة مرئياته في هذا الشأن، داعياً الحكومة والبرلمان إلى التعاون في سبيل الإصلاح المالي والاقتصادي والهيكلي لاستدامة الرفاه للجميع.

* مقال منشور على موقع هيئة أسواق المال

الأزمات تحمل دروساً قيّمة ينبغي استقراؤها استعداداً للتعامل مع تحديات المستقبل ومستجداته

البنك المركزي استوعب مبكراً دروس أزمات العشرية الماضية فترجمها إلى إجراءات عملية لترسيخ الاستقرار النقدي والمالي

في مواجهة انعدام اليقين يجري «المركزي» اختبارات ضغط دورية وفق سيناريوهات متشددة للاطمئنان إلى متانة النظام المصرفي

النهج الاستباقي للبنك آتى ثماره إذ تخطى القطاع المصرفي السنة الأولى من الأزمة ومارس دوراً داعماً لجهود تحفيز الاقتصاد

دأبت تقارير كبريات المؤسسات المالية الدولية ووكالات التصنيف الائتماني العالمية على الإشادة بسياسات «المركزي» ونهجه الاستباقي الحصيف

بناء مستقبل القطاع المصرفي يتطلب تطوير الكوادر الوطنية لا سيما على مستوى القيادات
back to top