المئوية الثانية لرحيل نابليون (1- 3)

نشر في 01-06-2021
آخر تحديث 01-06-2021 | 00:08
 خليل علي حيدر كان "نابليون بونابرت" أحد أشهر القادة العسكريين وإمبراطور فرنسا وواضع قوانينها والمبشر بمبادئ ثورتها! ولا شك أن فرنسا ستحرص هذا العام على تذكير العالم بمرور قرنين على وفاته عام 1821 في منفاه بجزيرة "سانت هيلانة"، Saint Helena ضمن المستعمرات البريطانية، والتي تقع في المحيط الأطلسي، على مبعدة مئات الأميال من الساحل الإفريقي، غربي أنغولا الحالية، وكان الإنكليز وحلفاؤهم الألمان البروس والنمساويون والروس قد نفوه قبل ذلك إلى جزيرة "إلبا" Elba غربي إيطاليا في البحر المتوسط، بعد هزيمة جيشه العظيم- نصف مليون جندي- في مغامرة احتلال روسيا، كما جرى لجيش هتلر في البراري الثلجية نفسها في أواسط القرن العشرين.

غير أن القائد الفرنسي الأسطوري هرب من جزيرة "إلبا" هذه، ونزل بأرض فرنسا، المجروحة الكرامة، وجمع جيشاً جديداً لمحاربة التحالف الأوروبي ضده رافضاً الإقرار بالهزيمة من روسيا، ولكن "حكم المئة يوم" كما سُميت محاولته، سرعان ما انتهت بمعركة "واترلو" جنوبي "بروكسل" عاصمة بلجيكا الحالية، التي خسرها "نابليون" مع خسارة نحو 25 ألف قتيل من الفرنسيين، في 18 يونيو 1815، فتنازل عن العرش بعد أربعة أيام، وسلم نفسه إلى سفينة حربية بريطانية، فنُفي إلى جزيرة "سانت هيلانة"، حيث قضى سنوات المنفى يملي مذكراته، ومات بداء السرطان ودفن هناك، ثم أعيد جثمانه إلى فرنسا عام 1840، ليدفن تحت قبة "الإنفاليد" بباريس في ضريح مهيب يضم اليوم رفاته.

يسمى نابليون الأكبر هذا نابليون الأول أو نابليون بونابرت، وهو بالطبع من قاد حملة احتلال مصر (1798-1801) أما نابليون الثاني (1811-1832) فهو ابن نابليون بونابرت، ومن ألقابه "ملك روما"، وقد نزل له عن العرش 1815 ولكن الابن لم يتول الحكم قط، بل قضى حياته شبه سجين في فيينا عاصمة النمسا، حيث توفي بداء السل، وقد أمر الزعيم النازي "أدولف هتلر" عام 1940 بنقل جثمانه من "فيينا" ليدفن إلى جوار أبيه بباريس، وكانت ألمانيا تحتل المدينتين آنذاك!

أما "نابليون الثالث" (1808-1973) فهو ابن "لويس بونابرت" ملك هولندا، وقد حاول مرتين المناداة بنفسه إمبراطورا على فرنسا وفشل، فهرب إلى بريطانيا بعد أن حكم عليه في فرنسا بالسجن مدى الحياة، ثم عاد إلى فرنسا بعد ثورة 1848، وشارك في انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية، ثم انتخب رئيسا للجمهورية الفرنسية الثانية في 1848، غير أنه بدأ يتصرف بشكل غير دستوري ومستبد، فحل الجمعية التشريعية وأصدر دستورا جديدا يعطيه ما يريد من سلطات دكتاتورية، وعاش بعد ذلك حياة سياسة حافلة، وخاض عدة حروب في "المكسيك" و"القرم" وقامت زوجته "أوجيني" بافتتاح قناة السويس في نوفمبر 1869، ودخل أخيراً في حرب ألمانيا البروسية ومستشارها المعروف "بسمارك" فهُزم الفرنسيون فيها هزيمة منكرة، واحتل الألمان أو كادوا مدينة "باريس"، فثارت المدينة على "نابليون الثالث" وخلعته في ما يسمى "كوميونة باريس"، وهي تجربة تاريخية اهتم الاشتراكيون بدراستها قبل الثورة البلشفية الروسية، لتجنب ما اعتبروه من أخطائها. أما "نابليون الثالث" نفسه، فقد ذهب إلى إنكلترا حيث قضى فيها نحبه فيما بعد، وكان لنابليون الثالث ابنٌ كوليّ عهد، لكنه قُتل في جنوب إفريقيا حين كان يحارب "قبائل الزولو"، في خدمة البريطانيين.

(انظر الموسوعة العربية الميسرة ومراجع أخرى).

وُضعت مئات الكتب وأُعدت دراسات ومقالات لا حصر لها عن حياة "نابليون بونابرت"، سياساته وحروبه وإنجازاته وعصره وغرامياته وقوانينه وأقواله... بل حتى إسلامه!

ومن بين هذه الكتب المعروفة في المكتبة العربية كتاب المؤرخ الألماني "إميل لودفيغ" Emil Ludwig وعنوانه Napoleon، والذي ترجمه "محمود إبراهيم الدسوقي" في مجلدين، ونشر في القاهرة عام 1946، نعرض فيما يلي مقتطفات مختصرة من قسمه الأخير عن نابليون في جزيرة سانت هيلانة... قبيل وفاته:

"كان نابليون واقفا فوق صخرة، ويراه المتأمل من بعيد بديناً، قصير الساقين، غامض العمر، يلبس جوربين حريريين، ويمسك في يديه قبعته المثلثة الأركان، ضخم الرأس مفرطح، والشعر كستنائي، رقبته قصيرة مستقرة فوق كتفين قويتين، وملامحه متحجرة كأنما هي من رخام عتيق، ووجهه خال من التغضن، ولكن الذقن فيه بارز، صدره سمين له بضاضة صدور النساء، ومواضع الشعر من جسمه تكاد أن تخلو منه، قال مرة شبه ساخر: "لم أسمع قلبي قط يدق، فكأنه ليس لي قلب، حَبَتْني الطبيعة بهبتين قيمتين: النوم في أية لحظة، والقصد في الشراب والطعام"، فمهما أقلّ الإنسان من الأكل فهو مكثر مع ذلك دائماً، والإسراف في الأكل مضر بالصحة ولا يمرض المرء أبدا من الإقلال". وهذه مع الأسف حالنا اليوم مع وفرة الطعام وصعوبة مراعاة الوزن!

كان نابليون، يقول المؤرخ، "أعظم محلل نفساني في عصره"، وكان يرشد أخاه "لويس" ملك هولندا بقوله: "إن طيبة الملك يجب دائما أن تكون طيبة ملوك لا طيبة رهبان.. والحب الذي يبثه الملوك في النفوس يجب أن يكون حب رجال مقرون بالإجلال والخشية والاحترام، فإذا قيل عن الملك إنه رجل طيب لم تقم لحكومته قائمة". (ج2 ص192).

كان "هتلر" و"موسوليني" ولفيف من الملوك والوزراء، بينهم نابليون حتما، من قراء كتاب "الأمير" والمعجبين بآراء "ميكيافيلي" مؤلف الكتاب، الصريحة في استغلال كل وسيلة من قبل الحاكم والملك لدعم سلطانه وتثبيت سلطاته، ولا شك أن نابليون قد قرأ ميكيافيلي الذي يقول "من الضروري لكل أمير يرغب في الحفاظ على نفسه أن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وأن يستخدم هذه المعرفة أولاً، إن الضرورة تحتم على الأمير أن يكون مداهنا كبيرا، ومرائيا عظيما". وبعكس الصورة الشائعة عن "غرور نابليون"، يقول المؤرخ "لودفيغ"، "لم يكن نابليون مغروراً، فقد سمعه الناس في أدوار حياته جميعا يقول: غدا يمكن أن أخسر المعركة، وفي كل المواقف يسأل خلصاءه أو خبراءه عن رأيهم، ويروي "مارمو" حبه للحقيقة مهما كانت مرة".

كان نابليون، كما يراه المؤرخ، خليطا من الرحمة وحب الانتقام :"وإذ كان نابليون قد خاص كل حروبه إما كضرورة سياسية، وإما مستفزا اليها في الغالب، ودائما بلا بغض يداخله، فلم يكن بعد الانتصار يكنّ عداوة لأحد، فهو يكتب من شونبرون ما يلي: "أسمع مع مزيد الفزع أن 18.000 أسير في جزيرة لوباو يجوعون، وهذا أمر يتنافى مع الإنسانية ولا يمكن أن يُغتفر، أرسلوا في الحال 20.000 تعيين من الخبز الى هناك ومثلها من الدقيق الى المخابز". لكنه حين يَقتل أهل التيرول الموتورون بعض جنوده عقب عقد الهدنة، يستشيط غضباً ويأمر "بنهب ست قرى كبرى وحرقها على الأقل... ليتذكر أهل الجبال كيف كان الانتقام منهم". (ج2 ص218).

ويروى عن "نابليون" أنه أمر بالحلول ليلا محل خفير غلبه النعاس! وكان يُعنَى بالمساواة المطلقة في الجيش، فلا يرقي أحداً إلا عن جدارة، وقد حظر في موقعة كثرت فيها الضحايا أن ينتقل طبيب شهير في الجيش لمعالجة جنرال جريح، قائلاً له: "إنك وقف على الجميع لا على فرد واحد"، وكان يقف مع رجاله بنار المعسكر، يسأل عن مطبخ الميدان، ويضحك من الأجوبة.

وتحدث في بعض مراحل حياته عن المال والفساد وثروته الشخصية، فقال وهو قنصل: "إن من خاض هذه الحروب الكثيرة لا يسلم من جمع ثروة صغيرة أراد أو لم يرد، وقد أحرزت إيراداً يتراوح بين 80 و100 ألف فرنك، وبيتا في المدينة، وآخر في الريف ولست أطلب أكثر من ذلك، فإذا لم أرتح إلى فرنسا أو لم ترتح هي إليّ اعتزلت في سلام... لكن الجميع من حولي يسرقون، والوزراء ضعاف،

ولا بد لهم حقا من إحراز ثروات هائلة... فما الحيلة والبلاد يدب فيها الفساد في كل مكان، هكذا كانت دائما، فإذا كان أحدهم وزيراً بنى لنفسه قصراً، أتعلم ماذا طلبوا لتأثيث التويلري لي؟ مليونين... لقد خفضتهما إلى 800.000 فرنك، إني محاط بأناس كلهم أوغاد".

غير أن المؤرخ لودفيغ يستعرض تفاصيل مالية أخرى تتعلق بنابليون ومكافآته: "في هذا الحديث يتبين موقف رئيس الدولة من المال وهو في الثلاثين من عمره: كيف أنه لا يحتاج شخصيا إلى المال، وأنه يشكو مما يقع حوله من الرشوة والترف، وكيف يعترف بأنه نفسه قد جنى من الحرب مالاً، وكيف يصم متعهديه أخيراً بالغش لأنهم يطلبون مليونين لتأثيث قصر لم يحتج الى الإنفاق عليه مراعاة لذوقه. وقد كافح وسط الفساد الهائل الذي ورثه عن الثورة- كافح متعهدي الجيش ومتكسبي الحرب- لكنه بعد أن بلغ بالعقاب الصارم ألّا يكسب أحد بعد ذلك شيئا من الحرب، سرعان ما قرر لمارشالاته دخلا خياليا، فأصبح بعضهم يجني سنويا أكثر من مليون فرنك، فالدولة التي أنقذها من اللصوص وسارقي أموال الشعب وهو قنصل، قد أرهقها فيما بعد بمكافآت تكاد أن تكون رشا". (ص225)

يتبع غداً،،،

● خليل علي حيدر

back to top