إنه عصر الإفلات من العقاب!

نشر في 21-05-2021
آخر تحديث 21-05-2021 | 00:00
الرئيس باراك أوباما - الرئيس جورج بوش الابن
الرئيس باراك أوباما - الرئيس جورج بوش الابن
كان الرئيس جو بايدن صريحاً حين تكلم عن حجم التحديات التي تواجهها إدارته والحكومات الديمقراطية الأخرى في هذا العصر الذي يشهد توسّع النزعة الاستبدادية، فقال خلال أول مؤتمر صحافي له في البيت الأبيض: "إنها معركة بين منافع الديمقراطيات في القرن الحادي والعشرين من جهة والأنظمة الاستبدادية من جهة أخرى، هذه هي المسألة التي أصبحت على المحك، يجب أن نثبت فاعلية الديمقراطية".

لقد عادت القيم إلى الواجهة، ولا تقتصر هذه النزعة على الساحة المحلية، ومن المتوقع أن تزيد إدارة بايدن التركيز على الدفاع عن حقوق الإنسان حول العالم، بما في ذلك داخل الصين وروسيا، فالرئيس الأميركي يريد أن تصبح الحاجات الإنسانية جزءاً من الاستراتيجية العسكرية وقد سحب الدعم الأميركي من التدابير العدائية التي يتخذها التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية لمحاربة المتمردين الحوثيين في اليمن التي تشهد اليوم أكبر أزمة إنسانية في العالم، فهو يريد أن تنفذ الولايات المتحدة التزاماتها القانونية والأخلاقية وسبق أن أعاد بعض الحقوق إلى طالبي اللجوء.

تتعدد الأسباب التي تجعل هذه الخطوات واعدة، فقد كان التزام الرئيس السابق دونالد ترامب بالاتفاقيات بدل القيم بحد ذاتها كفيلاً بزيادة جرأة الحكام المستبدين حول العالم، إذ لم يكن ترامب يهتم بمقتل المدنيين خلال الحروب، ولا بطرد اللاجئين من منازلهم أو اعتقال الصحافيين في الدول الاستبدادية. لكن توضح تجربة هذين الرئيسَين المتلاحقَين أن الاكتفاء بدعم هذه القيم شفهياً لا يضمن نشرها على نطاق واسع.

أعلن الرئيس جورج بوش الابن خلال خطاب تنصيبه الثاني أن "صمود الحرية في أرضنا يتوقف بشكلٍ متزايد على نجاح الحرية في الأراضي الأخرى"، وحرصت إدارته على دعم توسيع الديمقراطية الانتخابية في أنحاء العالم، لكن وفق منظمة "فريدم هاوس" التي تتعقب النزعات الديمقراطية العالمية، شهد عام 2005 بداية تراجع الحرية السياسية وقد امتدت هذه الظاهرة لسنوات عدة.

أما الرئيس باراك أوباما، فقد قرر من جهته إنشاء "مجلس منع الفظائع" لتحويل وقف الإبادات الجماعية والأعمال الوحشية إلى جزء محوري من مصالح الأمن القومي والمسؤوليات الأخلاقية، لكن لا يمكن ترويض الأطراف المتناحرة في سورية وجنوب السودان وأماكن أخرى عبر لجنة من المسؤولين في واشنطن.

ترافقت جهود بوش وأوباما مع بعض الإنجازات وهي تستحق الإشادة على بعض المستويات، لكنها تكشف في الوقت نفسه حجم التحديات التي ترافق نشر القيم الديمقراطية الليبرالية، فقد كانت جهود بوش صاخبة وجارفة ومبسّطة أكثر من اللزوم، وبقيت جهود أوباما محدودة وتقنية بطبيعتها.

ستكون المعركة ضد الإفلات من العقاب، أي قدرة مختلف اللاعبين على ارتكاب الجرائم من دون محاسبتهم وتحقيق العدالة، أجندة عملية وشاملة أكثر من الجهود التي كانت تهدف سابقاً إلى إدراج القيم ضمن السياسة الخارجية. يجب أن يجعل بايدن "نشر المحاسبة" أهم قضية في مجال السياسة الخارجية خلال عهده الرئاسي، حيث تتماشى هذه المقاربة على أكمل وجه مع التزامه بنشر الديمقراطية محلياً، ولإحراز التقدم أكثر من بوش وأوباما، يجب أن يشكّل بايدن تحالفاً من الحكومات والشركات الخاصة وجماعات المجتمع المدني لبناء "قوة مضادة" للأطراف المعتادة على الإفلات من العقاب.

التحالف المطلوب

يشعر المقاتلون في الصراعات بأنهم أصبحوا أكثر قدرة على تجاهل حقوق المدنيين خلال الحرب لأنهم لا يواجهون تكاليف سياسية أو اقتصادية أو قانونية كبرى مقابل ارتكاباتهم، ولتغيير حساباتهم وتعديل تصرفاتهم، يجب أن تتحرك الحكومات الأخرى وتتخذ القطاعات العامة والخاصة والمجتمع المدني الخطوات المناسبة أيضاً، ويجب أن يكون الرد متعدد الأطراف، ومثلما تطلّب تمرير معاهدة تجارة الأسلحة أو إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عوامل مثل قوة الحكومة وموارد القطاع الخاص وضغط المجتمع المدني، ثمة حاجة إلى هذه العوامل الثلاثة أيضاً لكبح النزعة التي تُمهّد لترسيخ عصر الإفلات من العقاب.

كان إيجابياً أن تتعهد إدارة بايدن بدعم حُكم القانون، وهو التزام يبدأ محلياً، ويجب أن تحرص الدول التي تريد كبح ظاهرة الإفلات من العقاب على تطبيق معايير المساءلة الدولية على المستوى الداخلي (عبر الالتزام بالقانون مثلاً) أو الخارجي (عبر إجراء تحقيقات مستقلة حول انتهاكات القانون المزعومة). من خلال تطبيق هذه المعايير، ستستعد الدول للتكاتف في ما بينها وتسعى إلى محاسبة الأطراف الأخرى أيضاً.

لبذل هذه الجهود، تتعدد الأدوات التي تستطيع الولايات المتحدة وشركاؤها اللجوء إليها لكنها لا تزال غير مستعملة في الوقت الراهن، فتحقيقات الأمم المتحدة بشأن جرائم الحرب في سورية كانت باهتة مثلاً، فبقي عددها ضئيلاً وكانت مواضيعها محدودة ولم يتابعها المحققون بالشكل المناسب، حتى أن صحيفة "نيويورك تايمز" ومجموعة من المحققين المستقلين، مثل موقع Bellingcat والمرصد السوري لحقوق الإنسان، بذلت جهوداً تفوق ما فعلته لجان الأمم المتحدة لفضح انتهاكات القانون الدولي في سورية.

قد يظن البعض أن روسيا ستعترض على أي قرار أكثر صرامة، لكن روسيا دفعت ثمناً محدوداً على اعتراضاتها في السنوات الأخيرة، وستكون موسكو محقة إذا استنتجت أن الدول الأخرى لا تهتم بهذا الموضوع أصلاً في حال لم تتكبد كلفة متزايدة، وينطبق المبدأ نفسه على صراعات أخرى، كما في اليمن حيث تورط التحالف الذي تقوده السعودية وكان يشمل الولايات المتحدة حتى الفترة الأخيرة في انتهاكات عدة إلى جانب جماعة الحوثيين المتمردة.

يجب أن تدعم الأطراف الملتزمة بإنهاء عصر الإفلات من العقاب الجهود الرامية إلى استعمال الأنظمة القانونية لمحاسبة المرتكبين، فقد سمحت ألمانيا مثلاً باستعمال الأدلة التي جمعتها المنظمات المستقلة وغير الحكومية واللاجئون السوريون في المحاكم لإدانة السوريين بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية. إنها خطوة مهمة لإحراز التقدم في هذا المجال ويُفترض أن تتزامن مع فرض عقوبات مشابهة لقانون "ماغنيتسكي" ضد المذنبين.

لمحاربة ظاهرة الإفلات من العقاب، يمكن اللجوء إلى أدوات أخرى مثل العلاقات العسكرية المتبادلة والتدريبات والتحالفات العسكرية مع الدول الحليفة، ويجب أن يكون الالتزام بالقانون الإنساني الدولي جزءاً محورياً من هذه التبادلات، فقد شدّد تقرير جديد أصدرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر على أهمية ما تسميه المنظمة "العلاقات العسكرية الداعمة" لتعزيز حماية المدنيين. يعترف الأعضاء العقلانيون في الجيش الأميركي بالأسباب العملية والمبدئية لهذه الالتزامات وقد صُدِموا بخطاب ترامب حول التحركات خلال الحروب.

لكن لا تستطيع الحكومات وحدها أن تحشد قوة مضادة كافية لكبح ظاهرة الإفلات من العقاب، بل يجب أن يكون القطاع الخاص، بنفوذه الهائل ومسؤولياته الكبرى، جزءاً من هذه المعادلة، ومن واجب مصنّعي الأسلحة أو مموليهم المقتنعين بضرورة ألا تُستعمل أسلحتهم لاستهداف المدنيين أن يرفعوا الصوت ويتصرفوا بناءً على هذا المبدأ. كذلك، يجب أن تتساءل شركات التأمين التي تدعم المنتجات أو الحكومات التي تزيد انتهاكات القانون الإنساني الدولي عن السبب الذي يدفعها إلى التورط في عمليات مماثلة.

تتحمل شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام مسؤولية كبرى لأن السيطرة على القطاع المعلوماتي بات أساسياً للحفاظ على أنظمة الإفلات من العقاب وحماية المنتهكين من المحاسبة. في مناطق الصراع حول العالم، أصبح التعتيم الإعلامي معياراً شائعاً اليوم بدل أن يكون استثناءً على القاعدة. لكسر هذا التعتيم، لا بد من فرض ضغوط سياسية قوية وطرح ابتكارات تكنولوجية فاعلة للسماح للمدنيين بتوثيق الأحداث بكل أمان ونقل المعلومات إلى الخارج.

قد تميل الشركات إلى إطلاق مبادرات رمزية بكل بساطة، ففي 2019، قررت شركات كثيرة مثلاً أن تقاطع مؤتمراً حمل اسم "دافوس الصحراء" في المملكة العربية السعودية غداة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، لكن قررت الشركات نفسها المشاركة في السنة اللاحقة رغم نشر أدلة إضافية على تورط السعودية رسمياً بمقتله. كي تُحدِث مشاركة القطاعَين العام والخاص في التحالف ضد الإفلات من العقاب فرقاً حقيقياً، يجب أن يتمسك المعنيون بمعايير ثابتة، ما يعني إقناع الشركات بأن الحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان لن تتردد في انتهاك حقوق الملكية في نهاية المطاف.

أخيراً، سيكون تشكيل تحالف داعم للمحاسبة ومضاد للإفلات من العقاب عملاً شاقاً طبعاً، لكن إذا بدأت القيم تُوجّه السياسة الخارجية الأميركية مجدداً، كما وعد الرئيس جو بايدن، يُفترض أن يكون مصير المدنيين في مناطق الصراع جزءاً أساسياً من تعريف النجاح بالنسبة إلى الإدارة الأميركية. ستثبت الولايات المتحدة أنها عادت إلى سابق عهدها بأفضل طريقة حين تكبح ظاهرة الإفلات من العقاب، لكنها تحتاج إلى الالتزام ببناء قوة مضادة في مختلف الملفات والقطاعات لتحقيق هذا الهدف، فلا داعي لإقرار قوانين جديدة، بل ستكون القواعد والأفكار الواردة في ميثاق الأمم المتحدة والوثائق المرتبطة به كافية، ويجب أن يدعم المعنيون هذه المبادئ بكل بساطة.

ديفيد ميليباند – فورين أفيرز

back to top