شاعر التمرد والحزن الذي سكن الإنسان العربي (11-16)

«شقائق النعمان» تضرم نار الشقاق بين الماغوط ولحّام

نشر في 25-04-2021
آخر تحديث 25-04-2021 | 00:00
بقي الماغوط يقدم أعمالاً للشاشة سينمائياً وتلفزيونياً وعلى المسرح سنوات عدة، مع الفنان دريد لحام، إلى أن جاءت المسرحية الشهيرة «شقائق النعمان» لتغلق الباب على كل تعاون بين الرجلين وتتسبب في جفاء دامَ فترة طويلة. وأثناء البحث في حياة الماغوط الأدبية لابد من التوقف مطولاً عند كتاب «سأخون وطني»، الذي أثرى الشعر العربي كثيراً، ونال إعجاب النقاد والقراء فاقتطعوا منه ما يحبون وقاموا بنشره منذ إصدار الكتاب وحتى الآن.
في الثمانينيات من القرن الماضي توالت العديد من الأحداث على المواطن العربي، كالحرب الأهلية اللبنانية والمحطات المتلاحقة من الصراع المستمر مع العدو الصهيوني، إضافة إلى مشاكل المواطن اليومية من انتشار الفقر والجهل والاحتلال الفكري، والتي فرضها تقاطع مصالح القوى الاستعمارية مع مصالح الفاسدين والمستفيدين من المسؤولين والمتنفذين في البلاد العربية، مما دفع الماغوط إلى كتابة أكثر المسرحيات إثارة للجدل وهي «شقائق النعمان».

فأسقط الماغوط كل تلك الأحداث والظروف من مشكلة الاستعمار، على الواقع الاجتماعي المتردي الذي يعيشه المواطن العربي، وقدم مجموعة من الفنانين السوريين أداء مميزا بالاشتراك مع نجوم المسرح العربي كدريد لحام ونهاد قلعي وشاكر بريخان وصباح الجزائري وحسام تحسين بك وغيرهم من رواد الجيل الذهبي لخشبة المسرح القومي في سورية. كما شاركت أسرة تشرين المسرحية السورية، ومن ضمنهم الفنانة سلمى المصري في العمل. ومن الممثلين أيضا عمر حجو ويوسف حنا وعبدالرحمن الجراح وأحمد رافع وأيمن البهنسي وغيرهم.

وفي قراءة من الكاتب صلاح حزين للمسرحية يرى أن الماغوط يرسم مقابلة الماضي مع الحاضر على مستويين؛ مستوى مقابلة الحاضر البائس مع الماضي القريب الذي يتمثل في عودة الشهيد (دريد لحام) ليكتشف أن أخاه قد استولى على إرثه ولم يُبق له شيئا، فيضطر للسكن في المقابر، ومقابلة الحاضر مع الماضي البعيد حيث الخليفة يلاحق غانية في مشهد ويأمر بقطع رأس أحد المعارضين في مشهد آخر، لتكتمل صورة الماضي الذي لا يقل بشاعة عن الحاضر.

اقرأ أيضا

وفي المسرحية أيضاً يظهر أحد الرجال العابثين، وهو يدندن بأغنية حديثة، كما أن هناك الشهيد الذي يفترض أن يمثل في بلادنا قيمة سامية، وهناك السكان العاديون الذين يتوزعون على الوطن العربي بأكمله.

ومن أهم الاقتباسات من المسرحية: «عمرها ما كانت مشكلتنا مع الله، مشكلتنا مع الذين يعتبرون نفسهم بعد الله»، وأيضا: «كنت أنام في حصة الجغرافيا لأني لا أحب الحدود».

ومن جهة الخلاف الذي وقع بين الفنان دريد لحام مع الكاتب والشاعر محمد الماغوط يقول لحام إن الخلاف دب بينهما بعد مسرحية «شقائق النعمان». وتعود جذور الخلاف إلى أن لحام وافق، للمرة الأولى، على أن يكتب الماغوط نص المسرحية وحده، لكنه حين أصبح النص جاهزا لم يحز على رضاه، وشرع بتعديله إلى جانب الماغوط، «بشهادة الفنانة نضال الأشقر»، كما يؤكد دريد لحام.

ويسترسل الممثل بالقول إنه حين توالت ردود أفعال تنتقد المسرحية صرح محمد الماغوط بأن 90% من نص العمل يعود لقلم دريد لحام، الأمر الذي أدى إلى مشكلة بينهما. وعلى الرغم من أن العلاقة عادت بين النجمين، بعد سنوات من الجفاء، إلا أن التواصل بينهما (قبل وفاة الماغوط) اقتصر على الجانب الاجتماعي فقط.

أما من الطرف الآخر، وفي كتاب عيسى الماغوط «محمد الماغوط... شاعر الخوف والجوع»، فيقول شقيق الماغوط: «كان ينزعج من عدم اتصال بعض الأشخاص به، ومن واجبهم أن يتصلوا، فيقول لشقيقه: تصور كيف أن دريد لحام سمع بدخولي المستشفى وسمع بحالتي، وسمع بخروجي وبانزوائي في البيت، ولم يحضر ولا حتى اتصل بالهاتف ليسأل عني».

«سأخون وطني»

كان الماغوط يتنقل كطائر حر بين كتابة نص لمسرحية أو مسلسل أو فيلم، وكتابة الأدب والشعر، ففي عام 1987 أصدر الماغوط كتابه الأكثر شهرة، لو صح القول، بين إصدارته كلها، مناصفة مع كتاب «شرق عدن غرب الله»، وهو كتاب أو مجموعة «سأخون وطني- هذيان في الرعب والحرية»، وهو مجموعة مقالات أعيدت طباعتها في دار المدى بدمشق عام 2001. والمميز في هذا الكتاب هو المقدمة، التي انتهت بتوقيع الكاتب زكريا تامر- لندن- مايو 1987، وحملت عنوان «سيخون وطنا مزورا»، جاء فيها:

«محمد الماغوط أديب طريف، مثير للعجب، فهو قبل أن يخون، يؤلف كتابا يكرسه للإنذار بأنه يعتزم أن يخون وطنه، في زمان تتم فيه أفعال الخيانة سراً.

فأي وطن هو ذلك الذي سيخونه وعلناً وبفخر؟

الأوطان نوعان... أوطان مزورة وأوطان حقيقية.

الأوطان المزورة أو أوطان الطغاة، والأوطان الحقيقية أوطان الناس الأحرار.

ومحمد الماغوط، الذي عاش نصف قرن وثلاث سنوات، وعرف ما على القمة وما في الهاوية، ولا يزال حياً، يرصد في هذا الكتاب تجربته القاسية المُرة مع الحياة في الوطن العربي... ولكنها ليست تجربته وحده، بل هي تجربة جيل بأسره، جيل مسكين خُدع منذ الصغر بالشعارات السياسية والفكرية البراقة، ولم يكتشف أنه مخدوع إلا وهو يدق سني عمره هباءً. وإذ هو لم يشيد مدناً سعيدة للانسان إنما شيد سجونا سجن فيها، وصنع سياطاً عُذب بها، وأوجد مشانق تدلى منها.

هذا الكتاب شهادة فاجعة صادقة على مرحلة مظلمة من حياة العرب في العصر الحديث، وتصلح لأن تُرفع إلى محكمة الأحفاد كوثيقة تدحض أي اتهام بالتقصير والاستكانة يوجه إلى الأجداد، فالعنق الأعزل لا يستطيع الانتصار على سكاكين المفترسين.

والكتاب أيضاً يعزز الثقة بالكلمة في زمان الكذب والرياء، ويُعيد إليها بعض بهائها المفقود».

«الكوميديا النفطية»

وفي نصه «الكوميديا النفطية» من كتاب «سأخون وطني»، الذي نشره مغردون عرب كثر، ولا يزالون، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهو نص أشبه بالكوميديا السوداء ويقول فيه: «بعد أن اشترت دولة الإمارات العربية المتحدة المستر ريفي أشهر مدرّب لكرة القدم في إيطاليا، مما أثار حفيظة إحدى الدول النفطية الغنية من هذا الفعل وتملكتها الغيرة فأرسلت أحد كبار خبراء النفط والمسرح إلى بريطانيا. أيقظ هذا المندوب وزير الشؤون الثقافية البريطاني من نومه لإجراء المقابلة، فعرض عليه أن يشتري الشايب شكسبير، كي لا تنعت بلاده بالتخلف. (الإنكليزي: ولكنكم بحاجة إلى أدباء عرب من بيئتكم وثقافتكم. والبلاد العربية لا تنقصها الأسماء الشهيرة والمرموقة. العربي: معظمها مباع، ولقد اشترينا نحن من جميع الأصناف والمستويات فلم يتغير شيء، ولذلك قررت حكومتنا شراء كتاب خالدين).

ثم يضيف العربي: اشترينا غوتيه من ألمانيا ودانتي من إيطاليا وطاغور من الهند ولوركا من إسبانيا وأميل زولا من فرنسا واسخيلوس من أثينا، وهذه نسخة عن الفواتير. وعندما يسأله الإنكليزي عن روسيا، يقول المندوب إن روسيا رفضت أن تبيعنا تولستوي وتشيخوف ودوستويفسكي، ولكنها باعتنا لينين. الإنكليزي: ولكن لينين ملحد وأنتم بلد إسلامي متشدد! العربي (هامساً): لقد باعونا لينين مسلما وبسعر الكلفة). وعندما استعلم الإنكليزي عن أوضاع هؤلاء الكتاب في تخوم الربع الخالي، أجابه العربي أن دانتي عاكف الآن على كتابة (الكوميديا النفطية)، وإسخيلوس يهتف مبتهجاً بعد زيارة المدن العربية وأريافها: (كأنني ما زلت أعيش سنة 2000 قبل الميلاد). وبانتظار قرار مجلس الوزراء واللوردات والعموم ببيع شكسبير، يقول العربي: (نريد أن نبني حضارتنا وثقافتنا وأجيالنا، نريد أن نقضي على التخلف. وعندما تريد أن تبلغني شيئا، فأنا موجود في الكاباريه المجاور).

أبوسلمى

ويتحدث الماغوط في كتابه عن علاقته بالشاعر أبوسلمى قائلا: في الستينيات تعرفت على «شيخ الشعراء وأبو القضايا»، شاعر العودة أبوسلمى، وذلك في مطعم حلويات مهنا في ساحة المرجة بدمشق، حيث كان يقدم أشهر فطاير باللحمة في الستينيات، وكنا نواظب على هذا المطعم ونتناول في حديثنا كل القضايا المطروحة على الساحة العربية: شعر قديم، شعر حديث، وحدة، انفصال، وبشكل خاص قضية القضايا فلسطين. وكان أبوسلمى يغيب عني فجأة شهرا أو شهرين ثم يعود فنلتقي مصادفة في المطعم نفسه، فأبادر إلى الترحيب به وسؤاله:

أين كنت؟

- في مصر، من أجل القضية.

وبعد شهرين أو ثلاثة أعود فأسأله: أين كنت؟

- في الجزائر من أجل القضية، في بغداد، في أبوظبي من أجل القضية.

ومرة غاب عني لفترة طويلة، فلم أعد أرى له أثرا أو خبرا في مطعم أو مقهى أو شارع. ووقعت حرب يونيو ومات عبدالناصر وظهر السادات، وغابت وجوه وظهرت وجوه، وحدثت تطورات عجيبة، منها أنني دعيت إلى الاتحاد السوفياتي ضمن وفد لاتحاد الكتاب العرب. وفي آخر يوم من الزيارة، وأنا في صالة فندق روسيا الواسعة أتأمل مئات الوفود الآسيوية والإفريقية والأوروبية، تموج هنا وهناك، وكل عضو يضع شارة على صدره ويدور بحقيبته وقضيته في أرجاء القاعة، هناك رأيت أبوسلمى من بعيد، وهو يدور في أرجاء القاعة بحقيبته وقضيته، فصحت به بانفعال وقد فوجئت بوجوده: فلسطين، شعر حديث، شعر قديم، كفاح مسلح، كفاح مهذب، فلم يسمعني ولم يلتفت إلي. وهنا صرخت بشكل عفوي: «فطاير باللحمة»، وإذا به يلتفت في الحال متلمظا مستطلعا.

فقلت له وأنا أمد له يدي مصافحا: فطاير باللحمة يا أبوسلمى!

فقال وهو يهز برأسه وظلال الدموع في عينيه: نعم... فطاير باللحمة.

وفاة الأب

على الرغم مما حملته الثمانينيات من عطاء كبير أفرح قلب الماغوط، فإنها أخذت منه تباعا أعز أحبائه، وكانت أولى الصدمات التي تلقاها آنذاك وفاة شقيقته ليلى، على أثر نفاس بعد الولادة وإهمال من الطبيب والزوج معاً سنة 1984، ليتلقى صدمته الثانية بعد أقل من عام، وكانت مفاجأة له، وهي وفاة والده أحمد عيسى لتوقف القلب. ويرثي الماغوط والده «أبو محمد»، في كتابه «شرق عدن غرب الله»، إذ يقول:

مطرقة ومنجل وعمامة

سنفتح هنا.. سنسد هناك.. سنحفر.. سنطمر.. سننكش

وأنت كش الدجاجات.. وأنتِ احلبي البقرة.. وأنت اسلق الذرة.. انزع.. اقلع.. ادهن.. اكنس.. الصق.. افتح.. أغلق

هذا هو أبي في بضعة سطور.. يعشق القرقعة والطقطقة من أي مصدر كان.. ولذلك عندما أسلم الروح: المطرقة في يده والمسامير في فمه.

ومدد في تابوت شعبي مستعمل، انفتحت إحدى خشباته، فسارع أحدهم وعالجها بالمطرقة، علقت أختي مريم باكية مزغردة:

أبي الآن في قمة السعادة، مطرقة ومسامير من حوله، إنها الجنة التي طالما عمل وصلى لأجلها. وكان يحب صوت سميرة توفيق، ويعشق الملح، ويعتبر رغيف الخبز عاصمة الفقراء في العالم، حتى لو كان بدون ملح.

وعاش ومات ودفن في الأرض الخضراء والحمراء، كبطيخ قريته وعلم طائفته.

بدوي على ضفاف السين

يحتوى كتاب «سأخون وطني»، ككتبه جميعاً، على عدد من المواقف الطريفة والساخرة، إلا أن واحدة منها حظيت بشهرة كبيرة، ذلك أثناء زيارته لفرنسا، والتي كتبها في مقال بعنوان: «بدوي على ضفاف السين». يقول:

بعد أن سافر الماغوط إلى باريس وأقام فيها فترة من الزمن قصيرة، وفي طريق عودته إلى المطار يقول: ما إن رأيت أول شرطي حتى أوقفت السيارة، وطلبت من السائق أن ينتظرني قليلا، إذ كنت قد علمت أن الشرطي في تلك البلاد كلما اقترب منه أحد المارة وسأله سؤالا يرفع يده ويؤدي له التحية، ثم يجيبه عن سؤاله. ولذلك تقدمت منه وسألته: أين طريق المطار؟ فرفع يده وأدى لي التحية وأجابني بكل رحابة صدر.

ثم ابتعدت عنه قليلا، وعدت إليه مرة أخرى وسألته: كم الساعة؟ فرفع يده وأدى لي التحية وأجابني. ثم أخذت أودعه وأعود إليه وأسأله تارة كم عنده من الأولاد؟ وكم راتبه؟ وهو يجيبني بالتحية نفسها وبالترحيب نفسه حتى شعرت بأنني اكتفيت. فأسرعت إلى السائق راضياً معتذراً فقال: ما قصتك أنت وهذا الشرطي، لقد أرهقته؟ فقلت: القصة وما فيها أن الشرطي هنا كما ترى عندما تسأله سؤالا يرفع يده ويؤدي لك التحية ثم يجيبك عن سؤالك. أما عندنا في الشرق فالشرطي لا يرفع يده إلا للضرب، ولذلك فعندي جوع تاريخي للاحترام والشعور بالإنسانية، ولذلك أخذت معي «زوادة» من هذه الأشياء لا أكثر ولا أقل.

شادي عباس

back to top