ملك القدود وسيد الموشحات وحارس التراث (2-13)

الشوا ورجب... جناحا صباح اللذان حلّق بهما عالياً

نشر في 14-04-2021
آخر تحديث 14-04-2021 | 00:00
ما بين ألقابه المتعددة، وأعماله الخالدة، وألحانه الطريفة والتالدة، يقف صوته معلناً عن نفسه بالتفرد، محتلاً ساحة الطرب، حتى صار زرياب العصر ومبعث الفخر، فقد ولد عملاقاً في زمن العمالقة، في وقت كان من الصعب على أي إنسان أن يحجز لنفسه مكاناً بين النجوم، لكنه عزف منفرداً فأبدع، وغنى فأطرب، وعاش مكرساً حياته لأجل التراث والفن الأصيل، وحاملاً الراية عالياً بكل ثقة، منذ أول صرخة في حياته وحتى الآن.
إنه صاحب الصوت الفاخر، ملك القدود الحلبية، ابن حلب الشهباء التي ترى وتسمع في آن، إنه «قلعة حلب الثانية» وأجمل قطوف الطرب الدانية... إنه صباح فخري، صاحب السيرة الطربية، نجم الموال وملك القدود، الذي يسعد «الجريدة» أن تفرد له هذه المساحة، لتنثر على قرائها عبيراً من سيرته.
اكتسب صباح فخري علمه الخاص بالصوت واللغة والكلمة، بعد تلاوة القرآن الكريم، من خلال تتلمذه على يد مجموعة من كبار الموسيقيين الحلبيين خصوصاً، ومنهم عازف العود محمد رجب، والعبقري سامي الشوا عازف الكمان، كما أن بيئته ساعدته في الحصول على ثقته بنفسه وبصوته وتعلقه بالتراث العربي الأصيل.

دخول المدرسة

اقرأ أيضا

تميز صباح منذ صغره بأنه ذكي وموهوب جداً، وكان لوالدته -وللأم دائما دور كبير في حياة أولادها- تأثير كبير على مسيرة حياته، فقد اقترحت إدخال صباح مدرسة حكومية، وذلك بعد تخرجه من الكتاب عند أبيه الشيخ محمد، وكان عليه في ذلك الوقت أن يكمل مسيرة تقدمه. كانت علاقته مع والدته قوية جداً وملتحمة، لم يغب في صغره عن ناظريها إلا قليلا، وإن غاب فيبقى في وجدانها، حيث استمرت عليا القدسي متابعة له في مسيرة حياته وشبابه، وفي زواجه أيضاً.

وتروي المصادر قصة طلب عليا من زوجها الشيخ إدخال ابنهما لمدرسة حكومية قائلة: بعد أن أنهى الشيخ محمد والد صباح الدرس والامتحان والفصل الدراسي ودع تلاميذه، متمنيا أن يلقاهم في الفصل التالي، وفي أحد المرات في العطلة دخلت عليا على زوجها الشيخ محمد تحمل إبريق الشاي، وفي فمها حديث تريد أن تبوح به، وقد اتخذته قراراً لا تريد الحياد عنه. تطلب منها الأمر حنكة وطريقة في الإقناع، فتحينت الفرصة حين كان زوجها جالسا باسترخاء، وطلبت منه إدخال صباح الدين المدرسة الحكومية، فانتفض الزوج مستفسراً من عليا زوجته عن سبب طلبها هذا، وقد كان صباح قد تعلم عند والده كل شيء وتفوق على تلاميذ الحي كلهم، «ألم يحفظ القرآن والتجويد؟ ألم يتعلم الخط والحساب؟ وأنا أدرس أبناء الحي والأحياء المجاورة وابني يدخل مدارس الحكومة؟! لا... دعي عنك هذه الأفكار، فقد اكتفى ولدي صباح الدين بما تعلمه عندي في المكتب».

إلا أنها استطاعت في النهاية إقناعه بإرسال ابنهما إلى المدرسة، وقد برز التلميذ صباح أبوقوس في مدرسة الحمدانية كتلميذ مجد ومجتهد، وكان واضحا للجميع تفوقه في اللغة العربية والتربية الدينية، وتميزه في حفلات المدرسة، التي تتطلب إلقاء وخطابة وغناء، وقد ذاع صيته في المدارس الأخرى؛ لجمال صوته، فطلبته مديرة روضة البلابل ليشارك في المهرجان السنوي الخاص بالأطفال للمدرسة، والذي تحييه في حي «الفرافرة»، وغنى يومها:

يا ليتني كنت عصفورا أحب الضوء والنور

وأأبى العيش مأسورا فيا أولاد خلوني

محمد رجب

كان لصباح فخري أقرباء من جهة والده، منشدون، أصواتهم مقبولة، ولكن أقاربه من جهة والدته (أخواله) كانوا يحبون الطرب، فجاء صباح مزيجا من الطرفين وذا صوت شامل وجميل.

بقي صباح يتابع مع والده وإخوته مدارس الإنشاد من جهة، حيث اصطحبه شقيقه الكبير عبدالهادي، وهو في عمر ثلاثة عشر عاماً، إلى مجالس الطرب، التي كان يُدعى إليها، فتعرف صباح فخري بعازف العود والملحن السوري محمد رجب، الشهير بتلحينه الموشحات بالطريقة التقليدية، وقد أبدى هذا الأخير إعجابه بموهبة صباح الصوتية، فعلمه أصول غناء الليالي ونغم البياتي والغناء كموشح «يا هلالاً غاب عني واحتجب»، كما تعلم المقامات والإيقاعات العربية في الموشح، وحفظ العديد من ألحان

محمد رجب المولود في إدلب عام 1922، حيث نشأ حبه للموسيقى فتعلم مبادئها والعزف على العود على يد محمد قاسم آغا، ثم انتقل إلى مدينة حلب حيث الحركة الموسيقية المزدهرة. وفي عام 1949 تعرف إلى الدكتور فؤاد رجائي، وتتلمذ على يديه في المعهد وخارجه الكثير من الموسيقيين، منهم صباح فخري ونزار موره لي وصبري مدلل وإبراهيم جودت وعدنان أبو الشامات وسمير حلمي والدكتور كمال صباغ الباحث الموسيقي، وغنى ألحانه كبار المطربين والمطربات في حلب، منهم صباح فخري وصبري مدلل وروحية

عبد القادر وحسن الحفار ومصطفى ماهر وسحر. كما وضع موسيقى وألحان عدد من المسرحيات التي قدمتها فرق حلب المسرحية، منها مسرحية ألحان ودموع، تأليف حسين سلانيك وإخراج حقي المدرس، وقدمت على مسرح سينما رويال (سينما حلب حاليا) عام 1947. وفي فبراير عام 1972 شارك في المسابقة الدولية لأغاني التضامن والسلام في ألمانيا الديمقراطية آنذاك بنشيد «لكل شعوب الأرض»، وحصل على جائزة أجمل لحن في المهرجان، والنشيد كلمات عمر البابا.

وعندما تأسست إذاعة حلب عام 1949 كان محمد رجب من أوائل العاملين فيها، وتولى رئاسة شعبة التدوين فيها، إضافة إلى العزف ضمن فرقتها الموسيقية، فقد كان يجيد العزف على آلات العود والنشاة كار والكمان والمندولين، ويعتبر رجب موسيقياً قديراً له دور مهم في النهضة الموسيقية، التي شهدتها حلب مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، بالإضافة إلى عمله في الحفاظ على تراثها الغنائي من الضياع.

الدراسة الإعدادية

لفت صباح فخري في مرحلة الدراسة الإعدادية انتباه زملائه بصوته الرخيم الجميل، وحسن أدائه لأناشيد ومدائح دينية جمعها خلال تردده على حلقات الذكر بحلب، وتدريجياً شجعته إدارة المدرسة الإعدادية على المشاركة في الغناء بحفلاتها، فقويت شخصيته الفنية وارتفعت معنوياته الموسيقية، وكانت المدارس الحكومية تطلبه لصوته الجميل، فجعلوه يشارك في مسرحيات المدرسة ومنها مسرحية «الكارثة».

البيئة الفنية

ولد صباح فخري الفنان الموهوب، منذ صغره، والمجتهد في بيئة مهّدت له كل السبل، ليصبح المطرب الذي ملأ صوته أصقاع الأرض في حارة الريش بحلب، والتي لا تختلف طبيعتها البسيطة والجميلة كثيرا عن طبيعة البيوت الشامية المعروفة بديكورها المتميز من حيث المساحة الكبيرة والأبواب والنوافذ العريضة و«أرض الديار» المزينة بكل أنواع الزهور والنباتات والبحرة وغيرها، حيث خرج صباح منها متسلحاً بحب التراث والأصالة.

وفي هذا الشأن تتحدث الباحثة السورية شذا نصار، التي تعرفت على الفن الأصيل، الذي دفعها لتكتب عن أستاذ الغناء العربي، في حارة الريش بحلب، فالأوقات التي حفرت بمحبة في ذاكرتها أوقات لا تنسى في حارة الريش، يقودها الحنين لاسترجاعها وتعود إلى الزمن الجميل، إلى المرح البريء، إلى الحلم، مصلية لعودة تلك الأيام. فتتحدث عن لقائها للمرة الأولى بصباح فخري، وتقول: لقد كنت وقتها طفلة صغيرة، عندما التقيت بالأسطورة في منزل أخته، وقتها كان أبي يمسكني بيديه عندما نمشي في الشارع، وأذكر يوماً أحب فيه والدي أن يصحبنا بزيارة عائلية لقريبه، الذي كان يسكن في حارة الريش من حلب القديمة. وصلنا إلى بوابة صغيرة، وقرع والدي الباب بما كنا نسميه سقاطة الباب. فتح صاحب الدار بنفسه مؤهلا ومسهلا بقريبه وعائلته، وواكبته زوجته بترحيب لا مثيل له، أفسحوا لنا دربا تبدو لنا من خلاله فسحة أرض الديار، التي أذكر منها تماما البحرة الصغيرة التي تلتف حولها كراسي الخيزران، وتتوسطها نافورة تغدق الماء بارتفاع خفيض تداعب به ورودا تناثرت على صفحتها،

لا تختلف أرض ديارهم كثيرا عن مثيلاتها في أحياء حلب القديمة، وما علق في ذاكرتي ولم يغب أن شابا يافعا من ضيوف الدار تناول العود وبدأ يداعب أوتاره بريشة خبيرة، وبصوت خفيض حتى أقنعته صحة النغم، فهز رأسه بحركة فهمها الآخرون، فأحضر أحدهم الدف، وجلب ثان الدربكة، ودندن معه العود، ودندن معه الحاضرون من أهل الدار، كما انتشى الدف وتحمست الدربكة، لينتظم الجميع في إيقاع متقن بالأكف والأصابع لطالما عُرف به أهالي حلب، بل وتميزوا به، وارتفعت الأصوات بغناء موشح جميل تفرّد بينها عازف العود بطبقات عالية متميزة من حنجرة فريدة أخرجت الحاضرين كلهم، ومن بينهم والدي، عن وقارهم المعهود، بكلمة «الله» التي رافقت وقوفهم على أقدامهم وارتفاع أيديهم إلى السماء، وملأت أصداء الغناء أرجاء الدار، وبلغت النشوة حدّها الكافي، لينهض رجال الدار وينتظموا في حركة متناسقة مع موشح «لما بدا يتثنى»، وتتحرك أرجلهم في إيقاع يتوافق مع نقرات الدفوف بين أيديهم، وتعلو رؤوسهم وتنخفض بما يقتضيه اللحن.

وتتابع شذا: كانت النساء يشاركن في الغناء، بينما يرقص الرجال. ليلة لا تنسى حفرت في ذاكرتي، واستقرت في وجداني، وكانت أول مرة في حياتي أشاهد فيها ما عرفته بعد ذلك برقص السماح، وكانت أول مرة أسمع فيها صوت صباح فخري؛ أسطورة الغناء.

رقص السماح

أما رقص السماح فهو رقص ديني صوفي سوري، يعود أصله إلى مدينة منبج شمال شرق حلب، حيث وُلد من أذكار وتجمعات صلاة في منزل الشيخ عقيل المنبجي (550 هـ)، الذي ابتكر حركات خاصة تؤدي الإيقاع بالأقدام بدلاً من الأيدي. ويقال إن رجال الدين سمحوا به لبعده عن الخلاعة والمجون، وهناك رأي آخر يقول إن أعضاء فرقة السماح كانوا يستأذنون شيخ الطريقة، أو رئيس حلقة الذكر ليؤدوه، فيسمح لهم، ومن هنا جاءت التسمية.

هذا الرقص الإيقاعي الجماعي تصاحبه الموشحات والقدود، ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً. وللسماح أنواع يتحدث عنها الباحث عبدالفتاح قلعه جي بأنها: الصف الواحد بقسميه الساكن والمتحرك، الصفان، وأربعة صفوف، وهما تشكيلان للتقابل والتعاكس، تأتي «الدائرة» وتقوم على تكوين دائرة من الراقصين، ويمكن أن يضاف تكوين دائرة أخرى داخلية صغرى، ثم يعود الراقصون إلى مواضعهم على محيط الدائرة. وهناك «الدائرتان» المتجاورتان المستقلتان، وهما تتشكلان من التئام صفين أو أربعة صفوف متقابلة.

سامي الشوا

اجتمع القدر والحظ معا في طريق صباح فخري منذ طفولته، ليتميز بصوته ويصبح على ما عليه، فقد أعطاه الله موهبة رائعة، ووضع في طريقه الأشخاص المناسبين ليصل إلى المكان المناسب، ومن هؤلاء الأشخاص الأستاذ سامي الشوا، والده أنطون إلياس الشوا، موسيقي حلبي المولد والمنشأ، اشتهر بعزفه على آلة الكمان وأدخلها إلى التخت الشرقي بدلا من الربابة، وكان يعتز بآلة كمان قديمة ورثها عن جده، الذي عزف عليها في حضرة القائد إبراهيم باشا عند غزوه سورية، وغادر سامي الشوا حلب إلى مصر، بلد السينما والأضواء في ذلك الوقت، واستقر قريبا من الأوساط الفنية، ويذكر عنه أنه عزف في الفرقة الموسيقية لأم كلثوم، منذ أن بدأت الغناء بمصاحبة آلات موسيقية في أولى حفلاتها العامة عام 1926، إلى جانب محمد القصبجي وكبار العازفين المعروفين. كما ضمَّه محمد عبدالوهاب إلى فرقته الموسيقية، وتسلم قيادة الفرقة لاحقا لعدَة سنوات،

وفي إحدى المرات التي كان فيها الشوا في حلب يشرب القهوة على الرصيف، أمام فندق بارون الحلبي، تقدم منه رجل وقور ذو شخصية جدية، ومعه ولد صغير تجاوز عمره السنوات العشر، واقتربا منه معا، وبادر الرجل بالحديث معرفا عن نفسه: أنا فوزي الشماع أحد التجار المعروفين في حلب، وقد سمعت بأنك تبحث عن الأصوات الجميلة، وقد جئتك بموهبة نادرة وصوت لا مثيل له، وأتمنى أن تسمعه. وبالتأكيد سمعه، وكانت هذه من أهم المحطات في طريق صباح فخري نحو الشهرة لاحقا.

اللقاء والتعلم من العبقري سامي الشوا مهّد الطريق أمام صباح لينطلق مباشرة، فمن هو سامي الشوا الذي ذاع صيته في كل مكان وقتها؟

الموسيقي الذي انحدر من أسرة الشوا الحلبية الموسيقية العريقة، التي قدّمت ثمانية عازفين ومطربين مميّزين على الأقل، ولد عام 1889 في حلب، ورحل عن دنيانا مساء الجمعة 31 ديسمبر 1965. عزف الشوا على الكمان في سن الخامسة، حيث تقول بعض المصادر إنه استيقظ على صوت أذان الفجر ينطلق من مئذنة جامع الهزازة القريب من المنزل في حلب، فانسحب من سريره، وتوجه رأساً إلى غرفة نوم والده ليمسكَ الكمان ويعزف عليه الأذان، قبل أن ينتهي المؤذن، وتكون بذلك مقطوعة «أذان الفجر» أول مؤلفاته الموسيقية، وقام بتطويرها كثيراً فيما بعد. تعلّم العزف على العود في القاهرة على يد منصور عوض. أُعجب أمير الشعراء أحمد شوقي بعبقرية سامي الشوا الموسيقية، واصطحبه في عام 1910 في زيارة إلى اسطنبول، حيث عزف الشوا أمام الأمير يوسف عزالدين ولي عهد السلطان العثماني، وبحضور كبار الموسيقيين الأتراك.

منهج العود الشرقي

يُذكر من عناوين مؤلفات الشوا، التي فقد معظمها، كتاب «منهج العود الشرقي»، الذي ألفه عام 1921 وكان مقرراً في المدرسة الأهلية لتعليم الموسيقى. أيضاً اشترك مع منصور عوض عام 1946 في تأليف كتاب «القواعد الفنية للموسيقى الشرقية والغربية»، ووضع لوحده كتاباً بعنوان «ميتودا» لتعليم العزف على الكمان. أيضاً وضع كتاباً جمع فيه مقامات وإيقاعات الموشحات والأدوار التي كانت شائعة في زمانه.

شادي عباس

والدة صباح تقنع زوجها الشيخ محمد بإدخال ابنهما مدرسة حكومية لإكمال تعليمه

صباح أبوقوس الفتى الذي ذاع صيته في مدارس حلب لجمال صوته

تعلم المقامات والإيقاعات العربية في الموشح وحفظ العديد من ألحان رجب المولود في إدلب عام 1922

الملحن محمد رجب علّم صباح أصول غناء الليالي ونغم البياتي والغناء كموشح

حارة الريش التي خرج منها صباح منحته ثباتاً على الأصالة وحب التراث
back to top