شاعر التمرد والحزن الذي سكن الإنسان العربي (2-16)

السجن يوقظ «القتل» في الماغوط ويجمعه بأدونيس

نشر في 14-04-2021
آخر تحديث 14-04-2021 | 00:02
يترجم الماغوط حياته الفقيرة وطبيعته المتمردة في الشعر، يكتب ولا يتوقف، يسابق أبناء جيله ويتقدم، مستمداً أولى طاقاته من عرابه الشعري سليمان عواد، ولكي يحمي نفسه يلتجئ إلى أحد الأحزاب. وهنا تبدأ مشاكله السياسية الفعلية في منتصف الخمسينيات، لينتقل إلى مرحلة جديدة من الشعر والخوف المتعانقين في روحه.
تعرف الماغوط في الرابعة عشرة من عمره على سليمان عواد، الذي عرفه على الشعر الحديث، إذ يعتبره الماغوط معلمه الأول، الذي كان ينشر وقتذاك في «الآداب» و»الأديب»، ويذكر الماغوط دائماً أنه أول من عرفه على هذا النوع من الشعر وقرأ له «رامبو» مترجماً، كما يعتبره من أوائل من كتبوا قصيدة النثر.

فمن هو سليمان عواد؟ هو شاعر ولد في سلمية عام 1922، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها، ثم تابع دراسته الإعدادية والثانوية في حمص وطرطوس وحماة، وأتم دراسته في كلية العلوم السياسية بالجامعة اليسوعية ببيروت، عمل في وزارة الزراعة، ثم معيداً في كلية الزراعة بجامعة دمشق، وبعد ذلك في دائرة الرقابة بوزارة الإعلام.

كتب عواد الشعر في الأربعينيات من القرن الماضي، وبدأ بنشره في مجلة الأديب في الخمسينيات، ويعد شيخ قصيدة النثر في سورية، وهو أحد أعمدة التيار الرومانسي في قصيدة النثر، فتراه يرسم ملحمته الخاصة بعفوية وصدق وحس مرهف.

اقرأ أيضا

يرى أن الشعر حس ومعاناة، وقد دعا إلى التوحد مع الطبيعة في أشعاره. لم يكن يحب لقب أستاذ في الحوارات التي تجرى معه، بحجة أنه حتى كافور الإخشيدي لقب بهذا اللقب! كان ميالاً للعزلة، وقد قال عنه أحد أصدقائه إنه كعصفور دوري لا يقترب إلا من صديقه وحسب، وكان يردد دائماً: «لولا المرأة لما وجد الفن أو الإبداع، فهي ملهمة إذا أرادت، وجحيم إذا لم ترد»، وكان يحب التسكع في شوارع دمشق، وكان كل ما يكتبه يخرج من أعماقه. مات وقصيدته الأخيرة بين يديه، وقد نعته الأديبة كوليت خوري بقولها: «كنت أحس في هذا العالم الذي يعيش على الكذب والنفاق والحسد والدنس أنني أمام نبع فياض من الصدق والعطاء والحب، وأن مجرد وجوده في هذا العالم المريض بالحقد كان يدعو إلى الاطمئنان والسرور».

أعماله الشعرية المطبوعة:

سمرنار 1957- شتاء 1958- أغان بوهيمية 1960- حقول الأبدية 1978- أغان إلى زهرة اللوتس 1982- الأغنية الزرقاء الأبدية 1986 ( طبع بعد وفاته بجهد من نجله رياض).

وله في الترجمة: شعراء من رومانيا 1979- قصائد الضياء 1980- ذئب البحر 1983.

وله مؤلفات في السياسة والنقد الاجتماعي، كما ترك مجموعة مخطوطات لم تطبع حتى الآن. توفي سليمان عواد في 18 يناير 1984 عن عمر 62 عاماً، ودفن في مدينته سلمية.

وقال الكاتب محمد عزوز، في صحيفة الفداء الحموية بسورية وأيضاً في كتابه «راحلون في الذاكرة» إن الماغوط مرت به سنوات عجاف، وداهم بيته نهر في أحد أحياء دمشق فخرب أثاثه وعطب كتب الشاعر.

الحياة السياسية

انتسب الماغوط إلى أحد الأحزاب السياسية المنتشرة في سورية بتلك الفترة الزمنية في مرحلة مراهقته، مختصرا انتسابه إلى الحزب بالقول: انقلبت الآية ودخلت في حزب لم أقرأ مبادئه، وبدأت أتنقل من سجن إلى آخر، حتى وصلت إلى ما أنا عليه. أما عن بداية انتسابه للحزب القومي السوري الاجتماعي فيقول: كانت الدنيا بردا وشتاء، وكان في السلمية حزبان حزب البعث والحزب القومي، أما حزب البعث فقد كان مركزه في حارة بعيدة والطرقات موحلة جدا وتنتشر فيها الكلاب والتي يعلو عواؤها في الطرقات ذاتها، كما أنها لم تكن مضاءة. ومن جهة أخرى، وفي مكان قريب من بيتي، يتواجد مركز الحزب القومي، وفيه مدفأة، فانتسبت إليه، ولا أعرف إن كان لحزب البعث في مقرة مدفأة أم لا، ولكن كان مسؤول حزب البعث وقتها سامي الجندي، وهو ملاكم، وأنا أكره العضلات، كنت أخاف أن أتعرض للكمة منه «يسفقني بوكس» يعيدني به إلى بطن أمي.

ويقول أيضاً: كنا في المنزل، كل ينتمي لحزب، أنا منتسب إلى الحزب القومي السوري، وأخي شيوعي، وآخر من جماعة أكرم الحوراني، أما أمي فكانت تقول عن ماركس: «سركيس».

في تلك المرحلة، التي يمكن أن نسميها «مرحلة النشر الأولى»، والتي كانت غير مستقرة في مراحل حياته عامة، التفتت الأنظار إليه، لأن بواكيره الشعرية كانت جديدة في مضمونها وواقعيتها، وغرف مما كان يعانيه، ويعانيه جيل كامل، كما أن الصور الجديدة التي جاء بها في قصائده كانت لافتة، وكانت نقيض التأنق اللفظي والزخرف الكلامي. في حين كان الشعراء والمثقفون والأدباء العرب عامة، يحومون في ماء التجربة والعبثية والوجودية، وبقية المدارس التي كانت رائجة في الغرب في تلك الفترة.

ودائما ما يرد شاعرنا على المنتقدين لطريقته الشعرية بالقول: ليقل الكثيرون ما يقولون عما أكتبه بأنه ليس شعراً لأنه بلا وزن ولا قافية ولا روي، فهو إلهام شعري قد ركبني، وبهذه الصيغة سمه شعرا مطلقا. إنه شعر... شعر.

«غادة يافا»

بدأ الماغوط فعلياً بالانتشار كشاعر في الفترة، التي تلت عودته إلى سلمية، بعد ترك المدرسة الثانوية في خرابو بالغوطة، عندما عمل وقتها كأبيه فلاحاً، فظهرت بوادر موهبته الشعرية، ونشر قصيدة بعنوان «غادة يافا» في مجلة الآداب البيروتية عام 1953.

ويقول في قصيدته هذه:

لقد هجرت بلادي، كنوز الخير والجمال، ولكن بالسياط... السياط الجائعة، تدفعني إلى الهلاك، والرحيل الأعمى...

بين الشوارع والأدغال

كخفاش مسلول... أرهقه التجوال والظمأ

فراح يأكل من جناحيه الممزقين

ولي رسالة في العودة الكبرى، إلى الينبوع الأزرق الصافي، بين صخور يافا...

إلى المعاصر الخمرية في ظلال الورد والزيتون...

الأمل الشادي سوف يتثاءب من جفوني ليصحو ويكون ما نريد

لن أموت، كبعوضة في حلق تمساح...

أنا «تامار»... غادة يافا

ابنة الصراع، وفراشة الوادي، ورمح الانتقام

النبيذ المر

سمع الماغوط، عندما كان طالبا في المدرسة الزراعية، عن مجلة الآداب ليوسف إدريس، وقرر أن يرسل لهم قصيدة كتبها ويوقع في نهايتها باسمه، وقال في نفسه: شو يعني طالب زراعة؟ ثم كتب: محمد الماغوط، دكتور في الزراعة. وأرسل القصيدة إلى تلك المجلة، فنشروها. وفي إحدى المرات كان عائدا من البستان حافي القدمين، وإذا بالدرك يوقفونه. قال أحدهم: هل أنت محمد الماغوط؟ فرد عليه: أنا. فقالوا: تعال معنا. فتساءل: إلى أين؟ فقال: بتعرف حالك شو عامل!

ذهب معهم، وعندما وصل، كان قائد الفصيل جالسا في بيته على هضبة وحوله موظفو البلدية والطابو والنفوس وغيرهم، فقام وسلم على محمد، ثم قال: هل أنت من نشر قصيدة باسم «النبيذ المر» عن فلسطين. فقال له: هل من شيء حول هذه القصيدة. فرد القائد: لا، ما من شيء. وشكره وطلب منه الجلوس. يقول الماغوط: جلست وأنا مرتاح نفسيا، ووضعت رجلا على رجل وأنا حافٍ، فاكتشفت كم كنت صغيرا! (يقول عن نفسه: أنا أكره الكرافات، ارتديتها كثيرا، حين ألبسها لا أفهم ما الذي أتحدث به ولا أفهم ما الذي أسمعه)، وقال قائد الفصيل مجدداً: أنا أرسل لمجلة الآداب لكنهم لا يقومون بالنشر، فقلت له: سوف أتحدث من أجلك مع المجلة.

في قصيدة «النبيذ المر» سنة 1953 يقول الماغوط:

(مقدمة إلى ذلك الشيطان الذي قال: اشرب من نبيذ لندن يا شاعري! فقلت له: لن أشربها إلا من كروم ضيعتي... بين جناحي «الغور»)

رباه... أيها الناموس العظيم

لم تجرف الموجة الغاضبة... محارات نفسي إلى قعر المحيط

حيث أشلاء الملاحين التعساء... تخنقها إلى الأبد

فروحي لم تزل... غيمة رقيقة من سحاب الجنوب، دفنتها الأهواء... في ألف نعش، ولكن لن تغيب

فأي دمعة رشيقة في جفون البرتقال... نهبتها الريح العاتية... من مساكب الغور

فتاهت على ألف خد غريب... تلسعها الأظافر... وتميتها لفحات الوجد والجفاف

كما كتب الماغوط قصيدة جديدة، حيث كانت من أوائل قصائده النثرية، بعد تأديته الخدمة العسكرية في الجيش؛ قصيدة «لاجئة بين الرمال»، التي نُشرت في مجلة الجندي، التي كان ينشر فيها كل من أدونيس وخالدة سعيد وسليمان عواد. نشرت بتاريخ الأول من مايو عام1957، ونلفت الانتباه هنا إلى أن أغلب المصادر قالت: إن القصيدة نشرت عام 1951، ولكن منطقيا في هذا العام كان عمر الماغوط 17 عاما فقط، وبالتالي لم يكن قد أدى بعد خدمته الإلزامية التي بدأها سنة 1953 تقريبا، والتي كانت مدتها في تلك الفترة تقارب ثلاث سنوات.

السجن والخوف

أثناء فترة تأدية خدمته الإلزامية، اغتيل العقيد المجاز عدنان المالكي رئيس الشعبة الثالثة في هيئة الأركان بالجيش العربي السوري، يوم الجمعة في الثاني والعشرين من أبريل عام 1955، حيث أطلقت عليه ثلاث رصاصات في الملعب البلدي بدمشق أثناء حضوره مباراة بكرة القدم بين فريق الشرطة في الجيش العربي السوري وفريق خفر السواحل المصري، واتهم الحزب القومي السوري الاجتماعي بالوقوف وراء هذه الجريمة، فتم اعتقال المئات من نشطاء هذا الحزب وكان الماغوط من بينهم.

وعن تلك الفترة يتحدث الماغوط في لقاء تلفزيوني قائلا: لقد قتل المالكي الساعة الخامسة في الملعب البلدي، وفي الساعة الرابعة كانوا يسألون عني في السلمية، إذاً فالقصة مرتبة، مع أن من قتله كان من أعز أصدقائي (يونس عبدالرحيم)، وكان في الشرطة العسكرية وكنت أزوره كلما ذهبت إلى قطنا، وخاصة بعد أن أجريت عملية جراحية لعيني ووضعت عليها الضمادات، وفي إحدى المرات مررت وسألت عنه فقالوا: إنه في مهمة. فقلت لهم: أنا محمد الماغوط، وأنا بحاجته لموضوع ضروري، هناك خطط تم تغييرها. وبعد اغتيال المالكي جمعوا كل القوميين، وأنا منهم سنة 1955، ويتابع: إن انتمائي للحزب كان لجوءاً للأكثرية، فالأكثرية تحمي.

بعد إلقاء القبض عليه، سُجن الماغوط في سجن المزة العسكري تسعة أشهر، فتعرف هناك على الشاعر الكبير أدونيس، الذي كان أيضاً من الناشطين في الحزب. أثرت تجربة السجن هذه ومرارتها على نفسيته، فقرر هو وأدونيس معا الانسحاب من الحزب القومي السوري الاجتماعي لاحقاً (في الستينيات).

يقول عن تلك التجربة: عندما دخلت إلى السجن أحسست أن في داخلي شيئا قد بدأ يتحطم، وبعد السجن أصبحت كل كتاباتي في المسرح والشعر والسينما والصحافة ترمم كل ما كسر ولم أستطع. إذا دق الباب ليلا لن أفتح، وبإمكانهم أن يأتوا ويأخذوني، مع أنني في حماية الدولة السورية، وقد حمتني كثيرا، ومع ذلك أخاف. السجن مثل الشجرة له جذور. جذوره تذهب باتجاه القصيدة والمسرحية والفيلم، والى الفم الذي تقبله، والى الصدر الذي ترضع منه، الى الله الذي تصلي له.

رفيق السجن

تعرف محمد الماغوط على أدونيس في السجن (سجن المزة – المهجع الرابع) عام 1955، حيث كان أدونيس في المهجع الخامس وعمل محمد له وللموجودين في السجن مسرحا (ديكور وإكسسوار وحوار).

ويقول: كنا دائما مقابل بعضنا البعض، أنا وأدونيس، وخصوصا في الليل. كما أذكر أنني جعلت الشرطة تشاركنا التمثيل. ومما أذكره أن مؤلف المسرحية هو يوسف وهبي. وفي أحد المشاهد تحدثت باللهجة المصرية، وناداني أحدهم معترضا: «لا»، وصرنا نقول «المرض المهيمن على المجتمع» باللهجة المصرية، ونفس الشخص يعود مجددا ويقول: «لا»... ثم يضحك.

إثارة وجدل

يذكر الماغوط دائما أن أدونيس هو مفتاح دخوله إلى «مجلة الشعر» المثيرة للجدل، من خلال قصيدته الشهيرة «القتل»، التي أثارت إعجاب واهتمام أسرة التحرير وزوار المجلة، لكنه لم يكمل مسيرته مع جماعة المجلة لخلافات فكرية، كما يقول.

ويتحدث عن تلك القصيدة قائلا: عندما كنت في السجن كتبت «مذكراتي» وهرّبتها معي خارجه عن طريق حياكتها جيدا بملابسي الداخلية، وعندما سألني يوسف الخال، مجددا، عن قصيدة للنشر قدمتها له، وقام بطباعتها ونشرها على شكل مقاطع أسميناها «القتل»، تتحدث عن سجن المزة (التحقيق والاستجواب والضرب والشتائم والخوف).

ومما جاء في القصيدة:

ضع قدمك الحجرية على قلبي يا سيدي

الجريمة تضرب باب القفص

والخوف يصدح كالكروان

ها هي عربة الطاغية تدفعها الرياح

وها نحن نتقدم

كالسيف الذي يخترق الجمجمة

أتى الليل في منتصف آيار

كطعنة فجائية في القلب

لم نتحرك

شفاهنا مطبقة على لحن الرجولة المتقهقر

في المقصورات الداخلية ثمة عويل يختنق

ثمة بسالة مضحكة في قبضة السوط

الأنوار مطفأة... لماذا؟

القمر يذهب إلى حجرته

وشقائق النعمان تحترق تحت الأسفلت

الجريمة تعدو كالمهر البري

وأنا ما زلت ألعق الدم المتجمد على الشفة العليا

مالحاً كان.. من عيوني يسيل

وداعاً، وداعاً إخوتي الصغار

أنا راحل وقلبي راجع مع دخان القطار

صديق الشعر والسجن

أدونيس صديق السجن والشعر ومفتاحه... هو الشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر، المعروف باسمه المستعار أدونيس. ولد في الأول من يناير عام 1930 في قرية قصابين التابعة لمدينة جبلة بسورية. تبنّى اسم أدونيس (تيمناً بأسطورة أدونيس الفينيقية)، الذي خرج به على تقاليد التسمية العربية، منذ عام 1948. تزوج من الأديبة خالدة سعيد ولهما ابنتان: أرواد ونينار.

أهم أعمال أدونيس الشعرية: «منارات»- دار المدى- دمشق 1976، و«كتاب القصائد الخمس»- دار العودة- بيروت 1979. و«هذا هو اسمي»- دار الآداب- بيروت 1980، و«كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل»- بيروت 1988، و«أغاني مهيار الدمشقي»- بيروت 1988، و«الأعمال الشعرية الكاملة»- دار المدى- دمشق 1996، و«تنبّأ أيها الأعمى»- دار الساقي- بيروت 2003، و«ورّاق يبيع كتب النجوم»- بيروت 2008، و«تاريخ يتمزّق في جسد امرأة»- بيروت 2007.

شادي عباس

سليمان عواد أول من كتب القصيدة النثرية وعرف الماغوط على الشعر الحديث وقرأ له «رامبو» مترجماً

المدفأة كانت سبب انتساب الشاعر للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي لم يكن يعرف مبادئه

الشاعر الثائر كتب أولى قصائده «غادة يافا» عندما كان فلاحاً يعمل في الأرض كأبيه

قصيدة «النبيذ المر» وقّعها الماغوط بصفته دكتوراً في الزراعة وطلبه بسببها قائد فصيل الدرك

اغتيال العقيد عدنان المالكي تسبب بملاحقة أعضاء «السوري القومي» وأدخل الماغوط السجن 9 أشهر

الماغوط وأدونيس حوّلا سجن المزة إلى مسرح وتشاركا التمثيل مع رجال الشرطة
back to top