«ولا غالب» تتأرجح بين أوهام التاريخ وحقيقة الواقع

نشر في 04-04-2021
آخر تحديث 04-04-2021 | 00:01
غلاف «ولا غالب»
غلاف «ولا غالب»
يقدم الناقد المصري محمود عبدالشكور قراءة نقدية في رواية «ولا غالب» للروائي عبدالوهاب الحمادي، وفيما يلي التفاصيل:
لعل رواية "ولا غالب" من أفضل ما قرأت في نقد نظرة العرب للتاريخ، فبدلا من أن يصبح الماضي وسيلة لفهم الحاضر، ولصنع المستقبل، أصبح سجناً للعقول، ووسيلة للهروب، وصار المنهج أن نراه كما نتمنى، بل ان ننخرط في أحلام عبثية لتغيير ما حدث فعلا، عوضا عن تغيير واقعنا وحاضرنا، وهكذا صار العرب في سجن كبير هو سجن الماضي، بالإضافة الى سجن حاضرهم البائس، وسجن مستقبلهم الغامض، وأصبح الهدف أن ننقل التاريخ البائد إلى الحاضر، بدلا من أن نصنع تاريخا لأحفادنا، بما حققنا وأنجزنا في واقعنا الراهن.

سقوط غرناطة

الرواية الصادرة عن المركز الثقافي العربي عنوانها "ولا غالب"، ومؤلفها الروائي عبدالوهاب الحمادي (وصلت روايته الأولى "لا تقصص رؤياك" الى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية 2015)، الذي يدير أحداث روايته الجديدة في 2002، ويختار لمكانها مدينة غرناطة الإسبانية، ولكنه يستدعي بذكاء، غير الخيال والزمن، لحظات سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي، واصلا بين العصرين من خلال شخصيات كويتية تزور المدينة الإسبانية في رحلة سياحية، فتجد نفسها عالقة في التاريخ فعليا، أمام أبوعبدالله الصغير المحاصر من جنود قشتالة، والحالم بمعجزة تنقذ المملكة العربية الأخيرة في الأندلس، وكم كان اللقاء متوافقا مع شخصيات عربية كويتية تعيش عام 2002، ولكنها في الواقع تهرب إلى الماضي، فراراً من ظروف الحاضر غير المواتية أو الصادمة.

رحلة سياحية

لكن الحمّادي، الروائي الطموح، لا يحول فقط رحلة سياحية إلى محاولة عبثية لتغيير التاريخ، ولكنه يوسع كثيراً من عالم روايته، بأن يطرح بسخرية لامعة سؤال التاريخ عند العرب والمسلمين أيضا، وكيف صارت لديهم مشكلة في مواجهة ماضيهم؟ وكيف تحول التاريخ الى حشيش للهروب والانفصال عن الحاضر؟ بل إن التاريخ كمشكلة ينتقل أيضا إلى سارد للرواية، وهو روائي كويتي شاب، يريد أن يكتب رواية عن الأندلس، ويبعث بما يكتب من فصول الى شخصيات مختلفة، كل واحد منها له نظرة مغايرة إلى الماضي، وكل واحد من هذه الشخصيات ينصح سارد الرواية بنصائح سردية فنية، أو تاريخية، وتقطع هذه الرسائل النص، فتؤكد من جديد تشوش سؤال التاريخ، حتى على مستوى كتابة رواية تاريخية!

هكذا إذن تولد حيلة سردية ذكية، فالمأزق يخص الروائي سارد النص، بقدر ما يخص أبطاله، وهو، أي الروائي الشاب الذي يكتب رواية عن الأندلس، عالق أيضا في التاريخ ورؤية الآخرين المشوشة له، مثل أبطاله العالقين في زمن سقوط غرناطة، فالتاريخ إذن معضلة في كل الأحوال، وهو مشكلة فنية روائية، بقدر ما هو مشكلة عربية وحضارية.

هكذا أيضا يتيح هذا البناء المعقد أمرين: إقامة جسور بين زمن الرواية المعاصر (2002)، وزمنها القديم (1492)، والأمر الثاني هو التعليق على الرواية من خارجها، من خلال أصوات من يستشيرهم السارد، وهم في الحقيقة يقدمون ملاحظات فنية عن طريقة كتابة الرواية، أي أننا أمام رواية عن رواية يتم كتابتها، ولكنهم أيضا يقدمون رؤى متناقضة للعرب وللمسلمين حول التاريخ، وكأنهم امتداد لأصوات أبطال الرواية أنفسهم، وصراع هذه الأصوات المعلقة على الفصول التي يبعثها إليهم الروائي الشاب بمنزلة تنويعة جديدة على صراع أبطال الرواية الذين يزورون غرناطة، عما حدث في آخر أيام المملكة العربية الأندلسية الأخيرة.

رؤى أسيرة الماضي

كل صوت من أبطال الرواية يمثل شخصية من لحم ودم، ولكنه يمثل اتجاها في رؤية التاريخ، وكلها رؤى تعيش أسيرة الماضي، تحاول أن تعوض في التاريخ، ما فقدته في الحاضر، فالداعية البدين يمثل الحالمين باسترداد مجد الخلافة، والإعلامي النحيف الذي شهد انهيار الحلم القومي، يبحث عنه في أطلال الحمراء، والطبيب الذي فقد زوجته، يستعيدها في صورة شقيقه أبي عبدالله الصغير، والفلسطيني المولود في الكويت يعتقد أنه لو منع سقوط غرناطة فلن تسقط القدس، ولن تسقط بغداد، وما أشبه نظرة هؤلاء الى الخلف، بنظرة أبي عبدالله الصغير الخائفة الملتاعة والمصورة على الغلاف، وهي أيضا نظرة فقد وأمل أخير في استعادة ما لا يمكن أن يعود.

استلهام التاريخ

أما المعلّقون على الرواية فهم يمثلون نماذج نعرفها في قراءة التاريخ، فالروائي الكويتي المخضرم لا يأخذ من التاريخ سوى قشوره، وهو يهتم بالدعاية الأدبية، لا بالمعنى أو القيمة، وهو يكتب عن كل شيء، إلا تاريخ بلده، والروائي الكويتي الشاب عكس هذه النظرة، هو مع حرية استلهام التاريخ، وليس نقله، والأستاذ المتدين مازال يستدعي الخلافة، وهو أيضاً عالق في التاريخ، رغم لقب البروفيسور المعاصر الذي يحمله، أما أستاذ التاريخ الثائر فهو ضد هذا السجن الذي صنعه العرب، وضد أصنام الحقائق التاريخية، ولعله الأقرب إلى منطق الحمادي نفسه.

ومثلما يعكس البناء تشوش رؤية التاريخ، فإن تعدد الأصوات بين السارد المحايد، والسارد المنحاز، وبين السرد الذاتي للأصوات، تبدو كما لو كانت تعكس أيضاً أصوات سرد التاريخ نفسه، مما يجعل وجود تقاطع، ربما لم يقصده الحمادي بين طريقة سرد التاريخ وطريقة سرد الروايات، وهو معنى ضمني، يزيد النص قوة، ويصنع سخرية كامنة، حتى لو كانت غير مقصودة.

أخطاء الماضي

وبينما يسمع الروائي الشاب كلام من يقرأ فصوله أحيانا، ويتمرد عليهم أحيانا أخرى، فإن كتابة رواية تاريخية تبدو في النهاية عملية شاقة ومعقدة، فما بالنا برؤية العرب والمسلمين لتاريخهم قريبا وبعيدا؟

ولذلك كله، تنتهي رحلة محاولة السياح العرب إلى غرناطة، بكسر عبثي للزمن، وبمحاولة أكثر عبثية لمنع سقوط غرناطة، وحتى عندما يتم إنقاذ غرناطة، فإن حياة العرب ومستقبلهم لا يتغير، فليست المشكلة إذن في سقوط غرناطة، إنما في العقلية التي لا تحلل ولا تواجه أخطاء الماضي، المشكلة في فهمنا للتاريخ كمتحف وملجأ وأشعار، لا كأفكار ورؤى، مشكلتنا في الهروب لا في المواجهة، وهي مشكلة عابرة للأزمان، ولا تقتصر على لحظة سقوط غرناطة.

رؤية بائسة

يتلاعب العنوان بشعار بني الأحمر المعروف "ولا غالب إلا الله"، وهو الشعار المدون على جدران قصورهم الباقية، ليتحول الشعار إلى "ولا غالب" فقط، فكأننا أمام نصف جملة، مثلما نفعل مع الماضي، فنأخذ منه ما نريده فقط، فنصبح أمام نصف وأحياناً ربع تاريخ، أو كأن "ولا غالب" هي عنوان الماضي والحاضر معا، فلا يمكن أن نغلب أبداً بهذه العقلية الهروبية، ولا بهذه الرؤية البائسة للماضي، والتي تنعكس على فشل فهم الحاضر، والمستقبل.

ربما أثقل النص أصواتا أخرى إضافية لم تكن ضرورية، مثل صوت صديق والد السارد، وصوت والد الشاب الفلسطيني... إلخ، وربما لم تنقذ حيلة قراءة فصول الرواية النص من أن يمتلئ بسجالات الأفكار، أي أن الفن لم يستطع بشكل كامل ترويض أفكار الرواية، ولكنها، على أية حال، طبيعة هذه النوعية من الروايات، ومع انفتاح الباب أمام الشخصيات، للولوج الى آخر أيام غرناطة، يمسك الفن نهائياً بالزمام، ويصبح نصف الرواية الثانية أفضل بكثير من نصفها الأول، وهو أيضا أمر متسق مع استقرار الروائي كاتب النص على طريقة أخيرة، يستطيع من خلالها سرد روايته، وقراءة التاريخ في نفس الوقت.

أثمّن كثيرا هذا الطموح، وتلك الأسئلة عن كتابة التاريخ، وكتابة الرواية التاريخية، وأثمّن جداً هذه المغامرة الفنية، وهذه الجرأة الساخرة في تفكيك أوهامنا عن التاريخ، وعن تلك التماثيل الثلجية التي صنعناها، ثم نشكو بعد ذلك أنها تذوب.

كل صوت من أبطال الرواية يمثل اتجاها في رؤية التاريخ
back to top