إيران وصعوبة ملء فراغ قاسم سليماني

نشر في 29-01-2021
آخر تحديث 29-01-2021 | 00:00
عملية مقتل الجنرال قاسم سليماني
عملية مقتل الجنرال قاسم سليماني
لا تزال الجمهورية الإسلامية متأثرة بموت سليماني حتى الآن، لكن المشكلة الأساسية اليوم تتعلق بعجز خَلَفه، الجنرال إسماعيل قآني، عن متابعة مسيرة سليماني وقيادة السفينة الإيرانية بالطريقة التي فعلها سلفه، كذلك، لم تتقبّل السلطات الإيرانية وشركاؤها الإقليميون بعد فكرة خسارة سليماني.
بعد مرور سنة على اغتيال أشهر جنرال إيراني من جراء ضربة أميركية بطائرة بلا طيار، لا تزال طهران تجد صعوبة في التعافي من تلك الخسارة، فقد ترك الجنرال قاسم سليماني وراءه نظاماً بيروقراطياً متكاملاً يُعرَف باسم «فيلق القدس» (إنه الجناح المعني بالعمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني)، لكن مقتله خلّف فراغاً كبيراً يمنع النظام من السيطرة على شبكة العلاقات التي تسمح لإيران بتوسيع بصمتها الجيوسياسية في العالم العربي، ولن يتمكن «فيلق القدس» من استرجاع توازنه والاستفادة من الجهود التي بذلها قائده السابق قبل مرور بعض الوقت.

قائد استثنائي

لا تزال الجمهورية الإسلامية متأثرة بموت سليماني حتى الآن، لكن المشكلة الأساسية اليوم تتعلق بعجز خَلَفه، الجنرال إسماعيل قآني، عن متابعة مسيرة سليماني وقيادة السفينة الإيرانية بالطريقة التي فعلها سلفه، كذلك، لم تتقبّل السلطات الإيرانية وشركاؤها الإقليميون بعد فكرة خسارة سليماني، فهو كان شخصاً استثنائياً ولم يكتسب الكثيرون كامل مهاراته، لذا يضطر قآني اليوم لتحمّل مسؤولية تفوق قدراته.

في مقابلة بتاريخ 27 ديسمبر 2020، اعترف أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، بأن قائد «فيلق القدس» الجديد يحتاج إلى بعض الوقت كي يتكيف مع الواقع الذي يفرض عليه أن يتخذ قرارات حاسمة بعدما كان يكتفي بتنفيذ قرارات القادة الأعلى مرتبة منه، وقال نصرالله: «لنكن واقعيين، هو يحتاج إلى بعض الوقت ولا يمكن أن نتوقع منه الإنجازات التي كان الحاج قاسم يحققها بفضل الخبرة التي اكتسبها على مر 22 سنة».

لم يكن سليماني مجرّد جنرال إيراني عادي، فطوال ربع قرن تقريباً، ترأس «فيلق القدس» وحوّله إلى أداة تسمح لإيران بتوسيع نفوذها في أنحاء الشرق الأوسط عبر وسائل متفاوتة، ومع مرور الوقت، بدأت شخصية سليماني تتماهى مع دوره الرسمي كقائد لـ»فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني، فقد كان سليماني ناشطاً أيضاً على المستويات الاستراتيجية والتكتيكية، فأدار شخصياً علاقات النظام مع مجموعة متنوعة ومنقسمة داخلياً من الحلفاء التابعين لإيران، حيث كان يصعب تقبّل هذا الجانب الحساس من دوره في صفوف «فيلق القدس». على مستويات عدة، لا يسهل تلقين هذه الصفات الشخصية للآخرين، مما يعني أن دور سليماني القيادي لا بديل عنه على الأرجح.

كانت القيادة العليا في الجمهورية الإسلامية تثق به لدرجة أن تعرف أنه لن يكتفي بتنفيذ المسؤوليات الموكلة إليه بل سيعمل على تطويرها وتحسينها عند الحاجة، فقد كان المرشد الأعلى علي خامنئي على أتمّ ثقة بأن سليماني يستطيع تجاوز أي تحديات ناشئة، لذا لطالما اقتنع بأن الجهود الرامية إلى توسيع طموحات النظام الإقليمية كانت في أيدٍ أمينة، فتعامل خامنئي مع سليماني مباشرةً، متجاوزا بذلك التسلسلات الهرمية السياسية والعسكرية، لكن رغم مرور سنة على اغتياله الآن، لا يزال غيابه طاغياً وهو يؤثر بقدرة إيران على التحكم بشبكتها الإقليمية الواسعة والمعقدة لأن سليماني أخذ معظم مهاراته معه.

مشكلة الانقسام الشيعي في العراق

لطالما واجهت حملة توسيع النفوذ الإيراني في المنطقة تحديات كثيرة، وتحديداً منذ الانتفاضة التي شهدتها سورية، وقد تمكّن سليماني من السيطرة على هذه المشاكل أو حتى إخفاء التصدعات القائمة في الشبكة الإيرانية الإقليمية لأنه كان يتقن شخصياً فن تشكيل التحالفات الموالية لإيران والحفاظ عليها، وللمرة الأولى منذ أكثر من عشرين سنة، تشعر الجمهورية الإسلامية بالضعف اليوم لأن نظام التحكم الإقليمي الذي صمّمه سليماني وأداره كان لا يزال يتكل على تدخّله الشخصي، وأكثر ما يقلق الإيرانيين هو الشرخ القائم بين الشيعة في العراق المجاور، حيث زادت حدة الانقسام المزمن في صفوف الجماعة الشيعية التي تشكّل الأغلبية السكانية هناك.

اتّضحت معالم الوضع في العراق منذ الأسابيع الأولى التي تلت مقتل سليماني، فكانت طهران تجد صعوبة في توحيد صفوف حلفائها أصلاً، وتشكّل الجهود الإيرانية الرامية إلى إقناع الفصائل الشيعية المتنوعة بتقبل مصطفى الكاظمي كوزير للحكومة خير مثال على ذلك، إذ تتّهم «كتائب حزب الله» الكاظمي بالتورط في مقتل سليماني وأمينه العام أبو مهدي المهندس الذي كان في الوقت نفسه نائب قائد «جبهة الحشد الشعبي» (تحالف بين الميليشيات الشيعية العراقية). وفي موقف منفصل، اعتبر قائد «عصائب أهل الحق»، وهي ميليشيا شيعية بارزة أخرى في العراق، أن الرضوخ للضغوط الإيرانية لتقبّل رئيس الوزراء الجديد يشبه إجبارهم على أكل جيفة، حيث صدر هذا الموقف بعد زيارة علي شمخاني، الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني، إلى بغداد لضمان أن يرأس الكاظمي الحكومة الجديدة.

سافر خَلَف سليماني، إسماعيل قآني، شخصياً إلى العراق في مناسبات متكررة خلال الأسابيع القليلة الماضية في ظل تصاعد التوتر لنقل رسالة واضحة إلى الفصائل الموالية لإيران مفادها أن طهران لا تريد تصعيد الوضع مع الولايات المتحدة، لكن لا يلتزم جميع الناشطين في الميليشيات الشيعية العراقية برغبة طهران في تجنب الصدام مع واشنطن، فاضطر قآني لزيارة العراق غداة سقوط صواريخ في جوار السفارة الأميركية في بغداد في 21 ديسمبر كي يحاول احتواء أي استفزازات أخرى من حلفائه الشيعة، وحين راح وزير الخارجية محمد جواد ظريف يصدر تصريحات علنية لتحذير الولايات المتحدة من تصعيد الوضع، كان قآني يحاول ضبط سلوك الميليشيات.

خلال هذه المرحلة الانتقالية القصيرة بين عهد ترامب وإدارة جو بايدن الجديدة، أصبح حلفاء إيران العراقيون عبئاً على طهران، ولو كان سليماني على قيد الحياة، لما تصرفت هذه الميليشيات على هواها بهذا الشكل، فقد كان من الأسهل على قائد «فيلق القدس» السابق أن يضمن عدم إقدام الميليشيات الشيعية العراقية على أي خطوات تسيء إلى مصلحة بلده الوطنية، لذلك يجب ألا ننسى أيضاً أن أبو مهدي المهندس كان شخصية أساسية يستفيد منها سليماني للتأثير على الميليشيات وإقامة التوازن المناسب بين مصالحها المتضاربة.

دور سليماني في المشرق العربي

لفهم نفوذ إيران في العراق، لا بد من مقارنة أدائها مع التجربة الإيرانية في لبنان، فقد كان سليماني الأبرع في التعامل مع لبنان تحديداً، لكن لم يكن أداؤه نموذجياً في العراق نظراً إلى اختلاف المشهد الشيعي في البلدين، ففي لبنان، يسيطر حزب الله على الأوساط الشيعية إلى جانب حركة أمل التي تؤدي دور شريكته الصغرى، وكذلك، تجاوز حزب الله اللبناني دوره الميليشياوي هناك وتحوّل إلى حركة سياسية تتقن سياسات الائتلاف في نظام ديمقراطي فُرِض على بلدٍ منقسم طائفياً، وفي المقابل يبدو النظام السياسي في العراق هشاً جداً وتشهد الجماعات الشيعية انقسامات مفرطة، كذلك تختلف درجة التزام الميليشيات العراقية بعقيدة ولاية الفقيه التي تشكّل ركيزة النظام السياسي الإيراني، في حين يُعتبر حزب الله اللبناني من جهته امتداداً طبيعياً للأيديولوجيا الإسلامية الشيعية الإيرانية، مما أدى إلى زيادة التناغم بين طهران وأهم ذراع إقليمي تابع لها. بعبارة أخرى، لا يحتاج حزب الله إلى إدارة تفصيلية بقدر شركاء إيران في العراق، وعملياً، يساعد حزب الله إيران على التحكم بعملائها في سورية والعراق واليمن.

بعد مقتل سليماني، تغيرت قواعد اللعبة وطرق التواصل مع الولايات المتحدة، خلال السنة الماضية على الأقل، فردّت طهران على عملية الاغتيال قبل دفن سليماني عبر إطلاق صواريخ ضد قاعدة عين الأسد الجوية في العراق، لكن ذلك الرد كان رمزياً ومدروساً للحفاظ على ماء الوجه وتجنب تصعيد الوضع، لكنّ الحقيقة واضحة: وجّهت الولايات المتحدة ضربة موجعة لاستراتيجية إيران الإقليمية.

بالإضافة إلى قطع رأس «فيلق القدس» وعملائه العراقيين، بذلت الولايات المتحدة جهوداً دبلوماسية لإضعاف الطموحات الإيرانية أيضاً، فلا تملك طهران خيارات فاعلة للتصدي لحملة تطبيع العلاقات التي دعمتها واشنطن وجعلت بعض دول الخليج والسودان والمغرب توافق على عقد اتفاقيات سلام مع إسرائيل. تتعرض إيران التي تحاول التعافي من خسارة سليماني حتى الآن لضغوط شديدة كي تتصدى لاتفاقيات أبراهام التي تهدف بكل وضوح إلى إضعاف النفوذ الإيراني.

يطرح مقتل سليماني أسئلة كثيرة حول مكانة إيران في سورية التي تُعتبر الجزء الأكثر أهمية من استراتيجية طهران لكسب النفوذ الإقليمي، فحتى الآن، تحافظ إيران على وجودها الواسع في سورية رغم مقتل سليماني، وبما أن العمليات الإيرانية في سورية كانت تهدف إلى ضمان صمود نظام الأسد، لم يكن عمل سليماني يقتصر على التعامل مع الميليشيات مباشرةً، بل كان ينشط أيضاً عبر مجموعة من الضباط والقادة في الحرس الثوري الإيراني، فنسّق هؤلاء معه عملياتهم العسكرية والاستخبارية التي تشمل قوات إيرانية غير نظامية وقوات سورية نظامية وعدداً من الجنود الروس. لم يتطلب ذلك النظام ضغوطاً قوية من سليماني ومن المتوقع أن يصمد رغم استمرار الضربات الجوية الإسرائيلية لمنع الإيرانيين من ترسيخ مكانتهم في البلد.

حقبة ما بعد سليماني

منعت استراتيجية سليماني في سورية انهيار النظام عسكرياً، لكنها تعجز عن معالجة انهيار الاقتصاد السياسي الذي يفرض على النظام تقبّل جهود دبلوماسية إضافية، ولهذا السبب، تتعلق المسألة الأساسية الآن بمعرفة دور إيران في سورية وما ستفعله هناك للحفاظ على نفوذها الذي يحمل بُعداً عسكرياً بطبيعته، ففي غضون ذلك، من المتوقع أن تتعامل إدارة بايدن المقبلة مع الدور الإيراني في سورية (وفي المنطقة عموماً) بطريقة مختلفة عن سياسة «الضغوط القصوى» التي أطلقها ترامب، كذلك، ستكون مواقف الروس والأتراك مؤثرة لتحديد التطورات المرتقبة في سورية ولا مفر من أن ينعكس هذا الوضع على المصالح الإيرانية في المشرق العربي.

تَحقّق إنجاز إيراني واحد بعد مقتل سليماني، وهو يتمثل بالاتفاق المبرم بين النظام السوري وإيران لتوسيع التعاون العسكري والأمني بين الطرفين، حيث ينصّ ذلك الاتفاق على تلقي دمشق دفاعات جوية محلية الصنع من طهران، مما يسمح لإيران بالحفاظ على وجودها العسكري على المدى الطويل بطريقة مباشرة أو عبر جماعات وميليشيات موالية لها، فقد سبق أن حصل ذلك في حلب وحماة وشرق سورية، لكن من المتوقع أن تزداد الضغوط على إيران من إسرائيل والولايات المتحدة في ظل هذا الوضع.

تستعد إدارة الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن لاستئناف تواصلها مع إيران بشأن الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس دونالد ترامب، وقد ألمح مستشار الأمن القومي في فريق بايدن، جايك ساليفان، إلى احتمال أن تصبح برامج إيران الصاروخية محط نقاش. بغض النظر عن تفاصيل مختلف المسائل العالقة، سيضطر البيت الأبيض في عهد بايدن للعمل على كبح النفوذ الإيراني الإقليمي، فقد سبق أن أضعفت خطوات ترامب سطوة إيران ومن المنطقي أن تفتقد القيادة الإيرانية إلى سليماني في هذا المجال بالذات لأنه أدى دوراً حاسماً في إنشاء ظروف قتالية يستطيع الدبلوماسيون الإيرانيون الاستفادة منها على طاولة المفاوضات.

علي هاشم – مركز السياسة العالمية

مقتل سليماني خلّف فراغاً كبيراً يمنع نظام طهران من السيطرة على شبكة العلاقات التي تسمح لها بتوسيع بصمتها الجيوسياسية في العالم العربي

بغض النظر عن مختلف المسائل العالقة سيضطر البيت الأبيض في عهد بايدن إلى العمل على كبح النفوذ الإيراني الإقليمي
back to top