الإسلام والعلمانية الغربية

نشر في 08-11-2020
آخر تحديث 08-11-2020 | 00:07
 د. سناء الحمود العجلان من الضروري التنبيه إلى أن الاحترام والتقدير للفلسفة والفكر الإسلامي في الغرب بدأ بظهور العلوم الحديثة وانحسار التعصب الديني وبزوغ شمس العلمانية في الفلسفة والفكر الغربي في القرن التاسع عشر. قبل انتشار العقلانية والعلمانية التي سادت أوروبا في القرن السابع عشر وأوائل القرن التاسع عشر لم يكن الغرب يقيم أي وزن للفكر الإسلامي ولا يعترف إطلاقا بصحيح العقيدة الإسلامية، ولا ننسى أن نشير إلى أن فلسفة ابن رشد الإسلامية هي من بذور ومؤثرات النهضة الأوروبية.

لم يستفد الشرق من فلسفة ابن رشد ولا من انفتاح وعمق فكره، ومات الفيلسوف غريباً في وطنه متهماً بالكفر والزندقة، ولكن في أوروبا وبعد قرون من الصراع الديني والعرقي والثقافي فإن العداء تجاه النبي- صلى الله عليه وسلم- والشرق الإسلامي بدأت تخف حدته، وذلك بسبب ترجمة القرآن إلى اللغة الفرنسية ثم إلى اللغة الإنكليزية، والفرنسيون لهم الحظوة في هذه الخطوة العظيمة، وبدأ الفكر العقلاني النقدي يطفو على السطح، وهكذا بدأت أوروبا تقدم النبي محمد كمفكر حر ومؤسس لدين العقلانية، وقد تبلورت هذه النظرية الدافئة للإسلام في قصيدة للشاعر الألماني العظيم غوته Goethe حيث يظهر الرسول وأتباعه منتصرين على خصومهم، وذلك في ملحمته الرائعة Mohammed Gesang، ولدي الترجمة الأميركية الأولى للقرآن الكريم مترجما عن الفرنسية.

والآن يعود العداء والحرب الباردة دفاعاً عن شاب قطع رأس معلمه الفرنسي، لابد أن هذا الشاب مصاب بلوثة عقلية، وكان بإمكانه أن يقف ويعترض على عرض الصور المسيئة للرسول بدلا من أن يرتكب هذه الجريمة البشعة التي بالتأكيد سيدفع ثمنها المسلمون المقيمون في فرنسا، وستشتد مراقبتهم وسيعاملون بالشك، ماذا استفاد المسلمون من تهور هذا الشاب الشيشاني وهم يعيشون ويعملون بسلام في فرنسا؟

ملايين المسلمين في أوروبا سيدفعون ثمن هذه الجريمة، والأسوأ من ذلك أن بعض الدعاة يدعون إلى الجهاد ضد فرنسا، فهم يجلسون خلف منابرهم ويعيشون في رغد ويدعون الشباب إلى الجهاد ضد أوروبا الكافرة، ولكن المسلمين العاملين في فرنسا لايوافقون هؤلاء الدعاة، فقد صرح السيد محمد الموسوي رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بقوله "العلمانية ليست عائقاً بل ضامنة لحقوق المسلمين"، كما أنهم رفضوا مبادرة الأزهر للتدخل في هذا الموضوع، فهل الدعاة يعلمون مصلحة مسلمي فرنسا أكثر منهم؟ ولماذا يتدخلون في مصير هؤلاء المواطنين؟

رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية كان أكثر عقلانية من الدعاة وبعض العوام، وحث المسلمين داخل فرنسا وخارجها على تجاهل الرسوم المسيئة للرسول، مشدداً على أن نشر الرسوم الكاركاتيرية جزء من ثقافة فرنسا، ولا يستهدف الإسلام حصرا. (جريدة الجريدة العدد 4570 بتاريخ 2 نوفمبر 2020)، هذا الرجل يتفهم مجال الحرية التي تعيش فيها ليس في فرنسا فحسب ولكن كل أوروبا وأميركا ولم يعتد عليها العرب والمسلمون.

لابد للفكر الإنساني الذي هو من صنع الإنسان في الشرق والغرب، لابد له أن يتصالح مع نفسه بعد أن سئم الحقد والبغضاء وإثارة النعرة الدينية، ويشرح لنا الكاتب John Morely التغيير الذي حدث في الغرب في القرن التاسع عشر في مقالته الشهيرة بعنوان التسوية On compromise بقوله: إنها فترة امتلأت فيها القلوب بالرجال، وكذلك العقول كانت نشطة بالأفكار العقلانية والعقل الرجولي، وهناك عصور توصف بأنها باردة وأخرى عقلانية، إلا أن القرن التاسع عشر كان أكثر سعادة، لقد ظهرت حقائق جديدة واستقبلت في العقول الحرة، وهذه العقول تصنع الرجال.

لا شيء لدينا في الشرق الإسلامي الآن نصدره للغرب إلا الفتاوى والنفط، فنحن للأسف نفتقر إلى التفكير الحر والعقول الحرة، فنحن عبيد لغرائزنا الجنسية والفكرية، عبيد لفتاوى الدعاة، ونستورد من الغرب كل شيء إلا العقل، فنحن نحيناه جانباً وانشغلنا بالجدال الديني والطائفي ولسنا قادرين على التصالح حتى مع أنفسنا ومع مذاهبنا والحوار الديني، وحوار الأديان فشل في إظهار الحس الإنساني لدينا.

مع العلمانية عاش الأوروبيون بسلام مع بعضهم، وأعقل صوت ظهر في هذه الأزمة الدامية هو صوت محمد موسوي رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي نصح المسلمين في داخل فرنسا وخارجها بتجاهل الرسوم الكريكاتورية وكان أعقل من الدعاة لدينا.

وفي فترة من الزمن تمكن العرب من غزو فرنسا ثقافيا من خلال فلسفة ابن رشد، وترجمة القرآن لأول مرة الى الفرنسية التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر المعروف بالعصر الرومانسي، وظهرت كتابات ثقافية تصالحية مع الشرق الإسلامي اتسمت بالدفء والرقة والشفافية، ومنها قصيدة للشاعر الألماني غوتة في مجموعته الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، فترجمه من اللغة الإنكليزية:

من حماقة الإنسان في دنياه

أن يتعصب كل منا لما يراه

فإذا الإسلام معناها التسليم

فإننا أجمعين نحيا ونموت مسلمين

نتساءل: لماذا لا يظهر الآن في الشرق أو الغرب رجال أحرار يكتبون بانسيابية وشفافية وانفتاح ابن رشد وغوته!

يبدو أن التعصب للأديان قد قتل فينا الإنسان.

back to top