تراجع وضع أميركا الاقتصادي على المسرح الدولي

نشر في 04-09-2020
آخر تحديث 04-09-2020 | 00:00
البنك المركزي الأميركي
البنك المركزي الأميركي
التغطية الإعلامية اليومية الواسعة للتوترات العنصرية والحروب الثقافية يجب ألا تعرضنا للخوف من تداعيات التراجع في وضع أميركا، وإن براعة الولايات المتحدة الاقتصادية والتقنية والمالية ستستمر في نطاق آمن في المستقبل المنظور.
قيل الكثير في الآونة الأخيرة عن «هبوط» وضع الولايات المتحدة على المسرح الدولي، وواكب ذلك أيضاً الكثير من الروايات انحسار دورها الريادي لصالح الصين وتداعيات ذلك كله على النظام الدولي الذي ساعدت واشنطن على تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية، وغدت الأفكار حول نهاية أميركا الواسعة أشبه بمسألة حقيقية وبروز دعوات تشير الى أن «الولايات المتحدة قد انتهت».

ولعل المثير للدهشة هو المستوى من الثقة التي عبر عنها الكثير من الخبراء عن أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة على الرغم من بعد بكين عنها في القوى الاقتصادية والتقنية والمالية وهي الأعمدة الثلاثة الرئيسة للريادة في عالم اليوم، وصحيح أن العداء بين إدارة الرئيس ترامب وبين التجارة الحرة والمؤسسات الدولية والحلفاء التقليديين قد أحبط الكثير من الذين كانوا يشيدون بأهمية العولمة والتعاون الدولي، ودفعهم الى رسم صورة تمثل الولايات المتحدة على شكل قوة لم تعد مهتمة بالتمسك بالنظام الدولي (وهو مصدر هائل للإحباط لدى الكثير من حلفاء أميركا الأوروبيين والآسيويين الذين يعتمدون على ذلك النظام من أجل حماية سيادة دولهم).

ونحن نخطئ، على أي حال، في التركيز فقط على رسائل ترامب عبر «تويتر» وتصرفاته بدلاً من التطرق الى قوة العولمة وخاصة ضمن الميدان الاقتصادي، ثم إن التغطية الإعلامية اليومية الواسعة للتوترات العنصرية والحروب الثقافية يجب ألا تعرضنا للخوف من تداعيات التراجع في وضع أميركا، وأنا أعتقد أن براعة أميركا الاقتصادية والتقنية والمالية ستستمر في نطاق آمن في المستقبل المنظور.

أكبر من أن تسقط

وقد غاب عن تفكيرنا في خضم التطورات الجديدة ما تتمتع به الولايات المتحدة من ريادة في الحقل الاقتصادي وتفوقها على الصين في ذلك الميدان على الرغم من النمو السريع الذي حققته الصين طوال أربعة عقود، وقد بلغ إجمالي الإنتاج الأميركي في عام 2019 حوالي 21.4 تريليون دولار في حين بلغ إنتاج الصين 14.3 تريليون دولار فقط، وعلى صعيد دخل الفرد يزداد الفارق اتساعاً حيث يبلغ 65.280 دولاراً في أميركا و10.261 في الصين.

وتجدر الإشارة الى أن حصة الولايات المتحدة من الاقتصاد الدولي ظلت بشكل فعلي دون تغيير منذ عام 1980 عندما بلغت 25.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الدولي، كما أنه منذ نهاية شهر ديسمبر من عام 2018 هبطت حصة أميركا إلى 23.9 في المئة فقط، وخلال تلك الفترة هبطت حصة اليابان من الناتج المحلي الإجمالي الدولي من 9.7 في المئة إلى 5.8 في المئة في حين هبطت حصة الاتحاد الأوروبي من 34.6 في المئة الى 22 في المئة، ويشير ذلك الى صعود الصين كان على حساب حصص دول أخرى في الاقتصاد العالمي لا على حساب حصة الولايات المتحدة.

تباطؤ الاقتصاد الصيني

والأكثر من ذلك كله هو ما شهده الاقتصاد الصيني من تباطؤ بدأ منذ عام 2007 وبعد أن كان قد بلغ الذروة عند 14.2 في المئة قبل أن يهبط الى 6.6 في المئة في عام 2018، وكان ديريك سيزورز وهو خبير اقتصادي في معهد أميركان إنتربرايز كتب في العام الماضي يقول إن التباطؤ الاقتصادي الصيني السريع يصعّب لحاق بكين بالولايات المتحدة.

وفي حين يصر الحزب الشيوعي الصيني على أن الصين ستتعرض الى تباطؤ اقتصادي تدريجي تشير العوامل الداخلية الى حدوث وتيرة أسرع في ذلك المسار، كما أنه في أعقاب انتشار وباء كورونا المستجد حذر محللون من تبعات مضاعفة الحزب لاستراتيجية الاستثمار المباشر للدولة كما فعل في سياق استجابته للأزمة المالية العالمية في عام 2008.

وكما لاحظ الاقتصادي الهندي الراحل ديباك لال فإن الفترة التي أعقبت الزيادة الكبيرة في الإنفاق العام بعد عام 2008 أفضت الى هبوط أسعار المنتجات الصناعية بصورة ثابتة بعد عام 2011، ونسبت تلك الظاهرة بشكل جزئي الى التخمة في إنتاج الصناعات الصينية الرئيسة مثل الصلب والفحم والزجاج والألمنيوم والألواح الشمسية والأسمنت. وفيما قد يسهم ذلك في تحسين الإنتاج الأساسي في الصين (وبالتالي الناتج المحلي الإجمالي) فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يعمل ذلك الإنتاج على إضافة قيمة إلى الاقتصاد؟

وذلك التشديد على الاستثمارات الواسعة في البنية التحتية (التي تتم عن طريق مشاريع مملوكة للدولة الى حد كبير) سيفضي الى تأخير النمو في المستقبل، ثم إن التوسع في الاستثمارات الخاصة يجعل من الصعب بالنسبة الى الصين الانتقال من اقتصاد مدفوع بالاستثمار الى اقتصاد مدفوع بالاستهلاك وهو الهدف المعلن للحزب الشيوعي الصيني.

وتجدر الإشارة الى أن استهلاك العائلات على شكل نسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في الصين يظل متدنياً بصورة نسبية وقد بلغ 38.7 في المئة في عام 2018 - كما في الجزائر والغابون ويبعد كثيراً عن الولايات المتحدة عند 68.1 في المئة، وإضافة إلى ذلك فإن نقص المنافسة يعرقل أيضاً نمو الإنتاجية– وقد أظهرت معلومات رسمية أن مستوى الصين المستهدف من الإنتاج للعامل في عام 2019 كان 22 في المئة فقط من مستوى أميركا.

نقص مستويات الابتكار

ويظل نمو الإنتاجية المحرك للرأسمالية وهو في أغلب الأحيان العامل الذي لا يكون مدفوعاً بالتطور التقني، وفي حين تم التعامل مع الكثير مما يدعى «حرب التقنية» بين واشنطن والصين تظل الولايات المتحدة الى حد كبير في مقدمة الابتكارات التقنية، كما أن نسخة عام 2019 من مؤشر الابتكارات العالمية صنفت الولايات المتحدة في المركز الثالث على صعيد العالم، وصنفت الصين في المركز الـ14.

في غضون ذلك لاحظ تقرير شهر فبراير الماضي الذي صدر عن مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية أنه في حين أصبحت الصين أكثر ابتكاراً منذ عام 2017 فهي لا تزال تعاني تدني كفاءة الابتكار، وهو ما يعني أن كمية الموارد الكبيرة التي تضعها في عمليات الابتكار لاتزال تنتج كمية أقل من الإنتاج.

وحذر التقرير من أن بعض المقاييس التي استخدمت من أجل إظهار كفاءة الابتكارات الصينية قد تكون مضللة، وعلى سبيل المثال فإن الصين وعلى الرغم من أنها أكبر دولة في براءات الاختراع في العالم فإن نحو ثلثي البراءات التي تصدر كل عام تميل لأن تكون براءات منقولة بحسب تحديد منظمة الملكية الفكرية الدولية التي ترى أن ثلث براءات الاختراع الصينية يمكن اعتباره «ابتكاراً عالي الجودة».

وفي القطاعات الرئيسة مثل صنـــاعــــــة شـــبــــــــــــــــه الموصـــــــلات لا تزال المعدات الصينية تعتمد بشدة على المكونات والتقنية الأميركية وذلك بحسب معلومات من جوناثان كيرتس من مؤسسة فرانكلين تمبلتون للاستثمارات، وهو وضع لن يكون من السهل تغييره في وقت قريب، وفي الميادين الأخرى مثل منصات التجارة الإلكترونية والسيارات الكهربائية الجديدة حققت الصين درجة أكبر من النجاح.

وتجدر الإشارة إلى أنه من دون تحقيق دفعة في الإنتاجية يتعين على الصين الاعتماد على حصتها السوقية فقط، وتشير الأوضاع الديمغرافية الراهنة، على أي حال، الى وجود مشكلة بالنسبة الى الصين، وتصور تقرير لقسم السكان التابع للأمم المتحدة هبوط عدد المواطنين الصينيين في سن العمل (15– 64 عاماً) بحوالي 42.8 في المئة بين الوقت الراهن وعام 2100، في حين سيرتفع عدد الأميركيين في سن العمل بنسبة تقارب 14.2 في المئة.

القوة الشرائية

يمكن للمراقبين القول إن الولايات المتحدة لا تزال تتصدر شريحة الإنتاج الاقتصادي، ولكن إذا عدلنا مستويات الناتج المحلي الإجمالي مقابل القوة الشرائية يتبين لنا أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة، وفي حقيقة الأمر، يرى سيزرز أن مقارنة الولايات المتحدة مع الصين عبر مستوى القوة الشرائية قد تكون مضللة.

ويلاحظ سيزرز أن تطبيق مستوى القوة الشرائية يكون منطقياً عندما ينسحب ذلك على أسعار مواد متماثلة يتباين سعرها عبر الحدود، ولكن ذلك يطرح مشكلة أيضاً لأن الأسعار تختلف في أغلب الأحيان داخل الحدود، ومن غير الشائع بصورة عامة أن تظل الأسعار ثابتة بين المناطق الحضرية المأهولة وبين المدن الريفية الصغيرة، ثم إن مقياس القوة الشرائية يتطلب وجود أسواق مفتوحة تفضي في نهاية المطاف الى تغير أسعار المواد المتماثلة، وعلى أي حال، لا ينسحب ذلك في أغلب الأحيان عندما يتعلق الأمر بالتجارة في بضائع وخدمات وخاصة في دول مثل الصين تفرض قيوداً على حركة رأس المال.

استمرار تفوق الدولار

ويظل الدولار عملة التسويات المختارة بالنسبة الى أكثرية الدفعات الدولية وتظهر بيانات شبكة الخدمة المالية «سويفت» أن الدولار استخدم في 45.78 في المئة من الدفعات الدولية خلال شهر مايو الماضي وحده فيما تم استخدام العملة الصينية (الرينمينبي) في 1.22 في المئة من الحالات فقط.

وتظل البنية التحتية المالية الأميركية قوية حتى في أسوأ الأوقات، وفي فترات الشك الكبير في الاقتصاد الدولي يستمر هروب المستثمرين الى سندات الخزانة الأميركية وليس الى السندات الصينية، كما أن وول ستريت يظل مركز العالم للتداول المالي ويساوي مركز تبادل الأسهم في نيويورك وحده 23.12 تريليون دولار في رسملة السوق بحسب أرقام شهر مارس 2018، أي نحو 40 في المئة من كل قيمة سوق الأسهم الدولي.

وبالمقارنة وصلت قيمة سوق شنغهاي وهو الرابع على مستوى العالم الى 5.01 تريليونات دولار فقط، وقد صنفت النسخة الـ27 من مؤشر المراكز المالية العالمية مدينة نيويورك في المركز الأول مع تقدم بـ29 نقطة على شنغهاي التي احتلت المركز الرابع، كما تم تصنيف نيويورك في المركز الأول أيضاً في مقاييس التنافسية الخمسة في مؤشر المراكز المالية العالمية.

*عمران سعيد

إجمالي الإنتاج الأميركي بلغ في 2019 نحو 21.4 تريليون دولار في حين لم يتجاوز إنتاج الصين 14.3 تريليون دولار

بينما يصر الحزب الشيوعي الصيني على أن بلاده ستتعرض لتباطؤ اقتصادي تدريجي تشير العوامل الداخلية الى حدوثه بوتيرة أسرع
back to top