دونالد ترامب واستراتيجية تحويل الأنظار عن المشاكل الحقيقية!

الرئيس الأميركي يبحث عن عدو داخلي خطير لمحاربته

نشر في 23-07-2020
آخر تحديث 23-07-2020 | 00:03
هل يرسل دونالد ترامب عناصر أمن فدراليين إلى نيويورك ومعاقل ديمقراطية أخرى تشهد تظاهرات وموجة جرائم؟ تدور مواجهة حول هذا الموضوع ولا سيما في مسقط رأس الرئيس الجمهوري الذي جعل من عودة «النظام» أحد شعاراته للانتخابات الرئاسية. في هذا المقال يشبه الكاتب الصحافي الأميركي توماس فريدمان ترامب بالرئيس السوري بشار الأسد، ويتهمه بمحاولة إثارة حرب داخلية وفي الوقت نفسه يدعو اليسار إلى التصرف بذكاء وعدم اطلاق الشعارات المؤذية مثل «وقف تمويل الشرطة».
يحاول الرؤساء أحياناً تحويل الأنظار عن المسائل المحورية حين يواجهون المشاكل قبل أي انتخابات عبر إطلاق حرب في الخارج. لكن يبدو دونالد ترامب مستعداً لتطبيق هذه المقاربة عبر شن حرب داخلية. على الجميع أن يتوخى الحذر لأنه قد يحقق ما يتمناه!

كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ حين يلخّص المؤرخون المقاربة التي يتبناها فريق ترامب للتعامل مع فيروس كورونا، يمكنهم أن يكتفوا بالمقاطع التالية:

هم يتكلمون وكأنهم التزموا بتدابير الإقفال التام بقدر الصين. هم يتصرفون وكأنهم يحاولون نشر المناعة الجماعية مثل السويد. لكنهم لم يستعدوا لأيٍّ من هذين الخيارَين. هم يدّعون أنهم يتفوقون على هذين البلدَين معاً. لكنهم حققوا في نهاية المطاف أسوأ نتيجة في العالم، فخرج الفيروس عن السيطرة وبلغت البطالة نسبة كارثية.

ثم اتخذت الأحداث منحىً قاتماً بمعنى الكلمة.

في ظل انتشار الفيروس واضطرار الشركات لإقفال أبوابها مجدداً وحصول شلل تام في المدارس والجامعات التي تتردد حتى الآن في فتح أبوابها أو متابعة إقفالها في فصل الخريف، انهارت نِسَب تأييد ترامب بدرجة فائقة. تفوّق عليه جو بايدن بمعدل وصل إلى 15 نقطة في أحد الاستطلاعات الوطنية.

وفي محاولة يائسة لإنقاذ حملته، لجأ ترامب إلى الدليل الرسمي للحكام الدكتاتوريين في الشرق الأوسط ووجد ما كان يبحث عنه في فصلٍ بعنوان «ما العمل حين ينقلب شعبك ضدك؟».

الجواب هو التالي: «اقلبهم ضد بعضهم ثم اطرح نفسك بصفتك المصدر الوحيد للقانون والنظام».

بشار الأسد

لا تشبه الولايات المتحدة سورية لحسن الحظ، لكنّ ترامب تبنّى المقاربة العامة التي استعملها بشار الأسد عام 2011، حين اندلعت احتجاجات سلمية في بلدة درعا السورية الجنوبية، ودعت إلى تطبيق إصلاحات ديمقراطية، قبل أن تنتشر الاحتجاجات لاحقا في جميع أنحاء البلد.

لو ردّ الأسد على تلك الأحداث عبر اقتراح أبسط شكل من السياسات المبنية على المشاركة، كان ليُعتبر منقذ البلد بنظر معظم السوريين، فقد كانت هتافات «سلمية، سلمية!» من أبرز الشعارات التي رفعها الناس خلال التظاهرات حينها.

لكن لم يرغب الأسد في تقاسم السلطة مع أحد، لذا حرص على ألا تبقى الاحتجاجات سلمية. فطلب من جنوده أن يطلقوا النار على المتظاهرين السلميين ويعتقلوهم، وكان عدد كبير منهم من المسلمين السُّنة. مع مرور الوقت، تم تهميش العناصر السلمية والعلمانية من حركة الديمقراطية السورية، وبدأ الإسلاميون المتشددون في الوقت نفسه يقودون المعركة ضد الأسد. في خضم هذه الأحداث، تحوّلت الانتفاضة إلى حرب أهلية طائفية بين القوى الشيعية العلوية التابعة للأسد وجماعات جهادية سُنّية متنوعة.

هكذا حصل ما تمنّاه الأسد: هو لم يرغب في اندلاع حرب بين حكمه الدكتاتوري وشعبه الذي يطالب سلمياً بإسماع صوته، بل أراد خوض حرب مع المتطرفين الإسلاميين كي يتمكن من أداء دور الرئيس الذي يحافظ على القانون والنظام بدعمٍ من روسيا وإيران. في النهاية، تدمّر بلده وقُتِل مئات آلاف السوريين أو أُجبروا على الهرب. لكنّ الأسد بقي في السلطة. اليوم، أصبح رئيس بلدٍ تحوّل إلى كومة من الأنقاض.

في الولايات المتحدة، لا يمكن التساهل مع المحتجين الأميركيين حين يقررون اللجوء إلى العنف في أي مدينة أميركية لأن هذه الأعمال تدمّر المنازل والشركات التي تأثرت أصلاً بفيروس كورونا (تملك الأقليات عددا كبيرا منها)، ولأن العنف سيجعل الأغلبية اللازمة لإحداث التغيير تنفر من التحركات الشعبية.

لكن عند سماع اقتراح ترامب، في المكتب البيضاوي الاثنين الماضي، عن استعداده لإرسال قوات فدرالية إلى المدن الأميركية، دون أن يوجّه له رؤساء البلدية هناك أي دعوة، لا مفر من التفكير سريعاً بما حصل في سورية.

الديمقراطيون ليبراليون جداً

أعلن ترامب هذا القرار بالكلمات التالية: «قررتُ القيام بأمر معيّن وأستطيع الإفصاح عنه أمامكم. لن نتخلى عن نيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا وديترويت وبالتيمور وجميع هذه المدن... لكن تعمّ الفوضى في أوكلاند. لن نسمح بحصول ذلك في بلدنا».

وشدد ترامب على خضوع هذه المدن كلها لحكم «ديمقراطيين ليبراليين جداً. هي تخضع فعلياً لسيطرة اليسار المتطرف. وإذا فاز بايدن في الانتخابات فسيتعمم هذا الوضع على البلد كله. لكننا لن نسمح بذهاب البلد إلى الجحيم».

هذا القرار يشتق بكل وضوح من الدليل الرسمي للحاكم الدكتاتوري في الشرق الأوسط، وهو وضع مرعب. في سورية، استعمل الأسد عصابات موالية للنظام بملابس مدنية تُعرَف باسم «الشبيحة» لتفريق المحتجين. وفي بورتلاند، أكبر مدينة في أوريغون، شاهدنا قوات فدرالية ترتدي زيا عسكريا، لكن من دون العلامات التي تثبت أنها قوى نظامية، فاعتقلت الناس ووضعتهم في شاحنات انتماؤها غير معروف. كيف يحصل ذلك في الولايات المتحدة؟

برأي لاري دايموند من جامعة ستانفورد، وهو مؤلف كتابIll Winds: Saving Democracy From Russian Rage, Chinese Ambition, and American Complacency (رياح سيئة: إنقاذ الديمقراطية من الغضب الروسي والطموح الصيني والاستعلاء الأميركي)، من المعروف أن الحكام الاستبداديين الشعبويين، على غرار رجب طيب اردوغان في تركيا، وجايير بولسونارو في البرازيل، ورودريغو دوتيرتي في الفلبين، وفلاديمير بوتين في روسيا، وفيكتور أوربان في المجر، وياروسلاف كاتشينسكي في بولندا، والأسد في سورية، «يفوزون دوماً عبر تقسيم الشعب وإظهار أنفسهم بصورة منقذي المواطنين الصالحين العاديين ضد عملاء التخريب والتلوث الثقافي».

مسؤولية اليسار

أمام هذا النوع من التهديدات، يجب أن يتصرف معسكر اليسار بذكاء، ما يعني ألا يطالب بوقف تمويل الشرطة ثم اعتبار «وقف التمويل» غير مرادف لتفكيك الشرطة. إذا كان المفهومان مختلفَين، يجب أن يعلن اليساريون بكل وضوح أنهم يؤيدون «إصلاح» الشرطة. أما المطالب بوقف تمويلها ونعت الضباط بـ«الخنازير» ونشر الحواجز في أحياء كاملة، فتحمل رسائل مريعة وتطرح استراتيجيات يسهل أن يستغلها ترامب.

وصف المراسل مايك بايكر من صحيفة نيويورك تايمز مشهداً سيئاً في «بورتلاند» في ساعات الصباح الأولى من يوم الثلاثاء، في اليوم الرابع والخمسين على بدء الاحتجاجات هناك، فكتب: «يشعر القادة في أوساط السود بالامتنان من انتشار الوعي في المسائل العرقية، لكنهم يخشون إهدار هذه المرحلة التي تدعو إلى العدالة العرقية بسبب أعمال العنف. عبّرت الشركات التي كانت تدعم الإصلاحات عن إحباطها بسبب الفوضى التي نشرتها الاحتجاجات... في صباح يوم الثلاثاء، أعلنت الشرطة سرقة متجر مجوهرات آخر. وحين حاول عملاء فدراليون القبض على شخص واحد، سارع آخرون من بين حشود المحتجين لإطلاق سراحه».

القضاء والأقليات

على صعيد آخر، كشف استطلاع جديد مشترك بين «واشنطن بوست» و«إي بي سي نيوز» أن «معظم الأميركيين يؤيدون حركة حياة السود مهمة، واعتبرت نسبة قياسية منهم (69%) أن نظام العدالة الجنائية لا يعامل السود وأقليات أخرى مثلما يعامل أصحاب البشرة البيضاء. لكن يعارض الرأي العام الدعوات إلى نقل جزء من تمويل الشرطة إلى الخدمات الاجتماعية أو إزالة تماثيل الجنرالات الكونفدراليين أو الرؤساء الذين استعبدوا الناس».

تكشف أعمال العنف في الشوارع والدعوات إلى وقف تمويل الشرطة صحة الإعلان الفاعل الوحيد الذي قدّمه ترامب على التلفزيون. في هذا الإعلان، يرنّ الهاتف ويقول تسجيل صوتي: «لقد وصلتَ إلى رقم الطوارئ 911. لكن بسبب وقف تمويل سلك الشرطة، نأسف لعدم وجود أحد هنا لتلقي مكالمتك. إذا كنت تتصل للإبلاغ عن حادثة اغتصاب، اضغط على الرقم 1. وللإبلاغ عن جريمة قتل، اضغط على الرقم 2. وللإبلاغ عن اقتحام منزل، اضغط على الرقم 3. وللإبلاغ عن جميع الجرائم الأخرى، اترك اسمك ورقم هاتفك وسيعاود أحد الاتصال بك. تصل مدة الانتظار التقديرية في الوقت الراهن إلى خمسة أيام. إلى اللقاء».

يحتاج المحتجون اليوم إلى التحايل على ترامب عبر الاستفادة من تجربة زعيم خارجي آخر: إنه الليبرالي أكرم إمام أوغلو الذي فاز في انتخابات عام 2019 وأصبح رئيس بلدية اسطنبول، مع أن اردوغان غير الليبرالي استعمل جميع الحِيَل القذرة الممكنة لسرقة الانتخابات. حملت استراتيجية إمام أوغلو خلال حملته الانتخابية اسم «الحب المتطرف».

الحب المتطرف

كان الحب المتطرف يعني التواصل مع مناصري اردوغان الأكثر تديّناً وتقليدية والإصغاء إليهم واحترامهم والتأكيد على أنهم ليسوا «أعداء»، بل إن اردوغان هو العدو لأنه يعارض الوحدة والاحترام المتبادل، ولا يمكن إحراز أي تقدم دون هذه الصفات.

ذكرت مقالة جديدة في «مجلة الديمقراطية» أن إمام أوغلو تفوّق على اردوغان بفضل «دعوته إلى توحيد الصفوف واحترام مناصري اردوغان والتركيز على المسائل اليومية التي تهمّ الناس، وقد تُوحّد الناخبين من مختلف المعسكرات السياسية. في 23 يونيو، انتُخِب إمام أوغلو مجدداً كرئيس لبلدية اسطنبول، لكنه حصد هذه المرة أكثر من 54% من الأصوات، وهي أعلى نسبة يحققها رئيس بلدية هذه المدينة منذ عام 1984، مقابل 45% لخصمه».

الحب المتطرف إذن! قد تنجح هذه المقاربة في الولايات المتحدة أيضاً. إنه الرد المثالي على سياسات ترامب المبنية على بث الانقسامات، وهي الاستراتيجية الوحيدة التي يعجز عن تقليدها!

*توماس ل. فريدمان

back to top