الاستثنائية الأميركية في عهد ترامب

نشر في 09-06-2020
آخر تحديث 09-06-2020 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت في كتابي الأخير حول أربعة عشر رئيسا منذ عام 1945 بعنوان «هل الأخلاق مسألة مهمة»، وجدتُ أن الأميركيين يريدون سياسة خارجية أخلاقية، لكنهم لم يتمكنوا من تحديد ما يعنيه ذلك، غالبا ما ينظر الأميركيون إلى بلدهم باعتباره بلدا استثنائيا لأننا لا نحدد هويتنا عن طريق العرق، بل بالأفكار المُتعلقة برؤية ليبرالية لمجتمع مُعين وأسلوب حياة يقوم على الحرية السياسية والاقتصادية والثقافية. في الواقع، لقد ابتعدت إدارة الرئيس دونالد ترامب عن هذا التقليد.

وبطبيعة الحال، واجهت الاستثنائية الأميركية تناقضات منذ ظهورها، فعلى الرغم من الخطاب الليبرالي الذي يستخدمه المؤسسون، فإن الاعتراف بالخطيئة الأصلية المتمثلة في العبودية كانت مندرجة في دستور الولايات المتحدة في إطار تسوية سمحت بتوحيد الولايات الشمالية والجنوبية.

لقد اختلف الأميركيون دوما حول كيفية التعبير عن القيم الليبرالية في السياسة الخارجية، كانت الاستثنائية الأميركية في بعض الأحيان مجرد حُجة لتجاهل القانون الدولي، وغزو بلدان أخرى، وفرض حكومات على شعوبها.

وبالمثل، فقد ألهمت النزعة الاستثنائية الأميركية الجهود الدولية الليبرالية من أجل عالم أكثر حرية وسلام من خلال نظام القانون الدولي والمنظمات الدولية التي تحمي الحرية المحلية عن طريق تخفيف التهديدات الخارجية، فتجاهل ترامب كلا جانبي هذا التقليد.

صرح ترامب في خطاب أثناء مراسم تنصيبه قائلا: «من اليوم فصاعدا ستكون أميركا أولا... سنسعى إلى صداقات وحسن نوايا مع دول العالم، ولكننا سنفعل ذلك على أساس إدراك أن من حق كل دولة أن تضع مصالحها الخاصة أولا». وقال أيضا: «نحن لا نسعى إلى فرض طريقة حياتنا على أحد، ولكننا بدلا من ذلك نسعى إلى جعلها تُشرق كمثال يحتذي به الجميع». كانت لديه وجهة نظر منطقية: عندما تُقدم الولايات المتحدة مثالا جيدا، يمكنها زيادة قدرتها في التأثير على الآخرين.

هناك أيضا تقاليد التدخل والغزو في السياسة الخارجية الأميركية، فقد سعى وودرو ويلسون إلى اعتماد سياسة خارجية من شأنها أن تجعل العالم آمنا للديمقراطية، وقد دعا جون كينيدي الأميركيين إلى جعل العالم مكانا أكثر أمانا بالتنوع، لكنه أرسل 1600 جندي أميركي إلى فيتنام، وارتفع هذا العدد إلى 565.000 جندي في عهد خليفته ليندون بينز جونسون، وبالمثل، برر جورج دبليو بوش غزو أميركا واحتلالها للعراق باستراتيجية أمنية قومية لتعزيز الحرية والديمقراطية.

في الواقع، منذ نهاية الحرب الباردة، شاركت الولايات المتحدة في سبع حروب وتدخلات عسكرية، ومع ذلك، كما قال رونالد ريغان في عام 1982، «الأنظمة التي تم وضعها باستخدام السلاح لا يمكن أن تترسخ».

كان تجنب صراعات مُماثلة أحد سياسات ترامب الأكثر شيوعا، لقد عمل على الحد من استخدام القوة الأميركية في سورية وأعرب عن رغبته في سحب القوات الأميركية من أفغانستان بحلول موعد الانتخابات.

نظرا إلى موقعها بين المحيط الهادئ من الجهة الغربيّة والمحيط الأطلسي من الجهة الشّرقية، ولكونها مُحاطة بجيران أضعف، ركزت الولايات المتحدة إلى حد كبير على التوسع غربا في القرن التاسع عشر، وحاولت تجنب التورط في توازن القوى العالمي الذي كان متمركزا في أوروبا، ومع بداية القرن العشرين، أصبحت أميركا أكبر اقتصاد في العالم، وساهم تدخلها في الحرب العالمية الأولى في قلب ميزان القوى.

في ثلاثينيات القرن العشرين، اعتقد الأميركيون أن التدخل في أوروبا كان خطأ فادحا وبعدها تحول الاهتمام إلى الداخل نحو الانعزالية التامة، ومع الحرب العالمية الثانية، تمكن الرئيس فرانكلين روزفلت وخليفته هاري إس. ترومان وغيرهم من استيعاب الدرس الذي مفاده أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل الانغلاق مرة أخرى، لقد أدركوا أن حجم أميركا نفسه أصبح مصدرا ثانيا للنزعة الاستثنائية، وإذا فشلت الدولة التي تحظى بأكبر اقتصاد في العالم في قيادة إنتاج المنافع العامة العالمية، فلن يتمكن أي بلد آخر من القيام بذلك.

أنشأ رؤساء ما بعد الحرب نظاما للتحالفات الأمنية والمؤسسات المتعددة الأطراف والسياسات الاقتصادية المفتوحة نسبيا، واليوم، أصبح هذا «النظام الدولي الليبرالي»- النظام الأساسي لسياسة الولايات المتحدة الخارجية منذ 70 عاما- موضع تساؤل بسبب صعود قوى جديدة مثل الصين وظهور موجة جديدة من الشعبوية داخل الديمقراطيات.

نجح ترامب في استغلال هذا الوضع في عام 2016 عندما أصبح أول مرشح رئاسي لحزب سياسي رئيسي يشكك في النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بعد عام 1945، وقد حدد ازدراءه لتحالفاته ومؤسساته مستقبله الرئاسي، ومع ذلك أظهر استطلاع أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية مؤخرا أن أكثر من ثلثي الأميركيين يريدون سياسة خارجية مُوجهة نحو الخارج.

يميل الرأي العام الأميركي إلى تجنب التدخلات العسكرية، ولكن ليس الانسحاب من التحالفات أو التعاون المتعدد الأطراف، فلن يعود الشعب الأميركي إلى انعزالية الثلاثينيات.

السؤال الحاسم الذي يواجهه الأميركيون هو، ما إذا كان بوسع الولايات المتحدة النجاح في معالجة كلا جانبي سياستها التي تقوم على الاستثنائية: تعزيز الديمقراطية بدون أسلحة ودعم المؤسسات الدولية؟ فهل يمكننا تعلم كيفية تعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان دون تدخل عسكري وحروب صليبية، وفي الوقت نفسه المساعدة في تنظيم القواعد والمؤسسات اللازمة لعالم جديد من التهديدات عبر الوطنية مثل تغير المناخ والأوبئة والهجمات الالكترونية والإرهاب وعدم الاستقرار الاقتصادي؟

في الأزمة الحالية، فشلت الولايات المتحدة على الجبهتين، فبدلا من تولي قيادة تعزيز التعاون الدولي في مكافحة وباء «كوفيد- 19»، تلوم إدارة ترامب الصين على انتشار هذا الوباء وتُهدد بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية.

هناك الكثير من الأسئلة التي يتعين على الصين الإجابة عنها، ولكن تحويلها إلى كرة قدم سياسية في الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية هذا العام هي سياسة داخلية لا خارجية. نحن لم ننته بعد من هذا الوباء، ولن يكون الفيروس التاجي الأخير.

علاوة على ذلك، تُنتج الصين والولايات المتحدة 40% من الغازات الدفيئة التي تُهدد مستقبل البشرية، ومع ذلك لا يمكن لأي من البلدين مواجهة هذه التهديدات الجديدة للأمن القومي بمفردهما، وبصفتهما أكبر اقتصادين في العالم، يجب أن تحظى الولايات المتحدة والصين بعلاقة وثيقة تجمع بين المنافسة والتعاون، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تشمل السياسة الاستثنائية الآن العمل مع الصينيين للمساعدة في إنتاج المنافع العامة العالمية، مع الدفاع أيضا عن قيم مثل حقوق الإنسان.

هذه هي القضايا الأخلاقية التي يجب على الأميركيين مناقشتها قبل الانتخابات الرئاسية هذا العام.

* جوزيف س. ناي أستاذ بجامعة هارفارد ومؤلف كتب حديثة منها «هل الأخلاق مهمة»، و«الرؤساء والسياسة الخارجية من روزفلت إلى ترامب».

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»

الاستثنائية الأميركية كانت في بعض الأحيان مجرد حُجة لتجاهل القانون الدولي وغزو بلدان أخرى وفرض حكومات على شعوبها
back to top