أوادم ... «رانقول»

نشر في 07-06-2020
آخر تحديث 07-06-2020 | 00:03
 د. سلطان ماجد السالم عن نفسي، فأنا قليل بضاعة فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي، فكنت أسمع ﺇلى قرابة شهرين مضيا بكلمات غريبة عليّ، لم أتعود سماعها قط، مثل «تغريدة» «لايف» «بوست»... إلخ، لكني لا أنكر أن أزمة كورونا التي نمر بها، والرغبة في معرفة ما يدور من أخبار الشارع المحلي، جعلتاني أدخل هذا العالم مؤخراﹰ. نعم بدأت تنهال عليّ الأخبار بصورة لحظية وفورية، فبكل ضغطة زر يصبح العالم لا الشارع المحلي فحسب، بين يديك.

المشكلة تكمن في أصوات النشاز التي تطنطن مع الأخبار والمعلومات العامة، وآخر تطورات العلوم والتكنولوجيا، تلكم الوسائل كشفت عن خلجات الأنفس والألباب، وصدقوني ليست كلها تستحق أن تحمل التلفون الذكي أصلاﹰ! ولعل أكثر ما أساءني في الفترة الماضية، وبالذات في آخر ستة أسابيع، هو التراشق بالألفاظ النابية والتصرفات غير المحمودة ما بين أبناء الوطن العربي الواحد.

لم ألاحظ تلك التصرفات على مستوى دولة أو اثنتين، بل على نطاق واسع أكاد أصفه بـ»الأممي»، وهذا والله لمحزن، محزن جداﹰ أن يكون بين أبناء الجلدة الواحدة، فقد أصبح هذا التراشق مهنة من لا مهنة له، وموضوع تعلكه الألسن على مدار الساعة، كما أني التمست الطبقية والعنصرية في لهجة بعض الشعوب تجاه الأخرى، هذا مرفوض، ولا للعنصرية، ونعم وألف نعم للتعددية، ودائماﹰ وأبداﹰ المجد للعمال والكادحين.

لن أتكلم عمن يسيء إلى نفسه بالسباب والشتائم، ولا أحتاج أن أدافع عن وطني الكويت العريق ذي التاريخ العربي المشرف والأيادي البيضاء على مر الأزمان، فوالله لم أسمع بكلمة مشينة في حقه ﺇلا وقد كانت كذبة ملفقة، كذبها صاحبها ومن ثم صدقها هو ومن حوله، وأنا متأكد وكلي ثقة بأن القانون سيأخذ مجراه على مستوى الأفراد المسيئين لأنفسهم قبل أن يسيئوا إلى رموز دولة الكويت وشعبها العظيم، عاجلاﹰ كان أم آجلاﹰ، لكننا بحاجة أن نستدرك سوية موضوعا مهماً ومهماً جداﹰ، نعم للتعددية، لكن التعددية الفنية التقنية المدروسة التي تمثل لبنة أساسية في نهوض المجتمعات، ولا للعنصرية ولا الشتيمة، لكن، نعم وألف نعم لسياسة التكويت وتعديل التركيبة السكانية، التي تمثل حقا مشروعا لأي مجتمع كان.

فمن غير المنطق أن يكون أكثر من ثلثي البلد عمالة وافدة تشكل قرابة الـ70 في المئة من تعدادها بحسب آخر الإحصاءات الرسمية للدولة، والذي فاق أربعة ملايين نسمة، متزايداﹰ بشكل ألفي كل عام، فكم مهندسا بينهم يستطيع الكويتي أن يحل مكانه؟ وكم خبيراً بينهم، يستطيع أن يأخذ المواطن مكانه؟ أتفهم ﺇذا ما كان أولئك الوافدون من الخبرات العالمية التي تستطيع أن تطعّم نسيج العمالة الوطنية بالخبرة والتدريب والاختراعات والعنصر الفني، أتفهم إذا ما كان من بينهم كبير مهندسين أو طبيب جراح على مستوى العالم، يستطيع أن يدعم صفوف الكوادر الوطنية.

في الواقع، هذا أقل ما يمكن أن يكون في أي من البلدان، ولنا في المجتمع الياباني خير مثال، حيث تشكل العمالة الأجنبية نسبة 2% من ﺇجمالي سوق العمل، وبتعداد يصل الى 1.66 مليون من الأفراد المساهمين بشكل مباشر في ﺇحياء سوق العمل، كما يشكل النموذج الألماني مثالا آخر على التعددية السليمة والعمالة الفنية التي تسد نواقص سوق العمل (التركيز هنا على كلمة نواقص، لا عمالة زائدة أو هامشية).

فقد أفصح ﺇحصاء 2016 لألمانيا بأنها تنعم بعشرة ملايين من العمالة الأجنبية التي تشكل 23% من تعداد سكانها، لن أتكلم عن المصانع، ودور الحرف، والأسواق، والجامعات والعمران المتطور في كلا النموذجين، والحاجة ﺇلى تطعيم السوق بأشكال مختلفة من العمالة، لكني سأركز على الحقيقة التي لا يغفلها أي مواطن كويتي خصوصا هذه الأيام، وهي أن العمالة في تلك البلدان فاعلة، عاملة، فنية، تخصصية، وفوق هذا كله تشكل نسبة لا تصل حتى ﺇلى الربع من التعداد العام للسكان.

المحافظة على تركبية سكانية سليمة ومبنية على منهج سليم من ضمن منظومة أممية لحفظ حقوق العمالة والإنسان بعيشة كريمة، من شأنها أن تحافظ على الأمن وسلاسة تطبيق القوانين في الدولة، كما أنها ستخفض الضغط على البنية التحتية والمحافظة على المرافق العامة والخدمات ﺇلى أمد وعمر افتراضي أطول.

موضوع التركيبة السكانية لمن يجهل الأمر موضوع قديم جديد، لا أذكر على المستوى الشخصي ﺇلا وأتى مجلس أمة فيه عدد من النواب يصدحون بأعالي الصوت بشأن هذا الأمر، ولتوفير الوقت عليك عزيزي القارئ فإن كل الآليات التي اتبعت لتعديلها فشلت على حد علمي (أو بمعنى آخر، أجهضت لمصلحة ما) إذا ما أتينا على مستوى المتسببين والأسباب الحقيقة لهذه المشكلة، فمن الناحية الأخلاقية (وبالمناسبة القانونية أيضاﹰ) تنحسر ﺇلى حد كبير في سمسار (دلال) للاتجار بأولئك البشر والعمالة الهامشية التي شاركت في الجريمة من حيث المبدأ في قبول عرض عمل والقدوم ﺇلى بلد دون عقد أو وظيفة أو مسمى وظيفي رسمي، ومن الجهة الأخرى تاجر ﺇقامة أعطى لنفسه الحق في التلاعب بمستقبل ومصير أفراد وأسر، حلمهم الوحيد هو توفير حياة كريمة لأنفسهم ولمن حولهم، وحلمه الوحيد أن يلبس «البشت والشد».

التاجر هذا لم يتلاعب بالتركيبة السكانية فحسب، وكدّس عمالة رأيتها بأم عيني في عمارات منطقة شرق أثناء الحظر الجزئي، بل عن طريق شركات «رانقول» تتحايل على القانون وتخون البلد، ومن يجهل معنى تلك الكلمة، فهي مفردة كويتية تستخدم للدلالة على الشيء غير الحقيقي (الفالصو) وهي مشتقة من المفردتين الانكليزيتين Wrong Gold التي تحورت من آبائنا وأجدادنا عبر الزمن ﺇلى كلمة «رانقول» للاستدلال على الشيء (والأغلب المجوهرات والحلي) المغشوش، إثر كثرة احتكاك الأولين مع الانكليز واستخدام مثل هذه المفردات في أسواق الهند.

التكويت له أصول ونظم وقواعد كذلك، فمن جهة إذا ما كنت تنظر إلى زاوية العمالة الهامشية (السائبة)، فعليك من جهة أخرى الالتفاف ومن ثم الاهتمام بالعنصر الكويتي في كل القطاعات، وعليك أيها المسؤول والمشرع والقاضي والحكم أن تعلم أن أول خطوة في سلم بناء كويت «كويتية» جديدة، هو تطوير العنصر الكويتي وتدريبه، وعليك أن تنظر إلى المعاملة الورقية الواحدة على أنها سلسلة متكاملة، حلقتها الأضعف الآن هو الموظف الكويتي، وﺇن كان هو رأس الهرم المعزب المدير، ففي الوقت الذي تضمن أيها المسؤول أن كل توقيع على تلك المعاملة، كان وصار ودقق بأيد كويتية وطنية ذات خبرة في مجال العمل، حينها تكون قد أنجزت.

وللعلم ذلك ليس بمطلب مستحيل المنال، إنما يحتاج ﺇلى عزيمة ونية صادقة فقط، والحاصل مع الأسف سلسلة من التواقيع لعمالة يمكن للموظف الكويتي أن يستبدلها بأمانة وإتقان ليأتي ذلك المسؤول الأخير، وفي الأغلب دون دراية فنية بحيثياتها ليبصم... مصيبة!! التكويت ﺇن سبقه تأهيل وتدريب للكادر الوطني فسيحقق رؤية الحكومة في تعديل التركيبة السكانية كما أُعلن عنها قبل أيام، فقد تستغرق الأمور بعض الوقت ولكن بخطوات حقيقية جادة يمكننا أن نصل ﺇلى الهدف المنشود، وإن اختلفت رؤيتي الشخصية عن النسبة المعلنة من الحكومة التي لا أراها قابلة للتطبيق على المدى القريب.

زمن الكورونا كشف للعيان ما كان الشعب في أغلبيته يحذر منه من مصائب، وبنوايا صادقة نابعة من حب الوطن وترابه، ولكن هل نتعظ من أزمة كورونا، وتزول عنا العمالة «الرانقول» لنحقق بذلك تركيبة سكانية من ذهب عيار 24؟!

back to top