نجاة الصغيرة... صوت الحب (2-15)

تبحث عن سر المنديل بين أصابع أم كلثوم

نشر في 13-05-2020
آخر تحديث 13-05-2020 | 00:16
عرفت نجاة طريق الاحتراف منذ كانت في السابعة من عمرها، وتحوَّلت الطفلة الصغيرة إلى أيقونة فنية في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وأُطلق عليها «معجزة القرن العشرين»، وتعهدت أسرتها بنظام صارم لتدريبها على الغناء، وباتت ممنوعة من اللعب مثل أقرانها، وأدهشت جمهور الحفلات بموهبتها في تقليد أم كلثوم.
استعادت نجاة ذكرياتها عن أول اختبار لموهبتها خارج منزل الأسرة، وفي ذلك الوقت كان شقيقها عزالدين يَدرس في معهد الموسيقى بالقاهرة، واقترح على والده أن يقدمها إلى أساتذته بالمعهد، وفي اليوم التالي شعرت أنها في حلم غريب، وأصابتها رهبة شديدة في قاعة فسيحة تمتلئ بكبار الموسيقيين أثناء ندوتهم الأسبوعية، وفي أحد الأركان يقف تلميذ لم يتجاوز الـ14 من عمره، يحمل بإحدى يديه حقيبة لآلة الكمان، وباليد الأخرى تتعلق طفلة صغيرة، وانتبه إليهما مدير المعهد -آنذاك- مصطفى بك رضا، فتحرك ناحيتهما، وأنصت باهتمام بالغ لما يرويه تلميذه عن موهبة شقيقته، فقاطعه ليسألها: «إنتِ صحيح بتعرفي تغني؟»، وعلى الفور قال عزالدين: «نجاة حافظة كل أغاني أم كلثوم”.

وتعلقت الأنظار بالطفلة الصغيرة، وزاد شعورها بالرهبة، بينما شقيقها يقول لها هامساً: «لا تخافي أنا بجانبك»، وارتسمت الابتسامات على الوجوه، عندما قالت إنها ستغني «أراك عصي الدمع»، وانطلقت في الغناء وهي مغمضة العينين، وأصغى إليها الحضور بدهشة وإعجاب، وحين انتهت، دوت القاعة بالتصفيق، وحملها مصطفى بك وظل يقبلها وهو يقول: «دي مفاجأة كبيرة جداً، أنا لازم أخليها تغني في حفلة المعهد، دي معجزة». ومنذ تلك الليلة ونجاة تسأل شقيقها في كل يوم عن موعد الحفلة، وتقول «أنا عاوزة أغني وأبقى زي أم كلثوم”.

اقرأ أيضا

عبير الوردة

لم تهتم المطربة الصغيرة بالبحث عن أسباب تعلقها بالغناء، ويكفي أنها كانت موهوبة بالفطرة، بما يبرئ أسرتها من الدفع بها إلى طريق شاق منذ طفولتها المبكرة، وفي حوار أجراه معها الكاتب جليل البنداري في مجلة «آخر ساعة» المصرية في عددها الصادر بتاريخ 14 سبتمبر 1960، كشفت نجاة عن سر تعلقها بالفن، وقالت: أغاني أم كلثوم كانت مدرسة الحضانة بالنسبة إلى صوتي، أما الإحساس فهو لا يُكتسب دائماً، فهو طبيعة في الإنسان، وبالنسبة إلى الفنان كالعبير للوردة، ولا تستطيع الوردة أن تقول من أين جاءها هذا العبير، كذلك لا يستطيع الفنان أن يجيب من أين جاءه هذا الإحساس، وأعتقد أن العذاب في كل الحالات هو مصدر الإحساس المرهف”.

ظلت صاحبة الإحساس المرهف، تتشح بغلالة حزن شفيف، وكما وصفها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب بـ»صوت السكون الصاخب» وفي أعماقها ترسخت ذكريات الطفولة التي لا تُحسد عليها، ومنذ نعومة أظفارها مُنعت من الالتحاق بالمدرسة وإتمام تعليمها، فتعلمت الحروف من والدها محمد حسني، وتدربت على القراءة من تهجي أسماء الفنانين في الصحف والمجلات، وبعد سنوات تعلمت اللغة الإنكليزية من مُعلِمة خاصة، وحُرِمت الطفلةُ اللهو وتناول الحلوى، فلم يسنح لها الوقت للعب بالدُمى كمثيلاتها من الأطفال، ولا تتذكر نجاة في مرة لهوها بألعاب الصغار.

وخضعت الطفلة لنظام غذائي صارم، حتى لا يزيد وزنها ويؤثر على صوتها، وبدأ ذلك مع دخولها إلى عالم الغناء مبكراً في سن السابعة، وغنائها في الإذاعة المصرية عام 1945، لتدخل إلى عالم الكبار من بروفات وتدريبات مستمرة، ومشاركة دائمة في حفلات معهد الموسيقى ووزارة المعارف المصرية، ورغم النجاح والشهرة، ظلت «الصغيرة» تفتقد اللهو ومرح الطفولة.

اتصال هاتفي من لندن يثير فزع «أم وليد» في مطار القاهرة

عاشت نجاة 24 ساعة متواصلة من الفزع، وجاءت تفاصيل ذلك اليوم العصيب في خبر نشرته صحيفة «أخبار اليوم» يوم 23 يناير 1971، تحت عنوان «برقية من لندن هزت أعصاب نجاة 24 ساعة»، وكان مسرح الأحداث في مطار القاهرة الدولي، وهناك ظهر عليها التوتر الشديد، ولم تهدأ أعصابها إلا في فجر اليوم التالي.

كانت نجاة قد ذهبت إلى المطار لتودع ابنها الصغير «وليد» في طريقه إلى لندن، ليلحق بالعام الدراسي الجديد، وبعد أن أقلعت الطائرة، عادت نجاة إلى المنزل، وفي الساعة الثانية عشرة ظهراً، تلقت اتصالاً هاتفياً من شركة الطيران، تبلغها بوصول برقية تفيد بأن ابنها سيعود إلى القاهرة على أول طائرة قادمة من مدينة الضباب، وستصل في منتصف الليل، وتحشرج صوتها الدافئ متسائلة عن أسباب العودة، ولكن المتصل طمأنها أن ابنها بخير، ولا داعي للقلق.

ومضى الوقت بطيئاً على صاحبة الإحساس المرهف، ولم تستطع المكوث في المنزل، وأسرعت بالذهاب إلى مكتب الشركة في المطار، وسألت مرة أخرى عن سر البرقية التي وصلت عن عودة ابنها من لندن، وبعد بحث في أدراج الموظفين، عُثر على البرقية، وعند إعادة قراءتها اكتُشف أن البرقية تقول إن وليد وصل إلى لندن، وأنها تُرجمت خطأ في المرة السابقة.

سهر الليالي

ظلت نجاة مسكونة بذكريات طفولتها، وكيف كانت متعلقة بالمذياع، لاسيما حين يبث أغاني أم كلثوم، وتسهر الليالي مع مطربتها المفضلة، وكانت تجلس إلى طعام العشاء ولا تأكل ثم تذهب إلى فراشها ولا تنام، وفي الصباح تردد ما حفظته في الليل كأنها شريط مُسجلٍ، من دون أن تدري لماذا تفعل ذلك، ولا تعيش حياة أقرانها في اللعب والتنزه، بل إنها أرادت أن ترى صاحبة هذا الصوت الذي تملك عقلها ومشاعرها، وألحّت على والدها أياماً كي يحملها مع أشقائها إلى حديقة الأزبكية (وسط القاهرة) لرؤية كوكب الشرق.

وذات ليلة تحقق حلم المطربة الصغيرة، وجلست في قاعة مسرح الأزبكية مع والدها وشقيقها عزالدين، وكانا يظنان أنها ستغفو في مقعدها وسط الجمهور، لكنها ظلت طوال السهرة تشب برأسها فوق الرؤوس، لترى أم كلثوم تتمايل أثناء شدوها، ووجدت نفسها تردد معها كلمات الأغنية التي تحفظها عن ظهر قلب، وحين انتهى الحفل ظلت طوال الطريق صامتة، ثم سألت والدها عن سر المنديل الذي تعتصره أم كلثوم بقوة أثناء غنائها، وحينئذ لم تجد إجابة شافية.

وأدركت نجاة فيما بعد أن لكل فنان تفاصيله الخاصة، وبالنسبة إليها فقد اعتادت ألا تنظر ناحية الجمهور، وتغني مغمضة العينين، وكأنها سابحة في فضاء شفيف، ولا تفيق من اندماجها إلا عندما يدوي التصفيق، وظل أداء صاحبة الصوت الدافئ موفقاً في حفلاتها، وتميزت بإطلالتها العفوية من دون تكلفٍ، ولم يحدث يوماً أن ارتجلت كلمات أمام جمهورها قبل الغناء، وينتابها التوتر قبل الدخول إلى المسرح، كأنها تواجه الجمهور للمرة الأولى.

«خليفة أم كلثوم»

كانت نجاة على موعد مع اختبارات صعبة، ولا يدري أحد كيف اجتازتها هذه الطفلة بنجاح مذهل، وفي ليلة أخرى غادرت مقاعد المتفرجين، ودخلت في تجربة أكثر إثارة، وكانت قد حققت حضورها في الحفلات الرسمية، التي خصصت فقرة الأناشيد للأطفال، لاسيما في المواسم الدينية والمناسبات الوطنية، وذات ليلة في حفلة للإذاعة تُحييها أم كلثوم على مسرح الأزبكية، كان ضمن برنامج الحفل نشيد غنته نجاة مع كورس من الأطفال، ثم توالت الفقرات وتأخرت كوكب الشرق حتى ظن القائمون على الحفل أنها لن تحضر.

وسرت جلبة بين الحضور، ولم يجد المسؤولون سوى الاستعانة بالمطربة الصغيرة لتقدم الأغنية التي كان من المفترض أن تغنيها أم كلثوم في وصلتها الأولى، وهي «غلبت أصالح في روحي»، وبينما يصفق الجمهور للصغيرة ويستعيدها ترتبك نجاة فجأة وينتفض جسدها. وقد رأت أم كلثوم جالسة على مقعد في الكواليس تنصت إليها، وهي تغني أغنيتها، فكادت تتوقف عن الغناء، لولا أن رأتها تضم لها يديها مشجعة، فاستعادت أنفاسها وغنت كما لم تغن من قبل، ولما انتهت تركت التصفيق والهتاف وراءها لتجري نحو أم كلثوم التي فتحت لها ذراعيها واحتضنتها ثم أجلستها على ساقيها ونثرت على خديها القُبل.

وذاع خبر ذلك اللقاء المثير بين أم كلثوم وبديلتها الصغيرة، ونشرت مجلة «الاثنين» في عددها الصادر بتاريخ 26 أكتوبر 1942، تقريراً مصوراً بعنوان «خليفة أم كلثوم»، جاء فيه أن «المطربة الصغيرة نجاة» وقفت في حفل إذاعي نظمه نادي الموسيقى الشرقي لأداء إحدى الأغنيات فلم يبال بها أحد، وبعد أن تمايلت وسرى صوتها في الحفل «استدارت الأعناق وفقد الجمهور صوابه وطالبها بالإعادة، وأن الكاتب الصحافي فكري أباظة طالب الحكومة برعايتها بعد أن سمعها تؤدي أغاني أم كلثوم «سلوا قلبي»، و»غني لي شوي شوي»، و»حبيبي يسعد أوقاته»، وأيده الموسيقار محمد عبدالوهاب، فأطلق عليها أشقاؤها لقب «بنت الحكومة» ثم حملت الإعلانات عن حفلاتها بالقاهرة ألقابا منها «مطربة الجيل الجديد»، ثم كان لقب «نجاة الصغيرة» تمييزاً لها عن نجاة علي المطربة المشهورة في حقبة الأربعينيات”.

وذكرت نجاة عندما أصبحت مطربة مشهورة، أنه وقع خلاف بينها وبين والدها بعدما حازت شهرة واسعة وذاع صيتها في تقليد أم كلثوم، لأنها أرادت أن تكون مطربة مستقلة، ويكون لها أغانيها الخاصة وهو ما رفضه والدها، ما تسبب في أنها تركت البيت هي وشقيقها عزالدين، واستقلت في شقة أخرى.

ورفضت نجاة مقارنتها بأم كلثوم، وقالت: «لا وجه للمقارنة، فصوت أم كلثوم متكامل بكثير من الإمكانات التي تنقصني، فأنا في المركز الثاني بعدها، لمجرد أنه لم تظهر بعد المطربة التي تملأ الفراغ الموجود بيني وبينها”.

وتزوجت نجاة مرتين. وكان زواجها الأول في سن مبكرة خلال عام 1955، وكانت بعمر 17 سنة، وكان زوجها كمال منسي صديقاً لشقيقها عزالدين، ثم انفصلت عنه تقريباً عام 1960. وتزوجت مرة أخرى في عام 1967 من المخرج حسام الدين مصطفى، إلا أنها انفصلت عنه بعد مدة قصيرة، ولم تتزوّج منذ ذلك الحين، واتخذت قراراً بتكريس حياتها لتربية ابنها الوحيد (وليد) من زوجها الأول، والتفرغ لنشاطها الفني.

سر رفض شريفة فاضل الغناء في حفلات نجاة!

أثارت المطربة شريفة فاضل أزمة مع زميلتها نجاة، واعتذرت عن عدم المشاركة في إحياء حفلة للمجهود الحربي، وكشفت عن الأسباب في حوار أجرته معها مجلة «الكواكب» في 17 أكتوبر 1967، وقالت صاحبة أغنية «الليل»: «حدث أن اتصل بي الأستاذ وجدي الحكيم المخرج بإذاعة صوت العرب، للاشتراك في حفلة للمجهود الحربي، وقال لي إن الإعلانات عن الحفلة قد صُممت وطُبعت على أساس وضع صورة للمطربة نجاة الصغيرة، ووضع اسمي من دون صورة”.

وتابعت فاضل: «كان طبيعياً أن أعتذر، لأن هذا الإعلان يوحي أن نجمة الحفلة هي نجاة الصغيرة، وهذا غير صحيح بالمرة، فبرنامج الحفلة يضم أسماءً لامعة من المطربين والمطربات، أمثال محمد رشدي، وفهد بلان وغيرهما، ثم اتصل بي جمال الغز مدير مكتب وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية، لإقناعي بالعدول عن الاعتذار، وقال إن نجاة هي التي أصرت على عدم وضع صورتي، فتمسكت باعتذاري، لأنه ليس من المعقول أن تفرض نجاة الصغيرة آراءها، فهي ليست أم كلثوم، حتى تحيط نفسها بهالة من الدعاية على حساب سمعة فنانين وفنانات يتفوقون عليها بمكانتهم الشعبية، وأغانيهم تجري على كل لسان، وإيرادات بيع اسطواناتهم تشهد بتقدير الجماهير لهم، وحبها لأغانيهم”.

بدورها، لم تعلق نجاة على هجوم فاضل، وقررت الأخيرة ألا تشترك في أي حفلة تغني فيها «نجاة الصغيرة»، وطلبت من المشرفين على تنظيم حفلات المجهود الحربي أن يضعوها في حفلة أخرى.

البقية في الحلقة المقبلة

قاعة معهد الموسيقى تدوي بالتصفيق لشقيقة عازف الكمان

خضعت لنظام غذائي صارم حتى لا يزيد وزنها ويؤثر على صوتها

كوكب الشرق تستمتع خلف الكواليس بغناء المطربة البديلة

«بنت الحكومة» تبهر الجمهور في حفل حديقة الأزبكية
back to top