سائق توك توك... صديق العمر جعله مجرماً!

سيد أراد إقحام فريد في عملية سرقة فقتله الأخير دفاعاً عن النفس

نشر في 06-05-2020
آخر تحديث 06-05-2020 | 00:02
سائق توك توك... صديق العمر جعله مجرماً
سائق توك توك... صديق العمر جعله مجرماً
انطلق سائق «التوك توك» بأقصى سرعة من مسرح الجريمة، وتلاحقت أنفاسه طوال الطريق، وأدار «المسجل» على أغنية صاخبة، كي يبدو الأمر طبيعياً، وفي ساعة متأخرة من الليل، توقف أمام منزله، وصعد الدرج مسرعاً، وفي ضوء الصالة الخافت، اطمأن أن والدته وإخوته يستغرقون في النوم، واتجه إلى الحمام ليزيل آثار الدماء من قميصه، وبدَّل ملابسه، وخرج ليسلم العربة إلى مالكها، وتبادل معه كلمات مقتضبة، ثم عاد بخطوات ثقيلة وارتمى فوق الفراش، قبل أن يفيق على صوت طرقات عنيفة على الباب!
لم يفكر القاتل الشاب في الهروب، وربما عجز عقله عن استيعاب اللحظات القليلة التي غيرت مجرى حياته، وظن أنه أفلت من العدالة، فور مغادرته مسرح الجريمة، دون أن ينتبه إلى الخيوط المتشابكة التي تلتف حوله، وبدأت بارتياب صاحب "التوك توك" في الخدوش التي تملأ وجهه، حين جاء بالعربة قبل انتهاء "الوردية" الثانية، لاسيما أن "فريد" ألح عليه للعمل في ورديتين، وتعلَّل أنه بحاجة إلى المال ليغطي نفقات علاج والدته المريضة، وفي هذه الليلة قال له: "خلاص من بكره مفيش غير وردية واحدة" وحينها نظر فريد إلى "التوك توك" وأدرك أنها المرة الأخيرة التي سيقود فيها هذه العربة.

بدت ملامح "فريد" جامدة، وكأنه غير مكترث بقرار صاحب "التوك توك" أو أنه فقد حاسة السمع، وقد حاصره ضجيج من نوع آخر، وأشد وطأة من الأغاني الصاخبة التي لا يكف عن تشغيلها أثناء قيادته "التوك توك"، بل إنه كان يتبارى مع زملائه على أن تكون مدوية، وذات إيقاعات تثير غضب الركاب، وكثيراً حدثت مشادات بينه وبينهم، وأحياناً كان يخضع لطلبهم، لاسيما إذا كانوا من كبار السن.

في اليوم التالي، صدقت هواجس صاحب "التوك توك" حين مثل أمام الشرطة ليدلي بأقواله في جريمة قتل، ارتكبها سائق عربته، ونفى أي علاقة تربطه بارتكابها، وأن "فريد" شاب مكافح يعيل أسرته، وأنه جاء مع المجني عليه "سيد" وطلب العمل، وتحدث عن ظروفه الصعبة، واحتياجه للمال، ورق قلبه لحال هذا الشاب، وفكر أنه لو رفض تشغيله، فسيتجه إلى الانحراف، ولذا لم يتوقع أن يقتل صديق عمره.

غموض

استغرق اكتشاف غموض الجريمة ساعات قليلة، حين عثرت دورية الشرطة على جثة شاب عشريني في إحدى المناطق المهجورة، وبجواره "سكين" ملوثة بالدماء، وتكثفت التحريات لمعرفة هوية المجني عليه، وتبين أن اسمه "سيد" ويسكن في حي شعبي بمحافظة الجيزة، واتجهت أصابع الاتهام إلى صديق عمره "فريد" كآخر شخص كان معه، وأفاد الشهود أنه استقل عربة "التوك توك" التي يعمل عليها صديقه قبل وقوع الجريمة، وغابا عن الأنظار.

كان الشارع هادئاً وخالياً من المارة، عندما توقفت عربة الشرطة، وترجل الضابط ومعه أفراد القوة، ودخلا إلى منزل السائق "فريد" واستيقظت الأم على صوت طرق الباب، وانتبه أطفالها إلى الجلبة، وخرجوا إلى الصالة، بينما لا تدري ماذا حدث، وابنها البِكر "فريد" مقيد اليدين، ويصطحبه رجال الأمن إلى خارج الشقة، واندفعت خلفهم صارخة "ابني... ابني... واخدينه على فين؟" وجرت خلف العربة التي انطلقت مسرعة.

لم يعرف "فريد" هل كان يحلم، أم أفاق من غفوته، ليجد نفسه في قبضة رجال الشرطة، وأودع غرفة التوقيف لحين مثوله للتحقيق، وهناك انتحى في أحد الأركان، وظل صامتاً، بينما تدوي في أذنيه صرخات أمه وأخوته، وهم يجرون خلف عربة الشرطة في منتصف الليل، وانمحت من ذاكرته تفاصيل الجريمة التي ارتكبها، وبدت كصورة ضبابية لمعركة دارت بين شخصين لا يعرفهما، وانتبه الشاب إلى محتجز يقترب منه، ويسأله عن اسمه وجريمته، لكنه لاذ بصمته، وتعالت ضحكات المحتجزين، والتفوا حوله في دائرة، فأطلق صرخة مدوية، وطلب منهم أن يتركوه وشأنه، فعادوا إلى أماكنهم، لكنهم ظلوا يلاحقونه بنظرات ساخرة.

في صباح اليوم التالي، اقتيد "فريد" من محبسه، وظهرت عليه علامات الاضطراب والخوف، وكأنه ذاهب إلى غرفة الإعدام، وأفاق من خيالاته حين دخل إلى مكتب المحقق، ووجد أمامه أداة الجريمة "السكين" والقميص المبتل، تعلق بهما آثار الدماء، وحاصرت الأدلة الشاب العشريني، وجعلت أطرافه ترتعش، وقدميه لا تقويان على حمله، فأشار إليه المحقق بالجلوس، وبدأ التحقيق مع المتهم بقتل صديق عمره، وكشف دوافع جريمته البشعة التي وقعت في أحد المناطق المهجورة بمحافظة الجيزة.

أيام أخرى أمضاها "فريد" في غرفة التوقيف، تخللها اقتياده إلى مسرح الجريمة، وإعادة تمثيله لوقائعها، وظل يطارده في أحلامه حبل المشنقة وهو يلتف حول عنقه، وتتابعت الكوابيس التي أفزعته، وجعلت المحتجزين يكفون عن مضايقته، واضطربت مشاعره تماماً، وبات في حالة يُرثى لها، لاسيما بعد زيارات أمه واخوته المتكررة، ورغم فرحه برؤيتهم، لكن نظراتهم الحزينة ودموعهم المذروفة في صمت، أدمت قلبه، وجعلته يفكر كيف ستعيش أمه المريضة وأشقاؤه الثلاثة وهو العائل الوحيد لهم في حال الحكم عليه بالسجن أو الإعدام!

طوق نجاة

انتهى التحقيق مع "سائق التوك توك" بكفاية الأدلة والاعترافات، وأصبح الملف جاهزاً لمحاكمة الشاب الذي قتل صديق عمره، ولم يكن بحاجة إلى محامٍ، والأحرى أنه لا يمتلك مالاً (أتعاباً) ليوكل بها محامياً يدافع عنه، وفي ذات الوقت لا يمتلك القدرة على الدفاع عن نفسه، والتحدث أمام هيئة المحكمة، كما فعل فريد شوقي في فيلم "جعلوني مجرماً" الذي شاهده أكثر من مرة، وباتت القضية على المحك، ومرهونة باقتناع القاضي ببراءته أو الحكم عليه بسجن مخفف، وقد طمأنه أحد أقاربه بأنه كان في حالة دفاع عن النفس، وبذلك لن يصدر ضده حكمٌ بالإعدام.

بحث فريد عن طوق نجاة في هذا البحر المتلاطم، لكنه صار وحيداً دون شهود على أحداث ليلة الجريمة، ولن تكفي صرخاته "أنا برئ.. أنا مظلوم" لتصبح دليلاً على براءته، والأدلة تقول إنه قتل صديق عمره، ولا فرق إذا كان بالخطأ أو مع سبق الإصرار، فالنتيجة واحدة، وستفضي إلى الحكم عليه بالسجن، وسيترك والدته المريضة وإخوته بلا عائل، وكلما فكر في هذا الأمر، ينتفض جسده، ويطلق صرخة مدوية، مما يدفع المحتجزين إلى الابتعاد عنه، وقد ظنوا أنه مصاب بمرض عقلي، أو مس من الجان.

مرت الساعات بطيئة داخل الزنزانة، واستعاد فريد تفاصيل قصة حياته القصيرة، وقد شعر أنه هرم فجأة ولم يعد شاباً يقبل على الحياة، بل ينتظره مصير غامض، والحقيقة أن أحلامه تهاوت منذ مات والده "عامل الكهرباء" وكان رجلاً بسيطاً لا يعرف من الدنيا، سوى عمله وبيته وأولاده، وحينها كان فريد طفلاً صغيراً يذهب إلى المدرسة مع أقرانه، لكنه تركها بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، واصطحبه والده معه أثناء العمل، وتعلم منه فنون صنعته، وكان يغدق عليه بالحلوى والنقود، وقال له "عندما تكبر ستتحمل المسؤولية من بعدي، وإذا مت لا تترك أمك وإخوتك"، ووقتها لم يفهم الصبي معنى لكلمات أبيه، وكأن الأخير يتحدث إلى نفسه.

وبعد شهور قليلة أصيب والد فريد بمرض خطير، ولم يقو على العمل، وظل طريح الفراش، ولم تفلح الأدوية في تخفيف آلامه، وذات يوم أفاق فريد من نومه على صرخة مدوية، فهرع من فراشه، ووجد البيت ممتلئاً بالجيران، وأمه ترتدي ملابس الحداد، ويومها احتضن إخوته، وجلس صامتاً يتقبل كلمات المواساة، وتذكر كلمات أبيه عن المسؤولية وعدم ترك أمه وإخوته، وأدرك أنه صار يتيماً، وأجهش بالبكاء.

لم تكن مهنة "عامل كهرباء" منتظمة، وغالباً يمكث فريد أياماً كثيرة بلا عمل، فلم يكن يمتلك مهارة والده، والزبائن لا تثق في صبي صغير لتمنحه أعمال صيانة كبيرة، واقتصر عمله على تركيب بعض الأدوات البسيطة، مقابل عائد مالي لا يفي باحتياجات أمه المريضة، والتي أصابها الحزن على زوجها، وتحتاج إلى علاج وأدوية باهظة الثمن، وساوره القلق على إخوته الصغار، وكيف يحميهم من التشرد والانحراف.

ضاق فريد بمهنة والده، وتراكمت عليه الديون لسد احتياجات أسرته، وبدأ يبحث عن عمل آخر، ولجأ إلى صديق عمره "سيد" لعله يجد عنده حلا لمشاكله، وذات يوم أخبره صديقه أنه وجد له عملاً: "ستكون سائق (توك توك)"، وطمأنه بأنه سيتعلم قيادته في فترة وجيزة، وذهب معه إلى صاحب العربة، وحينها قال الأخير: "يا سيد أنت بتشتغل يوم وتتوقف عشرة، وأكيد صاحبك زيك... أنا مش موافق"، ودافع سيد عن صاحبه، وأنه يختلف عنه ويحب العمل، وتدخل فريد في الحوار، وحكى للرجل مأساته، فقال له: "موافق... تعالى استلم من بكره".

ومرت عدة أيام على عمله، وطلب من صاحب "التوك توك" أن يطيل ميعاد الوردية، حيث كان يعمل ليلاً ونهاراً، ليلبي احتياجات أسرته، وقال له: "أنا مزنوق وأمي تحتاج لعلاج وإخوتي في مدارس"، ومع الوقت بدأ فريد يسدد ديونه، ويوفر احتياجات أسرته، وقد شعر أن صديق عمره سيد منحه "طوق نجاة" ولم يدرك ما تخبئه الأيام المقبلة.

اعترافات قاتل

اعترافات مثيرة أدلى بها فريد عن دوافع جريمته، وكيف جرت وقائعها بعيداً عن الأنظار، وقال له المحقق: "تكلم يا فريد... الإنكار ليس لمصلحتك". حينها تقطَّعت أنفاسه وطلب كوب ماء، ثم قال: "الحكاية بدأت قبل سنوات، عندما كنت في المدرسة الابتدائية، وربطتني زمالة بسيد، وكنا كل يوم معاً، وهو كان شقياً منذ صغره، وخرج من المدرسة قبلي، لكن صداقتنا كانت قوية، ولما بدأ يشتغل على "توك توك" كنت أركب معه، ولكن تفكيره بدأ يتغير، وأراد أن يحصل على المال بدون تعب، ومن ناحيتي كنت أنصحه أنه يركز في عمله.

وفي اليوم المشؤوم، اتصل بي سيد وقال لي إن معه زبون يريد أن يُوصِّله، وذهبت له الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، فوجدته بمفرده، وقال اطلع بنا، أريد أن أكلمك في موضوع مهم جداً، وفي الطريق ظل صامتاً، حتى ابتعدنا عن العمران، فقال توقف هنا، وفجأة رمقني بنظرات غريبة، وهددني بسكين، وقال: "لو فتحت فمك سأقتلك... التوك توك يلزمني... وانت هاتعمل نفسك (ستدعي أن) طلع عليك حرامية وسرقوه منك، وأنا سأشهد معك عند المعلم (صاحب التوك توك)".

الفكرة الشيطانية أخرست فريد وصديقه يضع السكين على عنقه، ويسأله بحدة: "موافق ولّا أقتلك؟" وطلب منه النزول من "التوك توك" وظل فريد يرجو صديقه أن يبتعد عن طريقه، وأدرك سيد أن صديقه يرفض فكرته، فهجم عليه ليقتله، واحتدم الصراع بينهما، وأثناء المعركة سلب فريد السكين وغرسه في صدر صاحبه، فسقط مضرجاً في دمائه.

وتوالت اعترافات فريد عن هروبه من مسرح الجريمة، تاركاً المجني عليه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقال للمحقق: "أنا لم أقصد قتله ده كان صاحبي... وساعتها كنت أدافع عن نفسي... ولو كنت وافقته على فكرته... كنا سندخل السجن بتهمة السرقة، وأنا عارف إنها وزة شيطان... ربنا يسامحه".

وحان وقت المحاكمة، ومثل فريد في القفص الحديدي بمحكمة الجيزة، وجاء صوت الحاجب: "محكمة"، لتدخل هيئة المحكمة، ونظر القاضي تجاه المتهم، وتكلم فريد في محاولة للدفاع عن نفسه قائلاً: "والله بريء.,. أنا لم أكن أريد قتله، وهو اللي كان ناوي على الشر، بص لي في لقمة عيشي... وكان يريد أن يأخذ التوك توك... أنا عندي اخوة صغار هايتشردوا لو تم حبسي، وأمي هاتموت"، وحكمت المحكمة بسجن فريد خمس سنوات، وبعد النطق بالحكم، لم يكن يشغل تفكيره سوى أمه المريضة وإخوته الصغار.

القاتل العشريني غادر مسرح الجريمة على إيقاع أغنية صاخبة

الديون تراكمت على فريد بعد وفاة والده

المجني عليه يهدد صاحبه بسكين لتنفيذ فكرته الشيطانية

أم الجاني تجري خلف عربة الشرطة بعد منتصف الليل

السجناء أصابهم الفزع من صرخات «سجين» مسه الجان
back to top