نزار قباني ... قصيدته الحزينة «قارئة الفنجان» ونهاية مشوار مطربها (9-15)

الشاعر المتمرّد الحالم العاشق المتوحّد باللغة

نشر في 04-05-2020
آخر تحديث 04-05-2020 | 00:01
يظهر الوجه الجديد لحياة الشاعر الكبير نزار قباني في الستينيات من الناحية الفنية والشعرية، فبعد ظهور أولى قصائده المغناة بصوت المطربة نجاة الصغيرة كأول مولود فني واعتناق موسيقي حقيقي للقصيدة، تابع نزار تعاونه مع نجاة ليثمر هذا التعاون بعد فترة من الزمن أغنية "ماذا أقول له"، ففي منتصف الستينيات غنت الفنانة نجاة هذه الأغنية التي تعتبر أكثر تعقيداً من ناحية اللغة، مقارنة بأغنية "أيظن"، ولحنها أيضاً الموسيقار محمد عبدالوهاب.
تتحدث المطربة نجاة عن لقائها الأول بالشاعر نزار قباني بعد أن غنت له "أيظن" فتقول: التقينا في بيت الأستاذ محمد عبدالوهاب، رأيته شاباً وسيماً رقيقاً مثل نبلاء العصور الوسطى، شاعر حتى في مفردات حديثه العادي.

وجرى الاتفاق على أن تغني له قصيدة "ماذا أقول له"، التي تقول كلماتها:

ماذا أقول له لو جاء يسألني

اقرأ أيضا

إن كنت أكرهه أو كنت أهواه؟

ماذا أقول: إذا راحت أصابعه

تلملم الليل عن شعري وترعاه؟

وكيف أسمح أن يدنو بمقعده

وأن تنام على خصري ذراعاه

هنا كتاب معاً... كنا قرأناه

على المقاعد بعض من سجائره

وفي الزوايا بقايا من بقاياه

ما لي أحدّق في المرأة أسألها

بأي ثوب من الأثواب ألقاه

أحبه... لست أدري ما أحب به

حتى خطاياه ما عادت خطاياه

ماذا أقول له لو جاء يسألني

إن كنت أهواه... إني ألف أهواه

«جفت الدموع»

ومع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات يظهر التعاون مجدداً بين نجاة الصغيرة ونزار في أغنية "متى ستعرف كم أهواك" (قصيدة إلى رجل) من ديوان قصائد متوحشة، كما لحن الأغنية الموسيقار محمد عبدالوهاب، وأدرجت ضمن أغاني فيلم "جفت الدموع" عام 1975، للمخرج حلمي رفلة. كما غنت نجاة "أسألك الرحيل" عام 1990، وكانت آخر ألحان عبدالوهاب لنجاة، إذ استغرق تلحينها نحو ثلاث سنوات تقريبا، وطرحت الأغنية في الفترة التي حصلت فيها حرب الخليج، مما أبطأ انتشارها في تلك الفترة. وتقول كلمات القصيدة:

بحق ما لدينا

من ذِكَرٍ غالية كانت على كلينا

بحق حب رائع

مازال منقوشاً على فمينا

مازال محفوراً على يدينا

بحق ما كتبته... إليّ من رسائل

بحق ذكرياتنا

وحزننا الجميل وابتسامنا

وحبنا الذي غدا أكبر من كلامنا

أكبر من شفاهنا

بحق أحلى قصة للحب في حياتنا

أسألك الرحيل

وحصل تعاون آخر بقيمة فنية كبيرة جدا بين العملاقين، الشاعر نزار قباني والمطرب المصري عبدالحليم حافظ في أغنيتين من أشهر وأجمل الأغاني العربية وهما "رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان"، والقصيدتان من ديوان "قصائد متوحشة". اختار عبدالحليم حافظ القصيدتين وطلب من الملحن المصري المعروف محمد الموجي تلحين الأغنيتين.

وفي لقاء تلفزيوني، يسأل المذيع نزار قباني عن الصراع بين عبدالحليم ونجاة الصغيرة على إحدى قصائده، فيقول نزار: كنت في القناة 11 في بيروت، في مقابلة مع الأستاذ عادل مالك في الاستديو المفتوح، وقرأت قصيدة اسمها "رسالة من تحت الماء"، وكان موجوداً الأستاذ عبدالحليم حافظ وسمع القصيدة، لأننا في نفس الاستديو عم نسجل، وبعد ما انتهى التسجيل وقفت أنا وعبد الحليم وقلي: يا نزار أنا عاوز القصيدة دي. قلت له: بكل سرور. قلي: ممكن تكتبلي ياها على ورق؟ وكتبتها، ثم أخذها ومرقت المدة وراح عبد الحليم إلى القاهرة، ومن ثم سافر عدة سفرات، وسمعت إنو كان مريض، ولإنو عبدالحليم لم يقل لي شيئا عن القصيدة، ومر نحو سنة ونصف على الموضوع، وأنا كنت أشعر أن القصيدة مهملة أو لم تجد طريقها للتلحين، وسمعت من عبدالحليم نفسه بأنه أدى القصيدة وبأن محمد الموجي قام بتلحينها، وطلبت أن أسمع المقطع الأول منها وسمعته، ومن ثم لم أسمع شيئا من عبدالحليم، وهو زار بيروت عدة مرات، لكن لم أسمع أي خبر عن القصيدة، فجأة وبعد مرور سنة ونصف جاءت إلى بيروت السيدة نجاة وطلبت مني أن تغني القصيدة، قلت لها إنني مرتبط ارتباطا أدبيا بعبدالحليم، لأنه أخذ القصيدة مني ولا يمكن أن أسمح بغناء هذه القصيدة إلا عندما أعرف ماذا فعل بها عبدالحليم. فقالت لي: لا، أنا اشتريت القصيدة من الموجي. فقلت لها: كيف؟ فقدمت لي كتابا من الموجي، وفعلا قرأت كتابا يقول فيه الموجي: بأني قمت ببيع السيدة نجاة لحن قصيدة نزار قباني "رسالة من تحت الماء". وقالت: لقد أصبح عندي حق بهذه القصيدة. فطلبت منها أن تنتظرني وتعطيني فرصة من الزمن لأتصل بعبدالحليم، وفعليا قام بعض أصدقاء الطرفين بالاتصال تلفونيا بعبدالحليم في القاهرة، ووعد عبدالحليم بأنه سيكتب لي عن الموضوع برسالة حتى يشرح الموقف، ولكن لم أتسلم منه أي شيء، فاعتبرت أن العملية منتهية، وأضيف أيضا لذلك أنني كشاعر لي كبرياء وكرامة، ولا أسمح لا لمغنٍ ولا لملحن أن يستبقي في جاروره قصيدة سنتين وثلاثاً لأنه يحصل كما في قصيدة "رسالة من تحت الماء" أكثر من ملحن وأكثر من مغنٍ طلب القصيدة، وفي سبيل إنقاذ شعري من الإهمال سأحدد في المستقبل فترة زمنية لكل من يريد أن يغني قصائدي. وفي نهاية الأمر تم الصلح، وغنى العندليب الأسمر الأغنية مبدعا في أدائها...

وتقول كلمات "رسالة من تحت الماء":

لو أني أعرف أن الحب خطير جدا

ما أحببت

لو أني أعرف أن البحر عميق جدا

ما أبحرت

لو أني أعرف خاتمتي

ما كنت بدأت

اشتقت إليك فعلمني

ألّا أشتاق

علمني كيف أقص جذور هواك من الأعماق

علمني كيف تموت الدمعة في الأحداق

علمني كيف يموت القلب وتنتحر الأشواق

«قارئة الفنجان»

وبعد أن تم إنجاز أغنية رسالة من تحت الماء وغناها العندليب الأسمر، اتصل بنزار قباني الذي كان موجودا في منطقة بلودان السياحية في سورية، واتفق معه على تغيير بعض الكلمات في قصيدة قارئة الفنجان، وكان محمد الموجي قد بدأ بتلحين الجزء الأول منها والذي لا يوجد فيه إلا تغيير في كلمة واحدة ضمن البيت (يا ولدي قد مات شهيدا من مات على دين المحبوب) وتم التغيير إلى (يا ولدي قد مات شهيدا من مات فداءً للمحبوب). ثم بدأ عبدالحليم حافظ بعد ذلك في الاتصال بنزار قباني وبالعكس، ليقرأ له التعديلات الجديدة حتى وصل عدد المكالمات الهاتفية بين حليم ونزار إلى ثمان وثلاثين مكالمة، تتراوح كل مكالمة منها بين ساعة وساعة ونصف الساعة، إلى أن انتهى نزار من جميع التعديلات، وبدأ بذلك الموجي عمله، حيث وضع عدة أفكار للحن على ستة أشرطة كاسيت، وقد أقام الموجي في هذه الفترة بفندق مينا هاوس، وكان يقضي نهاره كله في الفندق. وفي الثامنة مساء يرسل عبدالحليم من يصحب الموجي إلى منزله مع عوده وشرائط الكاسيت التي توجد عليها الإضافات الجديدة، وتبدأ الجلسة بينه وبين عبدالحليم في التاسعة مساء وتنتهي في السابعة صباحا. بينما يجلس بينهما أبوهشام الذي يكتب النوتة الموسيقية للحن ويتكرر هذا المشهد يوميا طوال فترة إعداد اللحن.

ثم بدأت التمارين بعد الانتهاء من اللحن مباشرة، حيث بدأ في اليوم الأول تمرينان ظهراً ومساء لجسّ النبض في الآلات الموسيقية، ويسجل كل ذلك بما فيها توجيهات عبدالحليم على أشرطة. وقد بدأ عبدالحليم لأول مرة في حياته عمل تمارين الغناء قبل المقدمة الموسيقية للحن، تمرينان في اليوم الأول على الجزء الأول من القصيدة، حيث استمرت التمارين على هذا الجزء ثلاثة أيام. ثم بدأت التمارين على الجزء الثاني ثم الجزء الأخير، وبلغت جميع التمارين ثمانية عشر تمرينا وأربعة تمرينات منفردة بين عازف الأورغ مجدي الحسيني وعبدالحليم ومحمد الموجي حول الجزء الخاص بالبيانو في اللحن.

وفي حوار خاص على الشاشة بالأبيض والأسود، بحضور عبدالحليم ونزار يدور الحديث التالي المختصر، في الفيديو الموجود على مواقع التواصل والمنتشر بشكل كبير مع عدد قليل من الفيديوهات:

عبدالحليم: الأستاذ نزار أول ما عمل قصيدة قارئة الفنجان قبل ما ينشرها في الديوان بعتهالي في خطاب، وقلي أنا شايف إن دي عمل فني من ناحية الشعر جديد، ولو اتعملت غنوة حتبقى في فكرتها جديدة، فأنا لم أرى وما شفتش حد عندو الجرأة (يقاطع نزار مع ضحك الاثنين ويقول: ولا البجاحة) إنو ياخد قصيدة زي دي ويغنيها، فأنا بالعكس عجبتني القصيدة وعجبتني فكرتها إنها جديدة فعلا، يعني كلنا بنشوف الناس اللي بيبصروا كل واحد لما بيشرب فنجان القهوة يشوف البصارة تقول إيه. لكن الكلام اللي متقال واللي بتقولو البصّارة واللي هي بتقرا الفنجان في القصيدة كلام حلو طبعا، مش عايز أقولك إنو أستاذ نزار لما لاقاني وافقت عمل تغيرات على أساس إنها تتغنى بقى، ما تغيرتش في الديوان لكن في الغنوة آه. هي إضافات يعني حذف بعض الأبيات من هنا، والأستاذ نزار أضاف غيرها إضافات مش تغييرات.

ثم يبدأ نزار بقراءة أبيات القصيدة من الديوان، بطلب من المذيع:

بحياتك يا ولدي امرأة

عيناها سبحان المعبود

فمها مرسوم كالعنقود

ضحكتها موسيقى وورود

لكن سماءك ممطرة ..

وطريقك مسدود... مسدود

فحبيبة قلبك يا ولدي

نائمة في قصر مرصود

والقصر كبير يا ولدي

وكلاب تحرسه... وجنود

وأميرة قلبك نائمة...

من يدخل حجرتها مفقود

من يطلب يدها...

من يدنو من سور حديقتها... مفقود

من حاول فك ضفائرها

يا ولدي...

مفقود مفقود

يذكر أن أغنية قارئة الفنجان هي آخر أغنية للعندليب الأسمر، وقدمها لأول مرة في نادي الترسانة عام 1976، أما موسيقياً فقد لحنها الموجي على مقام النهاوند، ويقول نزار في جلسة جمعته مع عبدالحليم:

القصيدة تعرضت لكثير من الشغل، لقد أرسلتها إليه عام 1973 وخرجت الأغنية للنور عام 1976، واشتغلنا بالتلفونات بين القاهرة ودبي. هذا اللعب الذي لعبتوه بالقصيدة لدوافع موسيقية، وأنا احترمت رغباتكم، لكن أعتقد أن القصيدة كما كانت بالأصل، وقلت لك على الهاتف هذا الكلام وأنا في دبي: أخشى أن القصيدة تخسر أكثر من التشكيل الأول من بنيتها الأولية، وأنت تعرف كفنان بأن القصيدة هي الدفقة الأولى دائما، كما أن اللحن وكل عمل صناعي يأتي عليه في الآخر لأي سبب، سبب فني أو سبب تلحيني، كنت ضد التغيير لكن لم أقدر، فرغباتك كانت ورغبات الموجي أيضا.

عبدالحليم: في ناس بياخدوا المعنى السطحي للكلام، وفي ناس بتقلك والله الأستاذ نزار بيبحث فيها أو بيتكلم فيها عن حرية الإنسان وإنو الإنسان بيجي الدنيا وبيعطيها كل شيء ولا ياخد منها شيء، حتى حريتو لا يستطيع إنو هو ياخدها في أي مكان أو في أي زمان.

نزار: شوف أستاذ عبدالحليم، يعني قيمة الفن الكبيرة أنا معها ولست ضدها، قيمة أنها القصيدة حينما تغادر فم الشاعر وأصابعه وتخرج من يده تماما وتصبح ملك الناس وكل واحد يفسر على كيفه، وأنا لا أزعل من هذا. ويذكرني ذلك ببيت المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

من حسن حظ القصيدة أن الناس ليس كل واحد يشبه الآخر، هناك من فسرها كمفهوم للحرية، جيد، وهناك من فسرها على أنها المرأة المستحيلة التي لا تطال، ليس لها وطن أو أرض أو عنوان، وكله صحيح، وهذا غنى للقصيدة وليس فخرا لها.

يرد عبدالحليم: بس إنت بتعرف إنو جماهيرنا العربية بتحب أوي إنو الشاعر المغني (هنا يقاطع نزار ويقول: يفسر؟ التفسير ليس وظيفتنا).

ثم يتابع نزار الرد: أنت تغني وأنا أكتب، وكل واحد بالنسبة لأعماقه الداخلية هو الذي يفسر، وهذا الذي يغني، خذ مثلا صور بيكاسو ورينوار؛ يدخل عشرة آلاف إنسان إلى متحف ما، كل شخص يرى الصورة من عينه الخاصة، وكذلك القطعة الموسيقية، تصور اليوم يسمعك مئة وخمسون مليون عربي، هل الجميع يسمعونك بنفس المستوى الثقافي، كل واحد يفسرك ويفسرني كما يشتهي، وهذا إضافة للأغنية كما أعتقد.

عبدالحليم: أقدر أسألك سؤال ولو محرج شوي، هل استطاع الأستاذ محمد الموجي كملحن إنو هو يصور كلماتك كما حسيت بيها أنت؟

نزار: جداً، نحن أتعبنا الموجي، كما أنك حبسته في المينا هاوس مدة شهر، حقيقة هو كان بحاجة الحبس لأنه إنسان كان يجب أن ينضبط، والحمد لله نتيجة الانضباط طلع مع الموجي أشياء عظيمة جدا، وأعتقد أن هذا العمل متكامل.

التزاوج السعيد بين الشعر والغناء

في كتاب "آخر كلمات نزار" لعرفان نظام الدين، يسأل عرفان نزار عن المستفيد من التزاوج السعيد بين الشعر والغناء؟ فيرد نزار: أنا أملك أذناً موسيقيّة وأهرب من الصوت النشاز (سفر سنة)، وفي بعض الأحيان أنظم قصيدة عندما استمع إليه، فقد جربت في بداياتي العزف على عدّة آلات موسيقيّة كالعود والبيان، كنت أغنّي وأحلم كمعظم المراهقين بأن أصبح يوماً ما مشهوراً، وأن صوتي حلو، وما زلت حتى الآن أدندن بعض الأغاني (قالها وهو يضحك)، لكنّي اخترت الشعر طريقاً ومهنة واحترافاً، ورغم أن الكل يعرف أنّ المطرب هو المستفيد الأول من الشعر الجيد، لكنّي أعترف أن شعري حقق انتشاراً أوسع لي عندما غناه مطربون كبار كأم كلثوم وعبدالحليم ونجاة في مرحلة أولى، ثم ماجدة الرومي وكاظم الساهر في الآونة الأخيرة، فنحن الآن في عصر السرعة وعصر البث عبر الأقمار الصناعيّة والفيديو كليب، لا عصر الكتاب بكل أسف، صحيح أنّ الموسيقار عبدالوهّاب خلّد أحمد شوقي في أغنياته، لكن لولا شوقي لما وصل إلى ما وصل إليه، فلو قدّم عبدالوهّاب مثلاً أغنيات كـ "الطشت قلّي" لما خلّد أحداً، ولكان وقع في الطّشت هو وشاعره المجهول، تعاملت مع الكثيرين لكن عبدالوهّاب سيدهم.

رأيته شاباً وسيماً رقيقاً مثل نبلاء العصور الوسطى... شاعر حتى في مفردات حديثه العادي نجاة الصغيرة

عبدالحليم يفوز في معركته مع نجاة لغناء «رسالة من تحت الماء»

عبدالحليم اختار قصيدتين لنزار وطلب من الملحن المصري المعروف محمد الموجي تلحينهما

العندليب الأسمر أجرى 38 اتصالاً بنزار للتعديل على "قارئة الفنجان"

نجاة غنت "أسألك الرحيل" 1990 وكانت آخر ألحان عبدالوهاب لها واستغرق تلحينها 3 سنوات تقريباً

تم حبس الموجي مدة شهر في فندق «المينا هاوس» لتلحين «قارئة الفنجان»
back to top