نزار قباني ... رفضه والد بلقيس فحرَّك مشاعر العراقيين معه وتزوجها بأمر الرئيس البكر (7-15)

الشاعر المتمرّد الحالم العاشق المتوحّد باللغة

نشر في 01-05-2020
آخر تحديث 01-05-2020 | 00:05
يتابع نزار حياته ومسيرته الشعرية بعد نكسة يونيو وهوامشها، وقد أصبح شاعر الحب والوطنية أيضاً، في مرحلة جديدة لم تكن تشبه ما قبلها؛ وهو يعلق على هذا فيقول «الناس يعرفونني عاشقاً كبيراً... ولا يريدون أن يعرفوني غاضباً كبيراً. يعرفون وجه العملة الأمامي، ولا يهتمون بوجهها الخلفي. يقبلون نزار قباني قبل 5 حزيران، ويرفضون نزار قباني بعد 5 حزيران... يضعونني في زجاجة الحب ويختمونها بالشمع الأحمر... هذا تحديد ساذج للحب، وتحديد ساذج لي؛ فالذي يحب امرأة يحب وطناً، والذي يحب وجهاً جميلاً يحب العالم».
في الحقبة البيروتية من حياة شاعرنا، وتحديداً في عام 1968 أصدر نزار قباني ديوان "يوميات امرأة لا مبالية"، وفيه قصيدتان "رسالة إلى رجل ما- يوميات امرأة لا مبالية". يقول في قصيدة "رسالة إلى رجل ما":

يا سيدي

أخاف أن أقول ما لدي من أشياء

اقرأ أيضا

أخاف لو فعلتُ أن تحترق السماء

فشرقكم يا سيدي العزيز

يصادر الرسائل الزرقاء

يصادر الأحلام من خزائن النساء

يستعمل السكين

والساطور

كي يخاطب النساء

ويذبح الربيع والأشواق

والضفائر السوداء..

أعطت بيروت لنزار كل ما كان بحاجة إليه من الانتشار والإعجاب، وفتحت له أبواب الشعر على مصاريعها، كما أنها كانت محطة الاستقرار العاطفي والزوجي، فبعد سبع سنوات من الحب بينه وبين الشابة العراقية بلقيس الراوي، تزوجها كما قالت نجود الراوي أخت بلقيس.

وبلقيس الراوي (مواليد 24 مارس 1939) دبلوماسية عراقية، ولدت بمدينة الأعظمية على ضفاف نهر دجلة، ولها شقيق واحد، تعود أصولها لعائلة الراوي من مدينة رواة في محافظة الأنبار في العراق... والدها جميل الراوي مؤسس الحركة الكشفية في العراق. أنهت بلقيس دراستها الثانوية، وعينتها وزارة المعارف كاتبة في إدارة المدارس الثانوية، وبدأت العمل بمدرسة متوسطة للبنات، وهناك كانت التقت نزار للمرة الأولى ضمن فعالية أقيمت في المدرسة.

وعلق القباني على العلاقة التي جمعته ببلقيس في إحدى أمسياته في بغداد قائلاً: في عام 1969 جئت إلى بغداد لألقي قصيدة، وبعد قراءة قصيدتي التقيت بقصيدة ثانية اسمها بلقيس وتزوجتها. إلا أن لقاء نزار بها كان منذ عام 1962 حيث تعرف عليها وطلبها للزواج، لكن والدها رفض، مبررا ذلك بأن نزار ليس عراقيا من جهة، ومن جهة أخرى لأنه شاعر، بل شاعر "صوفته حمراء"، فقوبل نزار بالرفض دون نقاش، وظلت علاقة بلقيس به كما هي. ورفضت الزواج من أي شخص آخر إلى أن عاد نزار مجددا إلى بغداد وشارك في مهرجان شعري، ملمحا في إحدى قصائده لعلاقته بالفتاة العراقية، مما أثار حديث الناس. وقرر نزار التقدم لخطبة حبيبته مجددا، فدخل معه سبعة سفراء عرب أصدقاء له إلى الأعظمية مع سياراتهم الدبلوماسية (وتقول مصادر أخرى أن نزار عندما عاد الى مهرجان المربد الشعري في العراق، بعد المرة الأولى، وكتب قصيدة مطلعها:

مرحبا يا عراق جئت أغنيك

وبعض من الغناء بكاء

مرحبا مرحبا... أتعرف وجها

حفرته الأيام والأنواء؟

أكل الحزن من حشاشة قلبي

والبقايا تقاسمتها النساء

كل أحبابي القدامى نسوني

لا نوار تجيب أو عفراء

فالشفاه المطيبات رماد

وخيام الهوى رماها الهواء

أنا جرح يمشي على قدميه

وخيولي قد هدها الإعياء

أين وجه في الأعظمية حلو

لو رأته تغار منه السماء

ليتعاطف معه العراقيون وقتها، ومنهم الرئيس العراقي الراحل محمد حسن البكر، فتوسط لنزار عند والدها وأرسل وزير الشباب شفيق الكمالي ووكيل وزارة الخارجية شاذل طاقة، وكلاهما شاعران، مما أثار جدلا في الحي الذي تعيش فيه بلقيس، كما أحرج والدها فوافق على هذا الزواج، لمعرفته ويقينه أن ابنته سترفض أي زواج آخر طوال حياتها.

بلقيس لم تتدخل بين نزار وشعره، تاركة اهتمام نزار الأول بشعره، ومقتنعة بوجودها ثانيا في حياته بعد الشعر، إلا أن هذا التفهم جعل نزار يضعها أولى أولويات حياته، كما كانت تنسحب عندما تحيط به المعجبات وتنتظره لفترات طويلة خارج المكان الذي يلقي به شعره، كما حدث في قاعة الأونسكو، وتقول هدباء التي عاشت فترة من حياتها مع بلقيس: لم تكن تحاول رؤية أوراقه، وعندما كان يأتيه هاتف من معجبين كانت تناديه وتخرج من الغرفة، وكان نزار يسألها أحيانا أن تقرأ شعره قبل نشره، فترفض وتقرأه منشورا. وبقيت بلقيس بجانبه، وكانت دعما له في وفاة ابنه توفيق، ووفاة والدته؛ تؤازره في كل ظروفه.

حياتنا تغيرت بوجود بلقيس إلى الأجمل، خصوصا بعد ولادة زينب وعمر. كان لبلقيس كرم واندفاع العراقيين، وساعدت أبي في الخروج من عزلته، وعندما كان والدي يدعو الشاعر الكبير محمود درويش على الغداء، وكان يحب القيلولة بعده مباشرة فيستأذن، ويأخذ درويش قهوته مع بلقيس والأولاد، وقد قال درويش عنها مرة: "كانت صديقتي". لأنها كانت تحل أحياناً محل أبي بضيافتها، درويش كان يحب أولادها كثيراً. وأذكر (تقول هدباء) عندما خرج درويش من فلسطين إلى القاهرة فبيروت، احتضنه أبي وساعده على أخذ حقوقه من دور نشر كانت تنشر له شعره دون إعطائه حقوقه، بسبب وجوده في فلسطين المحتلة، فأخذه الى أصحاب الدور وقال لهم: الآن سوف تدفعون له حقوقه. كان أبي ينظر إليه كابن له، ودرويش ينظر إليه كأب.

وهنا نضيف أن الشاعر محمود درويش تزوج من رنا قباني، وهي ابنة أخي شاعرنا الكبير.

نزار وبلقيس يجوبان العواصم

تنقل نزار قباني وبلقيس زوجته بين العواصم العربية والعالمية، ويقول معظم النقاد إن أكبر ثمرة نتجت عن زواجه هي مجموعة من القصائد الشعرية التي أُلهم بها نزار آنذاك وبقيت خالدة يرددها العشاق وتغنت بها حناجر أهم المطربين العرب مثل عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وكاظم الساهر ولطيفة وغيرهم، وسنتحدث لاحقا عنها.

إلا أن القصيدة الأكثر شهرة، والتي غناها الفنان العراقي كاظم الساهر، وكانت معبرة عن مشاعر نزار قباني تجاه حبيبته وزوجته بلقيس، والتي كتبها بمناسبة مرور عشر سنوات على زواجهما هي قصيدة "أشهد أن لا امرأة إلا أنت"، والتي صدرت في ديوان يحمل اسم القصيدة نفسها عام 1979، ويقول فيها:

أشهد أن لا امرأة

أتقنت اللعبة إلا أنت..

واحتملت حماقتي عشرة أعوام كما احتملت

واصطبرت على جنوني مثلما صبرت..

وقلمت أظافري

ورتبت دفاتري

وأدخلتني روضة الأطفال..

إلا أنت

أشهد أن لا امرأة تشبهني

كصورة زيتية

في الفكر والسلوك، إلا أنت..

والعقل والجنون، إلا أنت

والملل السريع.. والتعلق السريع.. إلا أنت

أشهد أن لا امرأة..

قد أخذت من اهتمامي نصف ما أخذت..

واستعمرتني مثلما فعلت..

وحررتني مثلما فعلت..

أشهد أن لا امرأة

تحررت من حكم أهل الكهف.. إلا أنت

وكسرت أصنامهم.. وبددت أوهامهم..

وأسقطت سلطة أهل الكهف.. إلا أنت..

أشهد أن لا امرأة

استقبلت بصدرها خناجر القبيلة..

واعتبرت حبي لها.. خلاصة الفضيلة..

أشهد أن لا امرأة..

تمكنت أن ترفع الحب إلى مرتبة الصلاة..

إلا أنت..

ومع بداية الثمانينيات استقر نزار وبلقيس في العاصمة اللبنانية بيروت، التي كان نزار يطلق عليها "ست الدنيا" لأنها كانت تجمع المثقفين فيها آنذاك، لما فيها من حرية يبحث عنها المبدعون العرب لنشر ما يريدون دون قيود.

كانت بلقيس في تلك الفترة تعمل في السفارة العراقية في لبنان، ويعتبر منزلها بمثابة القاعة الثقافية والأدبية، كالذي كان عليه مكتب نزار في شارع الحمراء وسط بيروت، وفي الخامس عشر من ديسمبر عام 1981 هز انفجار عنيف وسط العاصمة اللبنانية، وهز معه قلب نزار، عندما استهدفت سيارة مفخخة مبنى السفارة العراقية وسوته بالأرض. وكان ضحية التفجير أكثر من ستين شخصاً من بينهم بلقيس الراوي، زوجة وحبيبة نزار قباني.

ويصف القباني هذه اللحظة قائلا: كنت في مكتبي في شارع الحمراء حين سمعت صوت انفجار زلزلني من الوريد إلى الوريد، ولا أدري كيف نطقت ساعتها: يا ساتر يا رب. ثم جاء من ينعى إلي الخبر؛ السفارة العراقية نسفوها... قلت بتلقائية: بلقيس راحت... شظايا الكلمات مازالت في جسدي، أحسست أن بلقيس سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد، وتتركني في بيروت ومن حولي بقايا، كانت بلقيس واحة حياتي وملاذي وهويتي وأقلامي.

وتقول هدباء ابنة نزار عن وفاة بلقيس الراوي: كانت وفاتها مأساة كبيرة تركت أثرا كبيرا عليه. حقيقة لقد خربت وفاتها بيتنا، إضافة إلى ما كان يمر به لبنان من حرب أهلية. لقد خسر أبي زوجته ومدينته، وتشرد طفلاه زينب وعمر. أبي ترك بيروت بعد رحيل بلقيس بسنة. حاول الصمود، لكن أمر البقاء انتهى لاحقا بالنسبة إليه.

كان لابد لرحيل بلقيس أن يترك في قلب نزار وشعره أثراً كبيراً، كما كان واضحا منذ البداية كيف أن حبها في قلبه ترجم إلى قصائد في منتهى الروعة، ليكتب بعدها أطول قصيدة في حياته (1981) يرثيها فيها وظلت القصيدة حاضرة وخالدة ومتداولة بقوة كبيرة حيث عنونها القباني باسم "بلقيس"، ويقول فيها:

شكراً لكم..

شكراً لكم..

فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم

أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة

وقصيدتي اغتيلت..

وهل من أمة في الأرض..

إلا نحن تغتال القصيدة؟

بلقيس..

كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل

بلقيس..

كانت أطول النخلات في أرض العراق

كانت إذا تمشي..

ترافقها طواويس..

وتتبعها أيائل..

بلقيس.. يا وجعي..

ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل

هل يا ترى..

من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟

يا نينوى الخضراء..

يا غجريتي الشقراء..

يا أمواج دجلة..

تلبس في الربيع بساقها

أحلى الخلاخل..

قتلوك يا بلقيس..

أية أمة عربية..

تلك التي

تغتال أصوات البلابل؟

أين السموأل؟

والمهلهل؟

والغطاريف الأوائل؟

قسما بعينيك اللتين إليهما

تأوي ملايين الكواكب..

سأقول يا قمري عن العرب العجائب

فهل البطولة كِذْبة عربية؟

أم مثلنا التاريخ كاذب؟

بلقيس لا تتغيبي عني

فإن الشمس بعدك

لا تضيء على السواحل

بلقيس

يا بلقيس

يا بلقيس

كل غمامة تبكي عليك..

فمن ترى يبكي عليّا..

بلقيس.. كيف رحلت صامتة

ولم تضعي يديك... على يديّا؟

نامي بحفظ الله.. أيتها الجميلة

فالشعر بعدك مستحيل

والأنوثة مستحيلة

وتنتهي هذه المرحلة من حياة نزار قباني بهذه الحادثة المفجعة، التي تركت آثارها في قصائده، لتبدأ مرحلة جديدة من الشعر والسفر.

بلقيس وعرفات وثورة فلسطين

نقف هنا أمام ما يروى عن قصة بلقيس وعلاقتها بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فالباحث في بعض وسائل الإعلام العربية، ومنها الفلسطينية على وجه الخصوص، يجد الكثير مما نقله نزار عن هذه العلاقة، ومما يذكر: "قصص كثيرة لم أكن أعلمها إلا بعد رحيلها، ومنها قصتها مع ياسر عرفات، ففي يوم التفجير أتى ياسر عرفات فجأة إلى المكان، وبدا الحزن واضحاً عليه، وهو يبحث عن بلقيس ويسأل: أين أنت يا بلقيس؟ أين أنت يا ابنتي. لتأخذ الأفكار بنزار ويسأل: هل من الممكن أن تكون زوجته العراقية التي التقاها قبل اثني عشر عاما هي ابنة ياسر عرفات، وهو لا يعلم أن لعرفات ابنة.

بعد خمسة عشرة يوماً، بقيت فيها بلقيس تحت الأنقاض، والزعيم الفلسطيني يبحث عنها مع الباحثين، وذهب لوالدتها ليواسيها. بعد أن تمت مراسم الجنازة، تحدث الرئيس عرفات إلى نزار عن السر الذي تخفيه عنه بلقيس (لم تعرف جثة بلقيس إلا من خلال الخاتم في يدها المحفور عليه اسم نزار قباني).

ويروي نزار عن هذا السر فيقول: عندما رجعنا من الجنازة لمكتب أبي عمار، بدأ اللغز ينكشف، قال: في عام 1968، وكنا خارجين من معركة الكرامة، جاءتني في الأردن فتاة عراقية فارعة الطول، تجر وراءها ضفيرتين ذهبيتين، وطلبت مع زميلاتها تدريبهن على حمل السلاح وقبولهن مقاتلات في صفوف الثورة الفلسطينية، وبالفعل أعطينا الفتيات العراقيات، ومن بينهن بلقيس، بنادق، وأخذناهن إلى ساحة الرمي، حيث تعلمن إطلاق الرصاص، وأساليب القتال.

وأضاف: بعد أن دارت الأيام وانتقل النضال إلى لبنان، كُتب لبلقيس أن تعمل في السفارة العراقية في بيروت، وفي أحد الأيام كان عرفات مدعوا للعشاء عند أحد أصدقائه، فصادف بلقيس تدخل، فصافحته بحماسة.

تم تشييع جثمان بلقيس كمناضلة فلسطينية، ودفنت إلى جانب الشهداء الفلسطينيين، وتم لفها بالعلمين العراقي والفلسطيني، تكريماً لها ولمواقفها النضالية.

وختم عرفات القول: بلقيس الراوي لم تكن زوجتك فقط يا نزار، بقدر ما كانت ابنة الثورة الفلسطينية.

بعد سبع سنوات من الحب بين نزار والشابة العراقية بلقيس الراوي تزوجها واستقرا معاً في بيروت

بلقيس رفضت الزواج من أي شخص آخر حتى عاد نزار مجدداً إلى بغداد وشارك في مهرجان شعري

بلقيس الزوجة لم تتدخل بين نزار وشعره تاركة اهتمامه الأول بشعره ومقتنعة بوجودها ثانياً في حياته

نزار كتب أطول قصيدة في حياته «بلقيس» يرثي فيها زوجته وظلت القصيدة خالدة ومتداولة بقوة كبيرة

عندما استهدفت سيارة مفخخة مبنى السفارة العراقية بلبنان وسوته بالأرض اهتز قلب نزار
back to top