محمود عبدالعزيز... ساحر السينما المصرية (1-10)

ممثل فرقة كلية الزراعة يبيع الجرائد في شوارع فيينا

نشر في 30-04-2020
آخر تحديث 30-04-2020 | 00:15
حلَّق النجم المصري محمود عبدالعزيز في فضاء التمثيل، وانطلق من مسرح الهواة إلى آفاق الشهرة والنجومية، وسطر تاريخه الفني بأروع الأعمال السينمائية والدرامية، وتمرد «الجان» على أدوار الفتى الوسيم، وترك بصمة متفردة في الأداء التراجيدي والكوميدي، ونال ثناء النقاد والجمهور، وظل «الساحر» متربعاً على عرش القلوب خلال رحلة قاربت نصف قرن من الإبداع المتميز.
ارتحل الشاب محمود عبدالعزيز إلى النمسا في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وعمل بائعاً للصحف والمجلات في أحد شوارع فيينا، بينما تملكه الحنين إلى أجواء حي «الورديان» مسقط رأسه في مدينة الإسكندرية الساحلية (شمال غربي القاهرة)، والدفء الأسري في منزل والده، وشعر بالأسى على حاله في غربة موحشة، وقد تهاوت أحلامه في احتراف التمثيل، وبات في مفترق طرق، ومتاهة لا يعرف متى سيخرج منها.

القصة بدأت عندما اتجه الطالب الجامعي إلى التمثيل، وقدّم بعض الأدوار على خشبة مسرح الجامعة، وعلى الرغم من تفوقه العلمي في كلية الزراعة التي التحق بها وحصوله على الماجستير في تربية النحل، كان يعشق الفن ورفض العمل معيداً بالكلية، كما التحق بفرقة الكلية الفنية، وكان يقدم أدواراً لفتت إليه الأنظار، وتوقع الكثيرون له مستقبلاً باهراً في عالم الفن لموهبته المتفردة.

واللافت في تلك الفترة أن بعض النجوم، تخرجوا في كلية الزراعة، سواء في جامعة القاهرة أو الإسكندرية، وسبقوا عبدالعزيز إلى احتراف الفن، وجرفهم عشق التمثيل إلى تثبيت أقدامهم في ساحة لا تعترف إلا بالمواهب الحقيقية، ومن هنا كانت رحلة الفتى الوسيم مليئة بالمتاعب، وكانت سنوات ما قبل الشهرة والنجاح تراجيديا حافلة بالمواقف المؤلمة.

وفي مقابلة صحافية، قال عبدالعزيز: «أذكر أن هذه الكلية (الزراعة) دعمت الفن بعدد كبير جداً من أبرز الفنانين قديماً وحديثاً، مثل عادل إمام وصلاح السعدني وسعيد صالح وسمير غانم وجورج سيدهم والمنتصر بالله، وعشرات غيرهم، ولا نعرف سر العلاقة بين الفن والزراعة».

وتلقى الممثل الشاب صدمة موجعة في بداية حياته الفنية، ووقتها منحه المخرج نور الدمرداش فرصة العمل مع فريق الإخراج، وكان معه زميله في كلية الزراعة المخرج محمد فاضل، والأخير جاءته فرصة للإخراج منفرداً، وذات يوم توجه عبدالعزيز لمقابلته في مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» وكان فاضل يخرج أول مسلسلاته، وقال له: «أنا انتهيت من دراستي الجامعية، وأريد أن أمثل؟»، وكان رد فاضل صادماً وغريباً، إذ قال له إنه لا يصلح للتمثيل، ولن يستطيع أن يجد له دوراً في أيّ عمل، بل وأوصى مساعده بإغلاق باب الاستوديو وعدم السماح للممثل الشاب بالدخول!

أصاب الذهول محمود عبدالعزيز، وغادر مبنى «ماسبيرو» واختلطت مشاهد مسرحيتين شارك فيهما وأخرجهما فاضل على مسرح جامعة الإسكندرية، وعملهما مع المخرج نور الدمرداش والمشهد الصادم الذي ظل عالقاً بذاكرته، وربما كان سبباً في عدم التعاون الفني بينهما لاحقاً، ودفع النجم السينمائي إلى بطولة مسلسلات درامية لمخرجين آخرين، وحققت نجاحاً هائلاً مثل «رأفت الهجان» للكاتب صالح مرسي والمخرج يحيى العلمي، و«البشاير» تأليف وحيد حامد وإخراج سمير سيف، و«محمود المصري» تأليف مدحت العدل وإخراج مجدي أبوعميرة.

وتراكمت الأزمات على الممثل الشاب، عندما ترك عمله كمعيد في معهد البحوث الزراعية، وقامر بوظيفة مرموقة، ورفض والده أن يكون ابنه ممثلاً، وبات شبه مطرود من منزل الأسرة، وساءت العلاقة بينهما في تلك الفترة، وفقد آخر طوق للنجاة، وانطفأ بريق الأمل في داخله، وأوصدت في وجهه كل الأبواب.

«الشيطان»... عاشق التمثيل

وُلد الفنان الراحل في 4 يونيو عام 1946 في حي «الورديان» (غربي الإسكندرية)، لأسرة مصرية متوسطة الحال، وتعلَّم في مدارس الحي حتى وصل إلى مرحلة الثانوية العامة في عام 1962، وفي تلك الفترة كان يقلد الممثلين، واشتُهر في المدرسة أيضاً بالتقليد والسخرية، وكان الأساتذة يضحكون من أسلوبه وذات مرة أعلن مُعلم الموسيقى عن قيام المدرسة بإعداد مسرحية، وأسند إليه دور (الشيطان) فقلده محمد عبدالعزيز بطريقة ساخرة، كما قلد زملاءه في الفصل، فأصبح نجم الحفلات المدرسية، ومن هنا زادت شهرته في المدرسة، وحينما كبر زادت موهبته وكبر بداخله حب الفن، وتعرَّف في الإسكندرية إلى كبار المخرجين هناك، مثل سعد أردش ومحمد فاضل ونصحوه بضرورة الحضور إلى القاهرة.

ويكشف حوار صحافي قديم أجري مع عبدالعزيز كيف أن والده كان رافضاً اتجاه ابنه إلى عالم التمثيل، حيث قال الفنان في الحوار: «والدي كان حازماً جداً وكان يعاملني بشدة خوفاً على مستقبلي ولم أكن أملك أن أعصي له أمراً، ومن هنا حينما أصرّ على إلحاقي بكلية الزراعة (تخصُص نحل) عقب حصولي على الثانوية العامة لم أستطع عصيانه، رغم أنني كنت أحلم وأتمنى دخول معهد السينما، وأذكر أن أول يوم لدخولي الجامعة توجهت لأسأل عن فريق التمثيل هناك والتحقت به وأصبحت نجم الفريق».

وتابع: «وبعد أن استجبت لوالدي ورضخت لأوامره التحقت بكلية الزراعة، وتخرجت فيها، ولكنني لم أستطع العمل في هذا المجال سوى لفترة وجيزة، ولم أستطع مقاومة أحلامي وطموحاتي، فكنت دائم التردد على القاهرة وأحرص على لقاء عددٍ كبير من النجوم والنجمات وحضور جلساتهم والتعرف إلى الحياة الفنية بشكل عام وتقديم نفسي للمخرجين».

وعن نصائح والده له بعد الشهرة والنجومية، قال إن والده طلب منه أن يراعي الله في تصرفاته وأعماله وألا يؤدي دوراً أو عملاً يسيء إلى سمعة العائلة، كما حذره والده من النساء وطالبه بالزواج مبكراً حرصاً عليه.

العودة إلى الدوامة

تملك الغضب من الشاب الموهوب، ودفعه الشعور بالفشل للسفر إلى النمسا عام 1971، وتحول المعيد السابق بمعهد البحوث الزراعية في مصر إلى بائع صحف في شوارع فيينا، وعاش هناك عاماً كاملاً، حتى هدأ تماماً وأيقن أن الصدمة التي تعرَّض لها ليست نهاية الطريق، واعتبر فترة الغربة عن الوطن، فرصة لإعادة التفكير فيما سبق، واختباراً لصلابته في مواجهة الأزمات، وأن أمامه مشوارا طويلا لتحقيق أحلامه الفنية.

وعاد عبدالعزيز من النمسا، واستأنف عمله في فريق الإخراج مع المخرج نور الدمرداش، وكان الأخير رائداً للمسلسلات الدرامية، ومكتشفاً للعديد من النجوم في أعماله، وقد شعر بحسه الفني العالي أن هذا الشاب من الممكن أن يصبح نجماً أمام الكاميرا، فأشركه في مسلسل «كلاب الحراسة» عام 1972 في دور صغير تقاضى عنه أربعة جنيهات فقط، ليقف للمرة الأولى أمام النجوم عبدالرحمن أبوزهرة وحياة قنديل ومشيرة إسماعيل وميمي جمال.

وهكذا كانت بداية الفنان محمود عبدالعزيز الحقيقية مع (كلاب الحراسة) أما دراسته في كلية الزراعة فلم تكن من بين أحلامه أو حتى حساباته بعد أن حصل على شهادة الثانوية العامة، وكانت كل رغباته إما الطب أو التمثيل، والأخيرة لم ترق لوالده، ولم يكن بإمكانه الالتحاق بكلية الطب بسبب ضعف الدرجات، فذهب به مكتب التنسيق إلى كلية الزراعة في الإسكندرية، لكن ظلت هواية التمثيل تلازمه، وعندما شاهد مسرح الكلية طار من الفرحة، وعلم أن للكلية فرقة مسرحية متميزة فتعلق بالكلية من أجل الفرقة.

وفي السنة الثالثة تخصص عبدالعزيز في قسم الحشرات، وبعد التخرج شعر أن مستقبله في القاهرة، وحلم بمشاهدة استوديوهات السينما، ورفضت أسرته ترك الإسكندرية، فتقدم بطلب هجرة إلى أميركا، وعارضت الأسرة تماماً فكرة هجرته، فقد كانت أسرة ميسورة الحال، وفجأة وافق والده على سفره إلى أوروبا، وبالفعل سافر مع أحد أصدقائه على متن سفينة اسمها «الجزائر»، وكانت درجة الحرارة تحت الصفر وعمل هناك بائعاً للصحف، لكنه في النهاية قرر العودة إلى الإسكندرية.

وفي تلك الفترة كانت فرقة الكلية يتولاها المخرج نور الدمرداش، فقدم عبدالعزيز كمساعد مخرج معه في رواية «سيقان في الوحل»، وهو الذي طلبه أيضاً في مسلسل «كلاب الحراسة» ليقدم دور رجل مخابرات مصري نظير مبلغ 4 جنيهات في الحلقة، وبعد هذا المسلسل رفض نور الدمرداش قيده في أي مسلسل، وكان مدير عام التمثيليات بالتلفزيون، ولما سأله قال له: «يوجد في التلفزيون أكثر من 5700 ممثل، ولا أريدك أن تصبح الممثل رقم 5701 وفقط، فأنت تملك إمكانيات نجم كبير، واسماً معروفاً فلا تتعجل الأمور».

وكانت اللحظة الفارقة التي غيرت مسار حياته حين رشحه نور الدمرداش في مسلسل «الدوامة»، قصة إبراهيم الورداني، ولعب دور الصحافي «إبراهيم» أمام محمود يس ونيللي ونادية الجندي ويوسف فخرالدين، ونجح المسلسل لدى عرضه في شهر رمضان وقتذاك، وتدور أحداثه حول الدكتور محمود الذي يعيش حياة رتيبة مليئة بالوحدة، ويحاول أصدقاؤه إقناعه أن يبحث عن الحب والزواج، ولكن سرعان ما تنقلب الأمور ويقع محمود في دوامة كبيرة لا يدرك لها نهاية.

وبعد نجاح «الدوامة» بقي الحلم أن يطرق الممثل الشاب أبواب السينما، وأن يكتشفه المنتج المعروف رمسيس نجيب، وفي نوفمبر عام 1974 وعن طريق صديق لوالده كان شقيقاً للمنتج محمد فرج، قدّم عبدالعزيز دوراً صغيراً في فيلم «الحفيد» للمخرج عاطف سالم مع نور الشريف وميرفت أمين ومنى جبر وعبدالمنعم مدبولي وكريمة مختار، وهو الجزء الثاني من فيلم «أم العروسة» للكاتب عبدالحميد جودة السحّار، وتدور أحداثه في إطار كوميدي حول أسرة تتكون من سبعة أبناء، ويستعرض الفيلم الصعوبات التي يلاقيها الأهل في تحمل أعباء أولادهم.

وعرض «الحفيد» للمرة الأولى في مارس عام 1975، وحقق نجاحاً كبيراً، ويعد الفيلم أحد كلاسيكيات السينما المصرية. وفي نفس العام طلب المنتج رمسيس نجيب مقابلة عبدالعزيز، وفي مكتبه التقى المصوِّر الشهير وحيد فريد ووقع الاختيار الممثل الشاب لبطولة فيلم «حتى آخر العمر» مقابل 400 جنيه، فكانت البداية الحقيقية له في السينما.

لقاء مؤثر بين «الساحر» ووالده بعد خصام طويل

تحدث النجم الراحل محمود عبدالعزيز في لقاءات صحافية عن سر خلافه مع والده من أجل الفن، وقال: «حدثت مشاكل وأزمات شديدة في البداية، ولم أكن أجرؤ على مواجهته وتركت المنزل أياماً عديدة، فلم يكن الطريق أمامي مفروشاً بالورد، فقد ذقت المر وعانيت كثيراً في شوارع القاهرة التي لم أعرفها ولا أعرف أي إنسان فيها، وكنت أنام في الفنادق البسيطة ومنازل الزملاء، وكثيراً كنت لا أملك ثمن وجبة الطعام حتى استقر بي الأمر مع ابن خالي الذي كان يعمل ضابطاً بالقوات المسلحة وأقمت معه في شقته بمنطقة المنيل».

وأضاف: «في هذه الشقة كان يقيم أكثر من 50 شخصاً ليسهموا معاً في الإيجار، وهكذا تضاعفت متاعبي في المدينة الغريبة عني، ولم أجرؤ على العودة إلى أبي في الإسكندرية إلا بعد نجاحي وبداية شهرتي التي بدأ الجيران يتحدثون لأمي وأخوتي عنها، وسعوا لتذليل المشاكل والعقبات مع أبي».

وتطرق «الساحر» إلى أول لقاء مع والده بعد النجومية، بقوله: «كان لقاءً مؤثراً جداً، فقد احتضنني بقوة وتساقطت الدموع من عيني، ولا أنسى حين قال لي: (ربنا يوفقك يا ابني في الطريق الصعب الذي اخترته لنفسك)، وراح يسدي لي الكثير من النصائح، وعملت بها إلى أقصى درجة من الممكن أن يتخيلها أي إنسان، فنصائحه أذكرها دائماً وأعمل بها وأبتعد عن أي خطأ بالتقرب من الله والحرص على الصلاة».

سر الصدام بين الممثل الشاب وصديقه المخرج في مبنى «ماسبيرو»

نجم الحفلات المدرسية يلعب دور «الشيطان» بطريقة كوميدية

مخرج «كلاب الحراسة» يمنحه أول أدواره بأجر أربعة جنيهات

«الدوامة» تلفت أنظار منتج كبير إلى موهبة «الصحافي إبراهيم»
back to top