تحية كاريوكا... نجمة حائرة بين الفن والسياسة وسجن النساء

أصعب 100 يوم في حياة راقصة اتهمت بالانضمام لمنظمة محظورة

نشر في 27-04-2020
آخر تحديث 27-04-2020 | 00:04
تعرَّضت الفنانة تحية كاريوكا إلى أصعب تجربة في حياتها خلال عام 1953، عندما قضت مئة يوم خلف القضبان، بتهمة الانضمام إلى منظمة محظورة، ووقتها انشغل الرأي العام بمتابعة قضية أيقونة الفن الاستعراضي، والتي بلغت قمة الشهرة والنجومية في خمسينيات القرن الماضي، وأثارت الإعجاب بمواقفها الوطنية ضد الاستعمار الإنكليزي لمصر، ولم تعد السجينة السياسية مجرد راقصة جميلة ذات قوام ممشوق ونظرات ساحرة.
تتابعت حياة الفتاة "بدوية النيداني" أو تحية كاريوكا كشريط سينمائي مدته 80 عاماً، بدأ بمولدها في مدينة الإسماعيلية (شمال شرق القاهرة) في 22 فبراير 1919، وتعلقت في طفولتها بالغناء والتمثيل، وكشفت عن مواهبها في الرقص، واضطرت للسفر إلى القاهرة هرباً من تعذيب شقيقها الأكبر الذي جعل منها خادمة في بيته لزوجته "‏المالطية‏"، وفي شارع عمادالدين بالقاهرة تعرفت على الراقصة سعاد محاسن، وبعد سفر الأخيرة إلى الشام، انضمت "بدوية" إلى فرقة بديعة مصابني التي خلعت عليها اسم "تحية".

وظلت الراقصة الصغيرة أسيرة "صالة بديعة"، حتى نهاية الثلاثينيات، وذاعت شهرتها عندما قدمت رقصة "الكاريوكا" العالمية ولازمت اسمها خلال مشوارها الفني، وانطلقت الفنانة الشابة إلى عالم السينما، وظهرت لأول مرة على الشاشة في عام 1937 من خلال دور صغير في فيلم "وراء الستار" مع المطربة رجاء عبده والمطرب عبدالغني السيد، ولفتت الأنظار إلى موهبتها، ما جعل الفنان سليمان بك نجيب يساعدها في تثبيت أقدامهما كممثلة متميزة، وظلت تدين له بالفضل لتنمية ثقافتها، وإجادتها فن التمثيل.

اقرأ أيضا

تل كاريوكا

انطلقت كاريوكا إلى أدوار البطولة السينمائية، وقدمت العديد من الأفلام خلال فترتي الأربعينيات والخمسينيات، ومن أبرزها "لعبة الست" 1946 مع نجم الكوميديا نجيب الريحاني وماري منيب وعبدالفتاح القصري وعزيز أباظة، وبلغت قمة أدائها التمثيلي في عام 1956 من خلال دورها في فيلمي "سمارة" و"شباب امرأة" وفي ذلك الوقت حقق العملان نجاحاً جماهيرياً هائلاً.

لاحقت الأضواء النجمة الاستعراضية، بينما أخفت وراء إطلالتها المميزة، وابتسامتها الساحرة، شخصية أخرى، قادتها إلى أصعب تجربة في حياتها، فقد كانت أشهر راقصة مصرية على الإطلاق مناضلة سياسية ووطنية وقفت قبل ثورة 1952 ضد الاستعمار الإنكليزي لمصر، وكانت لها مواقفها أيضاً التي لم تعجب نظام الثورة (ثورة 23 يوليو 1952)، فاعتقلت بتهمة الانضمام إلى منظمة "حدتو" اليسارية لمدة مائة يوم.

كانت كاريوكا على استعداد للتضحية بحياتها بسبب مواقفها الوطنية، وقبل قيام ثورة يوليو 1952 ساعدت الفدائيين على مقاومة الاحتلال الإنكليزي، وهربت لهم الأسلحة في سيارتها إلى مدينة الإسماعيلية، وقال المخرج جميل المغازي في أحد اللقاءات إن هناك منطقة في الإسماعيلية معروفة باسم "تل كاريوكا" كانت تقوم فيها تحية بتسليم الأسلحة للفدائيين.

كما ساعدت كاريوكا الرئيس الراحل أنور السادات على الهرب وخبأته في مزرعة أقاربها بالإسماعيلية، وحكت تحية عن تلك الواقعة قائلة: "أنا هربت السادات لأنهم قالوا قتلوا أمين عثمان.. قلت في داهية عقبال الباقي، وقلت لهم أنا ممكن أعمل أي حاجة".

وكانت مواقفها السياسية سبباً في تعرضها للسجن، حيث كانت تلعب دوراً سياسياً بارزاً، وأُلقي القبض عليها أكثر من مرة بسبب نشاطها السياسي السري، فقد كانت قريبة من المثقفين والسياسيين المعارضين والكُتّاب اليساريين، بل إنها انخرطت في "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" اليسارية المعروفة اختصاراً بـ "حدتو".

كانت تحية شخصية قوية، وفي بداية حياتها في صالة "بديعة مصابني" جذبها أحد أمراء أسرة محمد علي من يدها فصفعته على وجهه، وبعد انتشار الخبر أصدر الملك فاروق قراراً بحظر ذهاب أي أمير إلى هذه الأماكن، وقيل إن تحية رأت الملك فاروق مع حاشيته في أحد الملاهي الليلية، فسلمت عليه وهمست في أذنه بأن هذا المكان لا يليق بملك مصر والسودان وأن مكانه في القصر، وتوقع الموجودون أن يعاقبها الملك على جرأتها لكنه قام وانصرف بهدوء.

مذكرات المولودة

خلال الفترة التي قضتها خلف الأسوار، ظهر وجه أكثر إنسانية لتحية كاريوكا، وهو ما ذكرته ماري إيلي روزنتال، أو نائلة كامل، إحدى ناشطات اليسار المصري في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، لابنتها المخرجة التسجيلية نادية كامل، وذكرته الأخيرة في كتابها الصادر في 2018 بعنوان "المولودة"، حيث قالت إن كاريوكا كانت من الشخصيات التي أثرت فيها خلال فترة اعتقالها التي دامت خمس سنوات، وقالت روزنتال: "عندما تدخل السجن فالسجن يقف على قدم، المسجونات السياسات وغيرهن، والسجانات بكل الرتب طول النهار يحاولوا يفوتوا قدام زنزانتها أو يلمحوا شكلها من بعيد، الضباط كمان، بل مدير السجن نفسه يجئ لها في الزنزانة، من أجل السلام والترحيب بها وعرض خدماتهم وتوفير متطلباتها".

وأصبحت كاريوكا بمثابة رئيسة السجن، وكانت تحمي السجينات، وتردد في ذلك الوقت أن الفنانة السجينة، قادت حملة تمرد داخل السجن بسبب تردي أوضاع السجينات، وأنها أضربت عن الطعام، حتى زارت السجن لجنة حقوقية وتم تغيير المأمور، كما أقامت خلال فترة بقائها في السجن نشاطاً لمحو أمية السجينات.

حكاية سجن تحية كاريوكا دونها الكاتب صالح مرسي في كتابه "مذكرات كاريوكا"، حيث قال إنه في 7 نوفمبر 1953 نشرت جريدة "أخبار اليوم" خبراً بعنوان القبض على تحية كاريوكا ومصطفى كمال، وورد فيه أنه تم القبض عليها في غرفة نومها وبرفقتها مصطفى كمال بعد العثور على أوراق خطيرة ومنشورات في شقتها، لكن تحية أكدت أنها لا تعرف شيئاً عن تلك المنشورات، وألقت المسؤولية كاملة على مصطفى كمال، الذي كان متزوجاً منها عرفياً في ذلك الوقت".

وقال صالح مرسي إنه كان هناك سببان لدخول تحية كاريوكا المعتقل، السبب الأول والواضح والمباشر هو زواجها من مصطفى كمال صدقى، الذي كان واحداً من الضباط الأحرار، ثم انشق عنهم، وهاجمهم، فصار عدواً لهم، وقيل إن تحية كانت تساعده في توزيع المنشورات، التي تهاجم مجلس قيادة الثورة.

أما السبب الثاني فقيل إنها هي شخصياً تهاجم مجلس الثورة، وقالت جملة شهيرة منسوبة لها: "ذهب فاروق وجاء فواريق"، ولكن لم يعرف أحد على وجه الدقة متى قالت تحية تلك الجملة وأين قالتها، حيث سيقت ثلاث رويات مختلفة حول ذلك الأولى أنها قالت تلك الجملة في إحدى المناسبات العامة، ونقلت للضباط الأحرار، والرواية الثانية أنها قالتها وسط السجينات وانتشرت العبارة داخل المعتقل إلى أن وصل انتشارها خارجه، والرواية الثالثة أنها قالتها أثناء وقوفها على خشبة المسرح بعد ثورة 1952.

وأثناء سجن تحية كان المخرج حلمي رفلة يتردد على زيارتها وفي إحدى المرات تم إلقاء القبض عليه، وكان بصحبته الطبال الخاص بكاريوكا "سيد كراوية" وخادمة كاريويكا "سيدة" أثناء وقوفهم في الشارع المواجه لنافذة زنزانة كاريوكا وكانوا يتحدثون إليها، ووُجهت إليهم تهمة "الاتصال بإحدى السجينات من دون تصريح من إدارة السجن"، وتم احتجازهم لمدة 24 ساعة، وعند تقديمهم للمحكمة حكمت على كل منهم بغرامة قدرها جنيه، وفي اليوم التالي نشرت الصحف الخبر: "المحكمة تبرئ حلمي رفلة من تهمة محاولة تهريب الفنانة تحية كاريوكا من سجن الاستئناف".

وتردد أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قرأ الخبر في الصحف، فسأل عن سبب احتجاز تحية كاريوكا وتهمتها، وعندما علم بأمر ما هو منسوب إليها، أمر بالإفراج عنها فوراً، وخرجت بعد نحو ثلاثة أشهر أمضتها في السجن.

دموع الفرح

تتابعت ومضات آلات التصوير على وجه كاريوكا بعد الإفراج عنها، وصدر العدد 133 من مجلة "الكواكب" بتاريخ 16 فبراير 1954 يحوي ملفاً مصوراً تحت عنوان "تحية تعود إلى البيت"، وظهر محرر المجلة برفقة الفنانة فور خروجها مباشرة من السجن ورحلتها حتى الوصول إلى بيتها، وماذا فعلت في أول يوم بعد البراءة ومن الذى كان في استقبالها.

وكتبت المجلة أن كاريوكا لم تصدق خبر الإفراج عنها لأول وهلة فانهمرت الدموع من عينيها، لكنها تحولت إلى دموع فرح عندما تأكدت من صحة الخبر، وهرعت إلى منزلها لتجد في انتظارها فنانة وحيدة هي زينب صدقي، وخادمها الأمين وكراوية (الطبال الخاص بها) وزوجته وبعض صديقاتها، أما أهل الفن فلم يصل إلى سمعهم الخبر إلا متأخراً. وكانت كاريوكا على عادتها مرحة تطلق النكتة وراء النكتة وبين واحدة وأخرى تقول لزينب: "عايزة أخرج، عايزة أتفسح، يللا ناخد فلوكة (مركب صغير)، يللا نركب أتومبيل (سيارة) لغاية الهرم"، وفعلاً لم تكد تحية تستيقظ في صباح اليوم التالي حتى ارتدت ملابسها وخرجت على غير هدى ولم تعد لبيتها إلا في المساء.

الطريق إلى الحرية

ونشرت "الكواكب" صوراً لتحية كاريوكا وتسجل في لقطات متتابعة خروجها من بوابة السجن، حيث شقت طريقها إلى الحرية بين عدد كبير من جمهورها، وصورة ثانية وهي تستلقي على سريرها بملابسها قائلة: "وحشتني أوي"، وثالثة وهي تحتضن زينب صدقي، وصورة رابعة تحت عنوان "قبلة العرفان بالجميل" يطبعها خادم تحية الأمين ليشكرها على ما بذلته في المحكمة لتبرئته، وخامسة وهي تشرب سيجارة وكوباً من الشاي.

المثقفون والراقصة

بعد قرار الرئيس عبدالناصر بالإفراج عنها، استأنفت تحية نشاطها الفني، وقامت ببطولة العديد من الأفلام، واعتزلت الرقص خلال فترة الستينيات، وزاد وزنها بشكل ملحوظ، ودخلت في مرحلة أدوار الأم، والطريف أنها قامت بهذا الدور أمام أحد أزواجها السابقين وهو النجم رشدي أباظة، وذلك في فيلم "الطريق" عام 1964 وأيضاً ظهرت كأم لنجمات من مختلف الأجيال في أدوارها السينمائية، ومنهن سندريلا الشاشة سعاد حسني في فيلم "خلي بالك من زوزو" عام 1972.

وخاضت كاريوكا تجربة المسرح، عندما قدمت مع زوجها الثالث عشر الفنان فايز حلاوة، مسرحيات كوميدية، اصطلح على تسميتها "كباريه سياسي" ترتكز موضوعاتها على النقد الاجتماعي الساخر، ومنها مسرحية "روبابكيا" و"البغل في الإبريق" وتوقفت هذه التجربة في منتصف السبعينيات، وأبدت تحية لاحقاً أنها لم تكن راضية عن بعض الأعمال التي ألفها وأخرجها حلاوة، وأنها تعارضت مع قناعاتها الفكرية.

المثير أن كاريوكا توطدت علاقتها بعدد كبير من المثقفين، ومنهم المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، وقد زار تحيّة في منزلها في سنواتها الأخيرة وكتب عنها مقالاً، نشره في جريدة "الحياة" قال خلاله: "لم تكن تحيّة كاريوكا راقصة جميلة فحسب، وإنّما كانت فنانة لعبت دوراً مهيمناً في تشكيل الثقافة المصرية".

ويقول الكاتب سليمان الحكيم في كتابه "كاريوكا بين الفن والسياسة" إن إدوارد سعيد لم يكن وحده مَن وقع في غواية كاريوكا وشخصيتها الطاغية، بل سبقه عدد من المفكرين والكتاب منهم سلامة موسى ومصطفى أمين وصالح مرسي والموسيقار محمد عبدالوهاب الذي كتب عنها يقول: "إن كاريوكا حرَّرت الرقص الشرقي من تأثير الأجنبيات، مثلها في ذلك مثل سيد درويش الذي حرّر الموسيقى المصرية من تأثير الأتراك".

قبل قيام ثورة 1952 ساعدت كاريوكا الفدائيين على مقاومة الاحتلال الإنكليزي

تحية أضربت عن الطعام حتى زارت السجن لجنة حقوقية وتم تغيير المأمور

قادت حملة تمرد داخل السجن لتردي أوضاع السجينات

أُلقي القبض عليها أكثر من مرة لنشاطها السياسي السري

أقامت خلال فترة بقائها في السجن نشاطاً لمحو أمية السجينات
back to top