نزار قباني... غاص 50 عاماً في بحور اللغة والرقص مع كلماتها (1-15)

الشاعر المتمرّد الحالم العاشق المتوحّد باللغة

نشر في 24-04-2020
آخر تحديث 24-04-2020 | 00:04
نصف قرن من الزمن قدم الشاعر من حياته لأجل الشعر واهبا القصيدة كل ما يملك متمرداً حالماً عاشقاً متوحداً باللغة غائصاً في بحورها ثائراً خارجاً عن المألوف ليحفر اسمه بين كبار الشعراء العرب المعاصرين. نزار الذي قال (أنا من جعلت الشعر خبزا ساخنا، وجعلته ثمرا على الأشجار) توحد باللغة كما يتوحد عاشقان قدرهما إما أن يعيشا معاً هائمين في عالم من السحر أو يفنى أحدهما لأجل الأخر ليختار شاعرنا الغوص خمسين عاماً في بحور اللغة والرقص مع كلماتها كهندي احمر تجذر في وطنه لا تقتلعه عواصف حضارات وهمية ولا سيول العولمة ليصبح مكونا من مكونات الثقافة الجمعية لعشاق الشعر من العرب رافضا كل المحرمات الشعرية ثائرا في وجه المستحيل.
ولد الشاعر نزار توفيق قباني الذي لقبه البعض بشاعر المرأة أو شاعر الحب وهو الدبلوماسي، في 21 مارس عام 1923 في أحد أحياء مدينة دمشق القديمة (حي الشاغور -مئذنة الشحم) قريباً من وسط العاصمة المليء بالأسواق المسقوفة كالحميدية والأروام والبزورية حيث تتركز المهن العريقة ويصاحبك في تلك الأماكن روائح التوابل وأصوات الباعة إلا أن الجامع الأموي يبقى المعلم الأهم فيها. حيث كانت البيوت الدمشقية تتميز بمساحاتها الواسعة ووجود فسحة كبيرة يتوسطها بحرة ماء من الرخام محاطة بأنواع مختلفة من الشجيرات والأزهار من الياسمين إلى الليمون والنارنج والحبق والورد الشامية (الجورية) فتشارك طيور السنونو والدوري والحمام إضافة إلى القطط أصحاب المنزل ويتميز أيضا بأبوابه الخشبية الكبيرة ونوافذها الكثيرة وقرب الأسطح من بعضها فيصف نزار منزل أبيه الدمشقي قائلا: (هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر وإنما أظلم دارنا) وفي الفترة التي ولد فيها كانت حركة المقاومة ضد الانتداب الفرنسي تمتد من الأرياف السورية إلى المدن والأحياء الشعبية.

الطبقة الوسطى

كانت عائلته دمشقية عادية من الطبقة الوسطى تقليدية الهوى عريقة النسب وبارزة ثقافيا، ويعتبر عم والده أبوخليل القباني رائد المسرح العربي، ومن حبه الخالص لفنه كان يؤلف الروايات ويخرجها ويكتب السيناريو ويضع الحوار ويصمم الأزياء ويرقص ويلحن كلام المسرحيات ويكتب الشعر بالعربية والفارسية، وفي الوقت الذي لم تكن فيه دمشق تعرف عن الفن المسرحي غير خيمة "قره كوز" (الأراجوز)، ولا تعرف من الأبطال سوى أبو زيد الهلالي وعنترة؛ ترجم أبوخليل لها موليير عن الفرنسية، وبسبب البيئة المحافظة آنذاك ألبس الشيخ أبوخليل الصبية ملابس نسائية ليقوموا بأدوار النساء لعدم تقبل المجتمع مشاركتهن في مثل هذه العروض، الأمر الذي أزعج بعض رجال الدين، فقاموا بعدة محاولات لإيقافه؛ باءت كلها بالفشل، واستمرت عروضه في خانات دمشق، مما اضطر هؤلاء إلى نقل الشكوى للسلطان العثماني (الباب العالي)، متذرعين بحجة الأخلاق والدين وخطورة أعماله المسرحية على سلطة الخلافة، ليصدر الباب العالي فرماناً بإغلاق مسرح الشيخ القباني، ويغادر بعدها إلى مصر التي كانت أكثر انفتاحاً على الفن، وهناك أسس لبناء المسرح المصري.

وكانت مسرحية "الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح" أول عرض مسرحي خاص به، ويحسب له شغفه الكبير بالموسيقى، إذ لحن أهم القدود المعروفة (صيد العصاري- يا طيرة طيري يا حمامة)، وغيرها من القدود والموشحات مثل "اشفعوا لي يا آل ودي- شادن صاد قلوب الأمم- كيف لا أصبو لمرآها الجميل).

كنية "آق بيق"

يستغرب البعض كنية "آق بيق" في عائلة القباني، وبالبحث عنها تجد في كتاب بعنوان "دفاتر شامية قديمة" للأستاذ أحمد ايبش شرحاً عن أصل هذه الكنية، والتي تعني بالتركية -كما يقول الكاتب- "الشارب الأبيض"، وقد أطلقت على جد العائلة في القرن الخامس عشر، وهو متصوف مشهور في مدينة بورصة التركية، وكان من مريديه (تلامذته) السلطان العثماني محمد الفاتح نفسه، ويذكر أن آق بيق دده كما كان يدعى، بشّر السلطان المذكور بفتح القسطنطينية، وبعدها بسنوات هاجر فرع من العائلة إلى دمشق في القرن الثامن عشر الميلادي وبقي بها إلى اليوم، فيعزو الكاتب أصول القباني إلى التركية من جهة والديه، فأمه هي ابنة عم أبيه. أما والد نزار (توفيق قباني)، والذي وصفه الشاعر بالعظيم في مذكراته، وبأن له فضلا كبيرا في محبة نزار للشعر، على الرغم من صعوبة تقبل وجود شاعر في الأسرة تلك الأيام، بسبب حالة الانضباط السائدة ضمن العائلة الدمشقية، وكان نزار في معظم لقاءاته يتحدث عن أبيه وتوريثه المواقف الوطنية والقومية له، فقد كان يحسب لتوفيق تمويله لحركات المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين، كما كان يفعل العديد من زعماء الأحياء الشعبية من تجار ومهنيين وغيرهم، وفي بعض الأحيان كانت الاجتماعات السياسية تعقد في منزله بسرية تامة، وبناء على رغبته، لتوضع خطط الإضرابات والمظاهرات، ويقول نزار في ذلك: "كنا نسترق السمع من وراء الأبواب ولا نكاد نفهم شيئا، إلى أن جاء يوم ورأيت عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر الأولى منزلنا بالبنادق والحراب، ويأخذون أبي معهم في سيارة مصفحة إلى معتقل تدمر (الصحراوي)، وفي يوم وفاته خرجت دمشق كلها تحمله على ذراعيها ترد له بعضاً مما أعطاها من حب"، ويصفه أيضاً قائلا: "عيناه الزرقاوان كانتا صافيتين كمياه بحيرة سويسرية، وقامته مستقيمة كرمح محارب روماني، وقلبه كان إناء من الكريستال يشع للدنيا كلها".

ويقول نزار لأبيه في قصيدة "أبي" من ديوان "قصائد"، الذي كتبه خلال عمله الدبلوماسي في لندن:

أمات أبوك؟

ضلال! أنا لا يموت أبي

هنا ركنه.. تلك أشياؤه

تفتق عن ألف غصن صبي

جريدته... تبغه... متّكاه

كأن أبي– بعدُ- لم يذهبِ

عادات وتقاليد

بالحديث عن عائلته، لابد من المرور على علاقته بوالدته (فايزة آق بيق)، التي غمرت نزار بمحبتها وظلت تعامله كطفلها المدلل لآخر سنوات عمرها، كما كانت منذ ظهور موهبته في كتابة الشعر أكبر الداعمين له، ويروي نزار مواقف كثيرة في دعمها، إذ إنه ذهب إلى والدته عند بداياته الأولى في كتابة الشعر، وقال لها: لدي ديوان شعري أريد 300 ليرة سورية لطباعته، بعد تردده في طلب المبلغ من والده، فردت عليه: "شو هاد الشعر تقبرني". وبعد أن فسر لها الأمر وافقت، وقدمت له إسوارين من الذهب تلبسهما ليسدد مبلغ الطباعة، ولم ينسَ نزار موقف والده بعد صدور ديوانه، وكيف احتج وجهاء وشيوخ الحارة على ما تضمنه الديوان، حيث قدم له توفيق قباني الدعم الكامل وطلب منه تجاهل انتقادهم واحتجاجهم، ومما يجدر ذكره أن توفيق شجع ابنه نزار وبقية إخوته وأخواته على السفر الى أميركا وأوروبا لنيل الدكتوراه، متجاوزا الكثير من عادات وتقاليد المجتمع الدمشقي المحافظ وقتها.

وظل نزار في عيني أمه الطفل الضعيف القاصر، حيث كانت ترضعه حتى بلغ السابعة من عمره، وتطعمه بيدها حتى سن الثالثة عشرة، مما دعا البعض للقول إنه مصاب بعقدة أوديب.

طرود الأطعمة الدمشقية

ويتحدث نزار عن والدته: "كانت أمي مشغولة بعبادتها وصومها وسجادة صلاتها، تسعى إلى المقابر في المواسم، وتقدم النذور للأولياء، وتطبخ الحبوب في عاشوراء، وتمتنع عن زيارة المرضى يوم الأربعاء، وتنهانا عن قص أظافرنا إذا هبط الليل، ولا تسكب الماء المغلي في البالوعة خوفاً من الشياطين... تطاردني طرود الأطعمة الدمشقية إلى السفارات التي كنت أعمل بها، لأن أمي لم تكن تصدق أن هناك شيئاً يؤكل خارج مدينة دمشق".

وكانت لوالدة نزار مساحة في قلبه وشعره، فكتب لها قصيدة بعنوان "خمس رسائل إلى أمي"، في ديوانه "الرسم بالكلمات"، بعد وفاتها بعامين، يقول فيها:

صباح الخير يا حلوة

صباح الخير يا قديستي الحلوة

مضى عامان يا أمي

على الولد الذي أبحر

برحلته الخرافية

وخبأ في حقائبه

صباح بلاده الأخضر

وأنجمها وأنهرها، وكل شقيقها الأحمر

عرفت نساء أوروبا

ولم أعثر

على امرأة تمشط شعري الأشقر

وتحمل في حقيبتها

إليّ عرائس السكر

وتكسوني إذا أعرى

وتنشلني إذا أعثر

أيا أمي

أيا أمي

انا الولد الذي أبحر

ولا زالت بخاطره

تعيش عروسة السكر

فكيف... فكيف يا أمي

غدوتُ أباً... ولم أكبر؟

فشل تجاري

يعرف عن الدمشقيين حبهم للتجارة، إلا أن هذا الحب لم ينتقل لنزار، فقد كان فاشلاً فيها تماماً، وكان والد نزار يملك معملاً للسكاكر والشوكولاتة وراحة الحلقوم، في منطقة تسمى "زقاق معاوية"، وكان القباني يأخذ كمية منها من دكان جده ويضعها في حقيبته المدرسية، ثم يمد بسطته قريباً من منزله ويبيع الحلويات الموجودة لأطفال الحارة، وفيما بعد اكتشف توفيق والد نزار فشل ابنه في التجارة، إذ كان يبيع بضاعته كلها بعد مساومة لأحد جيرانه في الحي مقابل نصف فرنك، فأوقفه أبوه عن العمل بعد تلك الحادثة، ويبدو أن ذلك ترك تأثيراً في أقرباء نزار، متسبباً في إحباطهم منه، خصوصا عماته اللواتي أظهرن له تخوفهن من مستقبله، بعد أن لاحظن عليه أنه دائم الغفلة والسهو والشرود، متأخرا عن أخيه الأكبر معتز الذي تبدو عليه علامات الشطارة في التجارة، وبالتالي فإن فشله في التجارة ومحاولاته التدرب على عزف العود وتعلم فن الخط جعلت المقربين منه يضعونه في موضع الغامض والمجهول مستقبله، بينما كان تعلم الخط بالنسبة لنزار أمراً في غاية الأهمية، مع التوجه للاهتمام بالرسم أيضا في سن الثانية عشرة، حيث ساقه القدر إلى هذه الموهبة غارقاً فيها لمدة سنتين أو ثلاث، هائماً بين الألوان والأقمشة والصباغات والرسم بالماء والفحم والزيت، ليكتشف أنها لم تكن موهبة، بل نزوة لم تعكس ما يجول في داخل نزار المشحون بطاقة هائلة من المشاعر والحب، ولم تستطع الألوان رغم جمالها أن تُخرج من نزار أصواته الداخلية. كما جرب قباني فنَّ الخط وعمل خطاطاً، ولا تزال آرمة دكان دمشقي خطّها نزار موجودةً حتى الآن، وتتلمذ في تعلم الخط على يد الخطاط الدمشقي الشهير بدوي الديراني، إذ احتفظ نزار بلوحة خطها الديراني للآية القرآنية (وكان فضل الله عليك عظيماً)، معتبرا إياها شعاره في الحياة.

العزف على العود

يروى عن نزار أنه، وقبل اختياره للشعر حاول تعلم العزف على آلة العود في سن الرابعة عشرة، إذ راوده هاجس الموسيقى، معتقدا أن الموسيقى ستفتح له باب الخلاص وأنها لا تشبه عالم الخطوط، فتعاقد مع مدرس خاص، وبعد عدد قليل من دروس "السول فيج" أوقف رحلة الموسيقى؛ يتملكه شعور اليأس والإحباط وعدم التوفيق، رغم كفاحه ومحاولاته المستمرة، متيقناً في فترة قصيرة جداً من عدم تمكنه أن يصبح عازفا، وانتهى الأمر بكسره العود الخاص به، ولكننا نعلم جميعا أن لنزار أذنا موسيقية تظهر جلية في شعره، ويؤكد ذلك قول الفنان والموسيقي المصري الكبير محمد عبدالوهاب له: "إنت بتعطيني القصيدة ملحنة"، ويعرف عن نزار حبه لأعمال عبدالوهاب واستمتاعه بأغنياته ودندنتها، ويقول نزار عن تأثير الموسيقى في شعره: "كانت حروف الابجدية تمتد امامي كالأوتار، والكلمات تتموج حدائق من الإيقاعات، وكنت أجلس أمام أوراقي كما يجلس العازف أمام البيانو، أفكر بالنغم قبل أن أفكر بمعناه، وأركض وراء رنين الكلمات قبل الكلمات، وتلاحقني جملة فاليري (الموسيقى ولا شيء غير الموسيقى)"

إلا أن حب الرسم والموسيقى بقي له مكانة في قلبه، حتى مراحل متقدمة من عمره، وتجلى هذا العشق في ديوانه الذي أسماه "الرسم بالكلمات"، ومن أهم القصائد فيه: "صباحك سكر– يدي– إلى تلميذة– اغضب- استحالة"، إلا أن الشعر لاحقاً، وخصوصا في المرحلة الثانوية وما بعدها، أخذ من قلب وعقل نزار كل الاهتمام، فتوحد كليا معه، وأصبح فيما بعد أحد أهم الشعراء العرب المعاصرين.

نزار في صغره كان شاعرياً جداً، وطبيعياً كالطبيعة نفسها؛ يحبها ويعتبر نفسه جزءاً منها، وعلاقته بالماء والنبات واللون والرائحة خاصة ومميزة، فقد تربى في بيت فيه ثلاثمئة نوع من النبات، خاصة الياسمين، ومن القصص التي تتذكرها ابنته هدباء قباني عن بيت جدها؛ أنه خلال الاجتماعات التي كانت تجري في منزلهم سراً في الليل، كان الضيوف يتفركشون بالزريعة، وتلك مأساة بالنسبة للجدة، لتشتكي للجد، فيتألم نزار ابنها لتألُّم والدته. وفي الحلقة القادمة نتحدث عن عادته في حب التحطيم وتكسير الأشياء، وعن أول مرة يكتشف فيها أنه شاعر... فانتظرونا.

رائحة جدران أقدم مدينة مأهولة في العالم

كتب الشاعر نزار قباني قصيدته الدمشقية، فخرجت من كل مسافة بين حرف وآخر، رائحةُ جدران أقدم مدينة مأهولة في العالم، لتحرر أصواتاً يمكن لقارئ القصيدة سماعها بين ضحكاتٍ وأناتٍ، كانت وما تزال عالقة على جدران المدينة العتيقة، التي حملت بدورها اسم الشاعر الدمشقي الكبير الراحل نزار قباني وكلماته التي تلُفّها عناقيد الياسمين، خالدة في وجدان العاشقين جميعا. وكانت تلك القصيدة وجدانه وتعبيراً عما حمل في قلبه طوال حياته...

مآذن الشام تبكي إذ تعانقني

وللمآذن كالأشجار أرواح

هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي

فكيف أوضِح؟ هل في العشق إيضاح؟

حملت شعري على ظهري فأتعبني

ماذا من الشعر يبقى حين يرتاح؟

والدة نزار قدمت له إسوارين من الذهب ليسدد مبلغ طباعة أول دواوينه

الباب العالي يصدر فرماناً بإغلاق مسرح الشيخ القباني فيغادر بعدها دمشق إلى القاهرة

قبل اختيار نزار للشعر حاول تعلم العزف على آلة العود في سن الرابعة عشرة

أبو خليل القباني عم أبيه يعتبر أول من أسس مسرحاً غنائياً عربياً في القرن الـ19 في دمشق
back to top