راجي بطحيش: نصوصي تصهر الأجناس الأدبية

اكتشفت أنني يمكن أن أفكّر شعراً وأكتب سرداً

نشر في 23-04-2020
آخر تحديث 23-04-2020 | 00:04
يقول الأديب الفلسطيني راجي بطحيش إنه بعد إصداره «ملح كثير وأرض أقل» عام 2009، انتقل إلى النص التجريبي الهجين الذي لا يمكن تصنيفه ضمن قالب أدبي محدد، مؤكداً اكتشافه أنه يمكن أن يفكر شعراً ويكتب سرداً... وفيما يلي نص الحوار:
• يتنوع إبداعك بين القصة والشعر والرواية، على أي أساس تختار القالب الأدبي الذي تسكب فيه نصك؟

- أنا لا أختار القالب الأدبي الذي أسكب فيه نصي، هو الذي يفرض نفسه عليّ، لكن كما تلاحظ من تسلسل إصداراتي يمكن الملاحظة بشكل جليّ تقريباً أنني بدأت بالشعر، ثم تدرجت إلى النثر الشعري الطابع واليوميات، ومن ثم انتقلت إلى القصة القصيرة التي ركزت فيها منذ عام 2005، بدءا بمجموعة «بدل الضائع»، وصولاً إلى «ملح كثير.. أرض أقل» عام 2009، ومن ثم انتقلت إلى النص التجريبي الهجين الذي لا يمكن تصنيفه ضمن قالب أدبي محدد، وفي النهاية توجهت إلى الرواية كتحصيل حاصل لتجربتي الأدبية والحياتية ومخزون الذكريات والألم الذي أضيف إليّ على مدار السنوات.

إذاً هو ليس خياراً، بل ربما قدَر طبيعي لا مهرب منه، أنا أتصاعد مع النوع الأدبي بشكل طبيعي مع العمر، ولا أقوم بذلك بشكل مقصود أو وفق استراتيجية، فأنا كالسينمائي الذي يبدأ بعمل فيديو تجريبي، ومن ثم فيلم قصير، وصولاً إلى فيلم روائي طويل، ولكن ذلك لا ينفي حقيقة أنني بين عمل مطبوع واحد والآخر، أكتب نصوصاً قصيرة وتجريبية لا تندرج ضمن عمل سردي طويل، ولكن في أحيان كثيرة أُدخِل هذه المقاطع السردية والشعرية في أعمالٍ طويلة إن هي خدمت النص ودفعته قدما، وأضفت عليه جمالية إضافية.

أدب الرحلة

• منذ عام 2000 تكتب الشعر وتغزله في سياق أعمالك السردية، هل يطغى لديك السرد على الشعر؟

- بدأ ذلك حقيقة في عام 2001 عندما سافرت إلى فرنسا، وبدأت أكتب يوميات ضمن ما يُعرف بأدب الرحلة، وقد نشرت اليوميات في كتاب «حديقة للشتاء... ظل ربيعٍ ضاع» عام 2003، عن دار الشروق بعمان، وفي الأيام الأولى من الكتابة كنت أكتب النصوص بقالب وبمبنى شعري، لكن بمرور الأيام وتطوُّر الأحداث والمشاهدات والتجارب خانني الشعر أو أنا خنته، طرأت لديّ حاجة إلى قالب أوسع وحرّ أكثر للوصف وتوثيق الأمور والمواقف، وفي هذا الكتاب بالذات حدث التحوُّل الكبير لديّ من الشعر وقوانينه إلى السرد وحريّته. اكتشفتُ، تأثُراً بالمناخ الـ «ما بعد حداثي»، الطاغي وقتها على الأدب والفنون، أنني يمكن أن أفكّر شعراً وأكتب سرداً، بمعنى أنني وجدت نفسي أنجذب بشكل جارف لأسلوب تداخل الأجناس والتناص في نفس النص، لذا تجد نصي منذ ذلك الحين مكوناً من عِدة مستويات وطبقات، سرد وشعر، وتداخل أزمنة وتداخل في مواضع الراوي، ودخول الذكريات فجأة لنص سردي مضارع وهكذا... لا أعرف ماذا يطغى على ماذا؟ فالشعر يغذّي النص كما يدفعه السرد قُدماً.

العوالم الجمالية

• روايتك الأولى «يولا وأخواته»، لماذا اعتبرها بعض النقاد تحطيماً لنمط الرواية التقليدية، وما الرسالة التي تحملها للقارئ؟

- لا أعرف إذا كانت الرواية اعتُبرت تحطيماً لنمط الرواية التقليدية، ولكن ما أعرفه أن الكثيرين ممن اقتنوها يقرأونها عدة مرات، ويعودون إلى فصل محدد ويعيدون قراءته، فهي لا تعتمد على السرد الخطي المتصاعد التقليدي، بل هي مجموعة من الفصول والعوالم الجمالية المنفصلة المتصلة أثناء كتابة الرواية، والتي استغرقت أكثر من عامين على قِصرها، وضعت نصب عيني تكريم عوالم جمالية بعينها، من الطفولة وحتى الآن، مثل مسرحية ميس الريم لفيروز ونجمات السينما المصرية والأزياء ومقتنيات الأمهات والجدات والعمات، وما إلى ذلك.

فأنا بطبيعتي لا أحب الفصل بين الأجناس، وأكون دائماً في حيز ثالث يجمع بين الأضداد (ظاهرياً)، أنا ضد الثنائيات وأكافحها في كل مناحي حياتي، لذا تجدني في نصوصي الأخيرة بالذات أستمتع ببناء هذه الطبقات وصهر الأجناس نحو شيء جديد يخصني أنا وحدي، لذلك تأتي نصوصي عصية على البعض، وتتطلب القراءة أكثر من مرة في محاولة لتخليص كل طبقة وطبقة على حدة ، وأنا لا أحمل رسائل للقارئ، وتلك ليست وظيفتي، فنحن نتعامل مع جنس فني خالص كل متلقّ يقوم بإعادة كتابته وتأويله كما يستقبله شعورياً وحسياً.

الهيكل التقني

• أيهما تنشغل به أكثر أثناء الكتابة: اللغة أم التقنية؟

- ببساطة شديدة، يهمني المبنى أكثر، ولا أحاول استعراض عضلاتي اللغوية وممارسة الفذلكة مع سبق الإصرار، اللغة لديّ هي التي تسكب نفسها داخل الهيكل التقني، ففي المقاطع السردية الخالصة التي تسرد أحداثاً أحاول التبسيط، وعند انتقالي في ذات النص إلى الخيال والشعر، تدخل حسابات لغوية أخرى.

والأهم في كل عملية البناء هذه، الانتقال بين طبقات السرد المختلفة بسلاسة من دون فظاظة وبانسياب، من السرد المضارع إلى الماضي، إلى الشعر، إلى التناص، إلى ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب وهكذا، فأنا ألعب بنصوصي مثل لعبة «ليغو»، أجهّز كل مقطع عضوي على حدة، ومن ثم أجمع المقاطع معا ضمن جسد سردي، جمالي ولغوي معيّن.

المحيط اللغوي

• إذا عدنا إلى سنوات الطفولة، كيف أسهمت الكنيسة في تشكيل وعيك اللغوي، في ضوء نشأتك بأجواء تسيطر عليها العبرية؟

- لقد وُلدت ونشأت في مدينة عربية «الناصرة»، وهي معزولة عن المحيط اللغوي العبري، جاء لقائي الأول مع اللغة العبرية عند بلوغي الثامنة عشرة، وانتقالي للسكن الجامعي في المدينة العبرية، تلك كانت المرات الأولى التي التقي بها مع شخصية الإسرائيلي، وبالتالي مع اللغة العبرية، مع أنني أعتبر نفسي حالياً ثنائي اللغة بسبب عملي بالترجمة من العبرية للعربية، ولا شك في أن تعريب نصوص الكنسية الذي جرى في لبنان تحديداً وفي مصر أيضاً أسهم في تشكيل وجداني اللغوي وسط ضعف تدريس اللغة العربية في المدارس داخل فلسطين 48، وذلك مع أنني تحولت إلى العلمانية بجيل صغير نسبياً (12).

التدريس الجامعي

• كثيراً ما يُجهض العمل الأكاديمي مشروعات أدبية لدى المبدع، ما مدى صحة ذلك في ضوء تجربتك كأستاذ جامعي تدرِّس المسرح والسينما للطلاب الفلسطينيين؟

- صحيح جداً، الكتابة الأكاديمية قامعة للكاتب الفنان، لذلك تركت الدكتوراه في بداية تبلورها لكتابة روايتي الأخيرة، لكنني أعشق التدريس الجامعي وبخاصة ضمن المساقات التي تعزَّز التفكير النقدي لدى الطلاب وتهدد عالم المسلّمات التي تربوا عليها، لديهم.

أزمة «كورونا»

• ما جديدك الذي تعكف عليه راهناً؟

- أنهيت منذ أشهر رواية «الشقة في شارع باسي»، وهي من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان وبيروت، وأنتظر طباعتها التي تعثّرت بسبب أزمة كورونا.

الشعر يغذي النص كما يدفعه السرد قُدماً
back to top