جدل أوروبي حول قضايا الدفاع الأميركية

نشر في 13-03-2020
آخر تحديث 13-03-2020 | 00:05
عندما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الماضي، في مقابلة صحافية مع مجلة الإيكونوميست البريطانية، أن حلف شمال الأطلسي دخل في حالة «موت دماغي»، تسبَّب في إثارة عاصفة من الانتقادات شملت شتى أنحاء أوروبا.

وقد صدرت ردود الفعل الأوروبية الرسمية بسرعة واضحة، وكانت سلبيَّة، وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، إن «أي محاولة تهدف إلى إبعاد أوروبا عن الولايات المتحدة لن تُضعف التحالف الأطلسي فقط، بل ستُفضي إلى انقسام أوروبا أيضاً، ثم إن الوحدة الأوروبية لا يمكن أن تحل محل الوحدة عبر الأطلسي». لكن مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، صرَّحت بأنها لا تستطيع تأييد موقف الرئيس ماكرون، كما ذهب رئيس وزراء بولندا ماتيوسز مورافيكي إلى حد وصف بيان الرئيس الفرنسي بـ»الخطر»، وبدلاً من الإصغاء إلى الدعوة الفرنسية أيَّدت بقية دول أوروبا موقف الحلف الأطلسي.

وبدلاً من تقدم الجدال الأوروبي ودعم الجهود التي كان يأمل ماكرون تحقيقها، فإن تصريحاته أسفرت، على ما يبدو، عن حصيلة عكسية، فقد قرر الحلفاء في نهاية الأمر إنهاء الجدال حول هذه المسألة في أعقاب اقتراح ألماني بهذا الصدد.

وقد كرر الرئيس الفرنسي دعوته في مؤتمر للأمن عُقد بمدينة ميونيخ الألمانية، لكن ردة الفعل كانت أقل حدة، ورغم ذلك يقول مراقبون إن عدداً كبيراً من الأوروبيين يشككون في وجهة نظر ماكرون المتعلقة بأوروبا أقل اعتماداً على الخارج.

جدل أوروبي حول الدفاع

ومن هذا المنطلق يتركز الجدل الأوروبي حول دور الولايات المتحدة، بشكل غير مباشر على الأقل، وبالنسبة إلى أكثرية الأوروبيين يسهم موقفهم إزاء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى حد كبير في موقفهم نحو التعاون الدفاعي الأوروبي. وبالمثل تؤثر توقعات الأوروبيين فيما يتعلق بعمل الولايات المتحدة في أوقات الاضطرابات المحلية في صورة رغبتهم بالتعاون إلى حد التفكير في الخطة «ب»، على سبيل المثال.

ويقرر ذلك الموقف الأوروبي نحو الولايات المتحدة الموقف إزاء التعاون الدفاعي الأوروبي، وارتباطه بفكرة التهديد أو الخطر الذي يختلف بصورة كبيرة في دول أوروبا، كما أن الجدل يدور حول الخطر من الجنوب (الدول الفاشلة والإرهاب) ومن الشرق (روسيا). وبالنسبة للمواقف الخاصة بسياسة الولايات المتحدة، فإن تلك الفكرة تتمثل في نظرة المملكة المتحدة وألمانيا وهولندا. ويتمحور الدفاع الحقيقي على أي حال حول الخطر الروسي، وهو ما يظهر أنه لا يوجد بديل للدور الأميركي في هذا الصدد.

الموقف الفرنسي

الاستثناء الرئيس بهذه المعادلة يتمثل في فرنسا، التي لا تعتبر أن قدرتها على البقاء مرتبطة بمشاركة الولايات المتحدة في الأمن الأوروبي، وخاصة أنها تركز على محاربة الإرهاب في إفريقيا. وضمن هذه الجهود تتعاون فرنسا بصورة وثيقة جداً مع الولايات المتحدة، وقد حاولت جاهدة إقناع واشنطن بعدم التخلي عن غرب إفريقيا.

وبدرجة طفيفة من النجاح، أعلن وزير الدفاع الأميركي مارك اسبر في أواخر يناير الماضي، أن الولايات المتحدة قررت عدم سحب قواتها بشكل كامل من تلك المنطقة، لكن رغم ذلك لم تعد العلاقات عبر الأطلسي حيوية بالنسبة إلى فرنسا، كما هي بالنسبة لدول أوروبية أخرى.

وتجدر الإشارة إلى أن استبدال الولايات المتحدة على شكل شريك في الساحل بإفريقيا ينطوي على قدر من الصعوبة، لكنه ليس مستحيلاً على أي حال، وخاصة إذا وحدت الدول الأوروبية قواتها، ثم إن التهديد الروسي «التقليدي» للأمن الأوروبي لا يحتل مرتبة عالية على أجندة فرنسا، ومشاركة باريس في القوة الأطلسية المتقدمة في دول البلطيق تهدف في الواقع إلى ضمان دعم استونيا للعمليات الفرنسية في الساحل، وذلك هو كل ما تسعى فرنسا إليه بشكل فعلي.

لكن من الواضح أن فرنسا فشلت في فهم المخاوف التي تدفع الكثير من الدول الأوروبية إلى الاعتماد بشدة على الولايات المتحدة. ووفق نظرة باريس، وفي ضوء الأولويات الفرنسية، فإن استبدال الولايات المتحدة عملية أقل صعوبة، كما أن أي موقف تتخذه فرنسا سيفسر في منظور الانتماء إلى الإرث الديغولي، الذي يرجع إلى عدة عقود، وهو ما أبرزه الرئيس ماكرون في مقابلته مع مجلة الايكونوميست البريطانية، ويرى الكثير من المراقبين أن تمسك ماكرون بالخط الديغولي لا يساعد قضية بلاده، لأن ذلك يعتبر تقيداً بقضية فرنسا وليس أوروبا.

موطن صُنع القرار

جدال أوروبا حول مسألة الدفاع يتعلق بصورة تامة بالولايات المتحدة، وهو بالتالي ليس شيئاً جديداً، فهو يعود إلى زمن تأسيس حلف شمال الأطلسي، لكن الجانب الأكثر غرابة في هذا الصدد، هو أن مقاربة الكثير من الأوروبيين لتلك المسألة ومدى مشاركة الولايات المتحدة يمكن أن تتقرر في باريس أو لندن، وليس في واشنطن، وكان ذلك وراء الخوف من احتمال إضعاف حلف شمال الأطلسي، الذي جعل بريطانيا تعارض تحويل الدفاع إلى ساحة تكامل أوروبي، وهو أيضاً الموقف الذي تطور بصورة محدودة في أواخر تسعينيات القرن الماضي.

وبعد انتهاء الحرب الباردة استمر الجدال لطرح مكونات «الدفاع عن أوروبا»، وبتعبير أدق فرنسا ضد الأطلسيين، وهو ما برز في كل جولة من محادثات الاتحاد الأوروبي وتوسيع حلف شمال الأطلسي. وقد تمحور السؤال في تلك الأثناء حول الدور الذي تسعى الدول الأوروبية إلى الحصول عليه من الولايات المتحدة في نطاق الدفاع. وكان التفسير الذي طرح في سياق «عودة» فرنسا إلى حلف شمال الأطلسي في عام 2009، هو أن باريس أدركت أن فكرة «دفاع أوروبا» لن تتحقق على الأرجح، كما أن فرنسا وقفت، ولا تزال، في الجانب الآخر من المسار الأوروبي المعروف.

الحاجة إلى الخطة «ب»

ومن هذا المنطلق لا غرابة في عدم وجود إجماع على استنتاجات يمكن استخلاصها من قضية الدفاع في أوروبا، إضافة إلى الحاجة إلى الخطة «ب»، والسبب الرئيس وراء صعوبة تحقيق تصريحات الرئيس ماكرون، أن السؤال الرئيس يظل من دون جواب: ما مدى مشاركة الولايات المتحدة في الأمن الأوروبي بالمستقبل؟ ومع تعويل أكثرية الدول الأوروبية على الولايات المتحدة تفتقر فرنسا إلى عنصر التأثير على تلك الدول، كما أن الجدال الأوروبي حول ما تريده فرنسا لن يسفر عن أي نتيجة.

ثم إن كل ما يمكن لباريس القيام به هو السعي إلى إيجاد شركاء لمشاريعها، وهذه هي حقيقة التعاون الدفاعي الأوروبي في العام الحالي، وعرض الرئيس ماكرون البدء بحوار استراتيجي حول دور الردع النووي في الأمن الأوروبي- والذي طرحه في السابع من فبراير الماضي- لن يغيِّر من واقع الحال على الإطلاق، ثم إن مشاكل الدفاع الرئيسة في أوروبا لا يمكن أن تحل بالوسائل النووية والتحديات الدفاعية الأساسية فيها تقليدية بشكل واضح.

وفي نهاية المطاف، يمكن للجواب المتعلق بمستقبل مشاركة الولايات المتحدة في الأمن الأوروبي أن يوفر الزخم الضروري للتعاون الدفاعي الأوروبي، والسعي إلى تحقيق ذلك الهدف بصورة جلية، وفي غياب التحليل الأوروبي الموحد لن تتمكن أي جهة ماعدا واشنطن من ذلك الجواب: إما مع الأوروبيين، أو من خلال عمل أحادي وسياسة الأمر الواقع.

الحوار البنَّاء مع واشنطن

في عالم مثالي كان بوسع الدول الأوروبية الدخول في حوار بنَّاء مع الولايات المتحدة حول دور واشنطن في الأمن الأوروبي بالمستقبل. وكما سبقت مناقشته عبر وسائل الإعلام، فإن من مصلحة أميركا أن تتمتع أوروبا باستقلال ذاتي استراتيجي، والدفاع الأوروبي الأكثر قوة سيفضي إلى مشاطرة أفضل في الأعباء ويقوي الروابط الأطلسية بدلاً من إضعافها، ومن شأن هذه الحصيلة التخلص من الفكرة القائلة إن المزيد من المشاركة الأوروبية يعني إضعاف حلف شمال الأطلسي في تركيبته الحالية، لكن لسوء الحظ يبدو أن تلك هي وجهة نظر الولايات المتحدة السائدة، والتي عبَّرت عنها واشنطن في رسالة رسمية وجهتها إلى الاتحاد الأوروبي.

ورغم ذلك، وإذا أرادت الإدارة الأميركية وجود شريك قادر في أوروبا بالقرن الحادي والعشرين يتسم بالتعددية والمنافسة، فإن عليها أن تغيِّر رأيها إزاء الاستقلال الذاتي الاستراتيجي الأوروبي، ويتطلب هذا الهدف قيادة أوروبية، كما أن لألمانيا دورها الرئيس في هذا الشأن، ولكن رغم ذلك، فإن الخوف من تنفير الولايات المتحدة يحول دون بلوغه في الوقت الراهن على الأقل.

برباره كانز *

back to top