سعيد بوخليط: باشلار من حكماء البشرية على امتداد تاريخها

يستعيد في كتابه «آفاق إنسانية» ثقافات هاروكي موراكامي وماركيز

نشر في 13-03-2020
آخر تحديث 13-03-2020 | 00:13
توخى الباحث والمترجم المغربي سعيد بوخليط، المتحدر من مدينة مراكش، منذ عقدين من الزمان الارتكاز على روافد معرفية مختلفة، حتى يبلور مشروعه المعرفي على أرض الواقع. وتجلى ذلك مع أطروحته الجامعية حول شعرية العناصر الأربعة عند الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار «الماء، والأرض، والهواء، والنار»، وهو العمل الذي شكَّل مرتكزاً مفصلياً، لمختلف الكتابات التالية له، والتي خاضت في قضايا ثقافية عدة، إما ترجمة أو تأملاً؛ وراهنت على تعايش أنواع الخطابات والأجناس، فهو لا يكف عن الترحال بين نصوص أدبية وفلسفية وسردية، وكتابة المقالة الصحافية المهتمة بمتابعة مجريات الشأن العام محلياً وعالمياً.
وحول رؤيته ومسيرته مع الترجمة وكتبه التي صدرت في المغرب والجزائر ومصر ولبنان والأردن، التقته «الجريدة»، وكان الحوار التالي:
• ما دوافعك نحو الكتابة والترجمة والبحث؟

- وراء كل منشغل بالسؤال المعرفي؛ تجارب محض ذاتية ومحفزات موضوعية نزعت به نحو هذا العالم الجميل جداً قدر وعورته، وأولى فخاخ استدراجي نحو ملاذات عالم القراءة روايات زيدان، ثم روايات تولستوي ودوستويفسكي، ونصوص المنفلوطي وجبران خليل جبران، وبدأت أكتشف أسماء كتاب الغرب وأقرأ ترجماتهم إلى العربية.

أما عن تجربة الكتابة، فقد دشنتها تحديداً سنة 1993، بمقالة تحت عنوان: بيان في الذات وضمن سلسلة شملت ست مقالات، وبدأت انطلاقتي نحو الترجمة سنة 2000، ضمنياً بإقرار رمزي من طرف المفكر محمد عابد الجابري، حينما أدرج اسمي ضمن ملف خاص حول نظرية الأدب، إلى جانب باحثين مكرسين، بفضل ترجمة لمفهوم الصورة الأدبية عند الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، فاكتشفت عملي صدفة ذات صباح، للمرة الثانية في مجلته "فكر ونقد" التي توقف إشعاعها الكبير، ومعها أفق مرحلة بأكملها من تاريخ المغرب، برحيل الأستاذ الجابري المباغت شهر مايو 2010 ثم تواصل التحفيز مع المفكر مطاع صفدي، من خلال مجلتيه "الفكر العربي المعاصر" و"العرب والفكر العالمي". تلك باختصار شديد، أهم التشكلات المفصلية بخصوص مسارات القراءة والكتابة والترجمة.

تأملات

• ما الرؤى الفكرية التي خلصت إليها سواء في كتابك "تأملات في بعض يوميات التردي العربي وتحديات التغيير أو كتابك الآخر"آفاق إنسانية لامتناهية"؟

- هي الرؤية المتطلعة إلى النموذج الأفضل، في صيغته المتكاملة بنيوياً على جميع المستويات فكرياً ومادياً، جاءت صفحات العمل الأول كخطاب رثائي لواقعنا، ومآلات أشكال الهزيمة التي مافتئت تقوّض ممكنات ما تبقى له من سبيل إلى الحياة، فكان لابد من استحضار أسئلة حارقة حول الخلاف الفلسطيني، وبيروقراطية جامعة الدول العربية، وتسيد الإرهاب والفكر الأصولي… بينما، حاولت في العمل الثاني، الإصغاء إلى أحاديث مجموعة من أعلام ثقافتنا المعاصرة، أكانوا غربيين أو غيرهم، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر: هاروكي موراكامي، وبوب ديلن، وغابريل غارسيا ماركيز، وخورخي بورخيس، ورولان بارت، وألكسندر سولجنيتسين، وميشيل فوكو، وجان ستاروبنسكي، وعبدالفتاح كيليطو، وشارل بودلير، ونعوم تشومسكي، وفاطمة المرنيسي، ويورغان هابرماس، وعبدالله العروي، وريجيس دوبري، وعبداللطيف اللعبي، وبيتر سلوتردايك، وإدغار موران، وسمير أمين، وعبدالسلام بنعبد العالي، وجان دانييل، وفابيان فيرديي، وكاترين كامو، وأدونيس، وجوليان أسانج، وعبدالوهاب مؤدب، وسفيتلانا أليكسيفيتش، ومحمد الناجي، وحوارات وسجالات ونقاشات، تنوعت مصادر روافدها بين أصول الفلسفة والتاريخ والاقتصاد والموسيقى والطب والصحافة والتشكيل والرواية والأدب والتقنية وعلم الاجتماع، إلخ. بقدر أيضاً تحدر أصحابها وانتماءاتهم إلى جغرافيات سوسيو- ثقافية مختلفة، عربية وأوروبية وأميركية وإفريقية وآسيوية، فلا يمكننا انتشال ذواتنا، من جوف هذا الخراب، سوى بالمناداة على العقلاء كي يقدموا طوق النجاة إلى هذا العالم.

دروس باشلار

• ما أهم الدروس التي استلهمتها من غاستون باشلار على الأقل حسب سياق اشتغالك على جانب من فكره؟

- باشلار من حكماء البشرية على امتداد تاريخها؛ فلم يكن بالعالِم أو الفيلسوف الذي ربما اكتفى فقط باستيعاب ذكي لنماذج سالفة، بل تجمع لديه ماتفرق عند العديد من نظرائه. إنه الشاعر والفيزيائي والقارئ النهم والأديب العاشق للنصوص الحالمة والمتصوف الشغوف ببناء حواس الإنسان… والمربي والأستاذ بالمفهوم الإغريقي للكلمة والمتواضع الذي أسس إطاراً إبستمولوجيا للخطأ. باشلار، أيقونة خالدة ومدرسة هائلة، كان مبدعاً منهجياً بالنسبة لكل الحقول المعرفية، فهو عقلانية صاغت كل ملامح التأسيس. فاستحق بذلك لقب فيلسوف، تدين له المدرسة الفرنسية بخصلة أساسية تتمثل في أنه على امتداد ثلاثين سنة منذ أطروحته لنيل الدكتوراه في الفيزياء (1927) وصولاً إلى آخر مؤلفاته ''شعلة قنديل''(1961) وهي كذلك سنة وفاته. كان باشلار يبحث عن صياغة مفهوميه لشيء اسمه الانفصال/المبدع. فأجاد للعلم فلسفة بديلة، ومنظومة جديدة تعبر عن الثورات الفكرية بعد ما عرف تاريخياً بأزمة الأسس في الرياضيات، وكذا ظهور نظرية النسبية مع خلخلتها لبديهيات الفيزياء النيوتونية. وعلى مستوى النص الأدبي، فقد أعطى بالنظرية النقدية التي وضع أصولها الكبرى نفسا لانهائياً وطويلاً للاشتغالات النقدية والأدبية. ولن نبالغ إذا قلنا، بأن كل النظرية الشعرية الجديدة قد خرجت من لحية باشلار.

ثقافة الآخر

• هل عَكَس الأدب المترجم لديك صورة واضحة عن ثقافة الآخر؟

- بدون شك، فبقدر احتكاكك بنصوص أجنبية إلا وتكرست لديك في المقابل قيم أخلاقية وسلوكية؛ قبل المتعة المعرفية. يصير اكتشاف العالم والسفر عبر الأزمنة والأمكنة، من خلال تلك النصوص والجلوس افتراضياً إلى أصحابها، شعيرة وعبادة في غاية الطهر والنقاء والروحية الخالصة، كي تفهم أكثر فأكثر الذات قبل الآخر، وتستوعب أسئلة أعماقك. فالترجمة، إعادة صياغة للثالوث "المحرَّم" في نظر المنظومات الواحدية الدوغماطيقية (الجمود الفكري) والأصوليات العدوانية، التي تعتبر مصدراً أولياً لكل شرور الحياة :الذات، الآخر، الهوية.

معايير الترجمة

• ما المعايير المطلوبة لاختيار عمل قصد ترجمته؟

- يظل الشغف والافتتان، معيارين مطلقين لإنجاز ترجمة معتبرة. لذلك لا أترجم سوى النصوص التي تشعرني بألفتها، وتظللني بوافر محبتها. فأبادلها نفس الحب وأكشف لها عن مشاعري بكل شفافية. إنها صداقة إغريقية، تقتضي مني قدرة "إتيقية" (أخلاقية) في غاية التمدن والتحضر، على الإصغاء والتأويل بكل صدق وأمانة.

مواجهات حياتية

• ما الجوهر أو الدرس الأساسي الذي تتوخى إبلاغه للقارئ عبر ترجماتك؟

- أود أولاً، أن أتقاسم معه متعة نصوص نظرية أوسردية. وبالطبع استلهام مضامينها ورؤاها، التي غالباً ما تكون عميقة جداً. أختار نصوصاً تقدم لنا إجابات عن مواجهات حياتية مختلفة، تمدنا بسند روحي وحافز، كي نفهم حيثيات محيطنا الخاص على نحو أكثر توقداً وانفتاحاً من الأنماط الجاهزة والقوالب السلبية القائمة ونستمر في المقاومة. لذلك، أحاول دائماً استثمار نصوص تكرس هذا المبدأ وتنزع نحو هذا المصب.

مشروع معرفي

• متى يكون للترجمة دور في تغيير الصورة النمطية والكليشيهات الغربية نحو الشرق؟

- الترجمة مشروع معرفي هائل، ترتهن مدى فاعليته بطبيعة النظام العام الذي يؤطر موضوعياً مجال اشتغاله، أقصد بالتأكيد المشروع المجتمعي ككل، في سياقاته المتكاملة سياسياً واقتصادياً وفكرياً وقيمياً. هكذا، نخلص نحو معادلة بسيطة، مفادها مساءلة هذا المشرق نفسه قبل غيره، بخصوص مستويات اجتهاده الدؤوب، حتى يتخلص من رمزية تلك الكليشيهات المترسخة على امتداد السنوات مثل :الاستبداد، والقمع، والكبت، والعبودية، والغباء، والتطرف الديني، والعنف، وفضاءات الحريم… جميعنا استأنسنا بأطروحات المستشرقين منذ القرن التاسع عشر ويوميات الرحالة الغربيين إلى الشرق. إذن، ماذا تغير بعد مضي كل هذه السنوات؟ الجواب لم يعد مدهشاً لأحد، بحيث ازدادت الهوة التاريخية، بين تحضّر الغرب ومستنقع الشرق، والترجمة بهذا الخصوص تتجاوز كثيراً وظيفة المترجم إلى كونها قضية قومية.

تحديات

• ما أهم التحديات التي تعترض طريق مترجم الأدب؟

- موضوعياً، أظنها نفسها بحيث يصعب على المترجم الاشتغال بعطاء وإبداع ضمن نطاق واقع مجتمعي يفتقد الحس المعرفي، غير مهتم أو مبال بما يجري، في دنيا عالم الأفكار، كما الشأن حالياً بالنسبة لمحيطنا العربي. أما ذاتياً، فهي تحديات وصعوبات تختلف باختلاف المترجمين من حيث تكوينهم واجتهادهم وثقافتهم وتمكنهم من آليات اشتغالهم.

مشاريع مستقبلية

• ماذا عن مشاريعك المستقبلية في حقل الكتابة والتأليف؟

- هناك مشاريع قريبة المدى كشفت عن جانب من ملامحها أخيراً بواسطة الموضوعات التي شرعت في نشرها قبل فترة؛ عن نصوص لألبير كامو أو جوليا كريستيفا، ثم مشاريع أخرى مستقبلية تتعلق أساساً بالمتن الباشلاري، مازلت عند حدود تصور ممكنات خطاطتها النظرية.

وراء كل منشغل بالسؤال المعرفي تجارب محض ذاتية ومحفزات موضوعية

الشغف والافتتان ظلا معيارين مطلقين لإنجاز ترجمة معتبرة
back to top