عام على «الحراك» في الجزائر... نجاحاته وإخفاقاته

نشر في 06-03-2020
آخر تحديث 06-03-2020 | 00:00
قبل فترة عام، شهدت الجزائر انطلاقة أكبر احتجاجات شعبية وأكثرها سلمية منذ استقلالها في عام 1962. ومنذ ذلك الحين، يملأ الجزائريون الشوارع كل ثلاثاء وجمعة، للتعبير عن رفضهم للنظام السياسي في البلاد، والمطالبة بتغيير جذري.

وفي العام الفائت، شهدت الجزائر تغييرات أكثر مما فعلت خلال السنوات الـ57 الفائتة. وكانت تلك الاحتجاجات أسقطت في أبريل الرئيس السابق، عبدالعزيز بوتفليقة، الذي حكم البلاد لفترة طويلة، وأدَّت إلى انقسام غير مسبوق للنظام السياسي، غير أن التطورات المحتملة في 2020 تشير إلى مستقبل مقلق للبلاد ككل.

وفي ديسمبر، أوصلت الانتخابات الرئاسية، التي كانت محطَّ جدل كبير في الجزائر، رئيس الوزراء السابق عبدالمجيد تبون إلى السُّلطة. غير أن الكثيرين رفضوا الانتخابات، باعتبارها رداً لا يتناسب مع مطالبهم. ولا يزال الجزائريون يلجؤون إلى الشوارع، في ظل رفضهم المتواصل للنظام ونتائج الانتخابات التي أجراها.

في الواقع، ساهمت انتخابات ديسمبر في تعميق أزمة الشرعية بالبلاد، ولم تنجح في توفير الاستقرار السياسي بالجزائر، التي هي بأمسِّ الحاجة إليه.

والآن، الجزائر عالقة بين نظام يحاول استعادة شرعيته بأي ثمن، وشعب مصمم على استعادة بلاده بطريقة سلمية وحضارية. لكن في ظل وضع يزداد عدائية في كل من ليبيا والساحل، وعلى ضوء الآفاق الاقتصادية القاتمة، لا يمكن للجزائر أن تتحمَّل سنة طويلة أخرى من التوترات السياسية. ففهم سياق السياسة الجزائرية المليء بالتحديات والتنبؤ به للسنة المقبلة يتطلب تحليلا دقيقا لوقائع اليوم، على صعيد النظام وحركة «الحراك» الاحتجاجية، على حد سواء.

في سبتمبر، طلب رئيس أركان الجيش السابق والرجل النافذ في النظام الجزائري أحمد قايد صالح أن تحصل الانتخابات قبل نهاية عام 2019. ومثَّل قايد صوت الطغمة العسكرية التي رأت في الانتخابات الرئاسية الحل الوحيد للشلل السياسي الذي تعانيه البلاد. غير أن النظام لجأ إلى تدابير قمعية، بما فيها سجن الناشطين، والحد من حُرية الرأي والصحافة، لفرض أجندته الانتخابية. لم تستقطب الانتخابات، التي جرت في 12 ديسمبر، سوى ما يقارب 40 في المئة من الجزائريين المخولين قانوناً للتصويت. حصل عبدالمجيد تبون على ثقة نحو 20 في المئة من الناخبين المسجلين. كما نظَّم العديد من الجزائريين احتجاجات حاشدة خلال يوم الانتخابات.

أدَّى تركيز النظام الجزائري على تكتيك الانتخابات إلى صعود رئيس ضعيف معدوم الشرعية الشعبية تقريبا. كما أنه لم يُفض إلى حل الأزمة السياسية، وتثبت الاحتجاجات الأسبوعية المستمرة أن هذه الانتخابات كانت فشلا للديمقراطية.

وما زاد طين الاضطرابات بلةً، وفاة أحمد قايد صالح بشكل غير متوقع بعد أيام قليلة على تنصيب الرئيس الجديد – وهو حدث مهم جدا بالنسبة للسياسة الجزائرية. واعتبر الكثيرون أن وفاته المفاجئة قد تمنح تبون مجالاً أكبر للمناورة السياسية، وقد تدفعه بالتالي إلى الإصغاء بجدية أكبر لمطالب الشعب، ليفي بذلك بالوعد الذي قطعه خلال حملته الرئاسية.

يشير الشهر الأول من رئاسة تبون إلى أن النظام يتطلع إلى كيفية استعادة الشرعية، ويسعى إلى الحد من أي تغيير «جذري» و»غير ضروري»، من خلال سلسلة من الإصلاحات السطحية والموجهة. ويتمثل أحد أبرز جوانب هذا الأمر في تغيير دستور عام 2016. لهذا، أنشأ تبّون لجنة مؤلفة من 17 خبيرا دستوريا للقيام بهذه المهمة. بالموازاة، عقد تبون عدة اجتماعات مع شخصيات سياسية بارزة «محترمة» من طرف «الحراك»، بمن فيهم رئيسا الحكومة السابقان بن بيتور وحمروش،‎ فضلا عن الوزير السابق طالب الإبراهيمي، فيما يبدو أنه محاولة لوضع حد للحركة الاحتجاجية.

وعليه، يبدو أن أولويات النظام تنطوي على إسكات الحراك وتعديل الدستور، بدلا من إجراء حوار فعلي مع الجهات الفاعلة الاجتماعية والسياسية الرئيسية ضمن الحركة الاحتجاجية.

ويمكن وصف ولاية تبون كرئيس في أفضل الأحوال على أنها مرحلة انتقالية «غير رسمية». وما إن يقرر النظام أن هذه المرحلة الانتقالية قد انتهت، قد يستقيل تبون، ما سيؤدي إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. وفي جميع الأحوال، وبغض النظر عن كيفية انتهاء ولاية تبون، فقد وضع النظام فعليا نفسه والبلاد عند مفترق طرق مُهلك، من خلال فرض الانتخابات. والآن، يعتمد النتاج المستقبلي للبلاد بشكل كبير على الحركة الاحتجاجية وقدرتها على تقديم بديل مستدام.

«الحراك» حي ونافذ لكن قدرته محدودة سياسياً

يُعتبر «الحراك» إحدى أطول الحركات السياسية وأكثرها صمودا وسلميةً في التاريخ الحديث لكل من الجزائر والمنطقة ككل. ورغم التوقعات بخلاف ذلك، أثبت قدرته على الحفاظ على قوته ووحدته. غير أنه في ظل استمرار المناورة السياسية التي يعتمدها النظام ومساهمة الانتخابات، المعترض عليها ولكن المفروضة، في تعقيد السياسة الجزائرية، يواجه «الحراك» الآن أكثر فترة مليئة بالتحديات منذ فبراير الفائت. ويتمثل مصدر قلقه الرئيسي حاليا في غياب أي رؤية مستقبلية، إلى جانب بروز خلافات مكانية وأيديولوجية، وعدم قدرة مستمرة على التطور والتحول إلى قوة سياسية.

ولكن هذا لا يحجب ما نجحت في إنجازه الحركة الاحتجاجية الجزائرية حتى الآن، فقد أرغمت بوتفليقة على الاستقالة، وفكَّكت جماعة بأكملها في النظام، ومارست ضغوطا هائلة على القيادة العسكرية. مع ذلك، وفي ظل شكلها الحالي، تحصر الحركة نفسها في كونها أداة ممارسة ضغوط على أنظمة سياسية قائمة ومستمرة، بدلا من إيجاد بديل سياسي يمكنه أن يقدِّم فعليا خارطة طريق عملية وواقعية، من أجل إحداث تغيير سلمي وديمقراطي.

ولا شك في أن الاحتجاجات الحاشدة عجزت عن تقديم رؤية سياسية خاصة بها، ما أتاح للقيادة العسكرية الحاكمة، بحكم الواقع، تجديد واجهتها المدنية من خلال الانتخابات.

وما يزيد من تعقيد هذه الانقسامات السياسية الناشئة، واقع أن الجزائر هي دولة كبيرة ذات توجهات إثنية وأيديولوجية مختلفة. فقد بدأت الاختلافات الإقليمية التي لا تبدو للعيان بالعاصمة في الظهور، وخاصة أن أعداد المحتجين في المناطق الداخلية والريفية بدأت في الانخفاض. بالإضافة إلى ذلك، تتنوع الرؤية المستقبلية و»النموذج الاجتماعي» للجزائر الجديد أيضا بين المناطق التي لها تاريخ طويل من النشاط السياسي المستقل، مثل منطقة القبائل والمناطق الأخرى التي كانت، من الناحية التاريخية، أقل «معارضة» للنظام الحاكم. وفي حين قد تختار بعض المناطق «التعاون» مع النظام، في ظل ظروف معينة بدافع الخوف من حدوث «فراغ» محتمل في السُّلطة، فإن المناطق الأخرى ما زالت تتخذ موقفا متشددا رغم التكاليف. كما من الواضح أن الطبقة السياسية، الغارقة في خلافات أيديولوجية وتاريخية، مشلولة، ولا يمكنها قيادة «الحراك» باتجاه منصة سياسية غير حزبية وقائمة على التوافق من أجل إحداث تغيير ذي معنى.

وعلى ضوء هذه التحديات الداخلية التي تواجه «الحراك»، يبدو أن المحتجين لم يتمكنوا بعد من إدراك أن عجز الشارع عن اعتماد إرادة سياسية واضحة كان من بين الأسباب الرئيسية لانهيار «الربيع العربي» الذي انطلق في 2011.

بين مطرقة مقاومة النظام المستمرة لأي تغيير جذري وسندان عدم قدرة «الحراك» على تشكيل إرادة سياسية جديدة، يبدو أن الجزائر تقف عند مفترق طريق. فما ستشهده الفترة المقبلة يكتسي أهمية كبيرة، ليس فقط بالنسبة للجزائر، بل لمنطقة شمال إفريقيا برمتها.

بعد حُكم بوتفليقة، الذي دام عشرين سنة، في ظل ظروف اقتصادية غير مشجعة وأطر عمل سياسية قديمة، هناك عمل يتم حالياً على مجموعة من التغييرات التدريجية، لاسيما فيما يتعلق بالدستور والانتخابات التشريعية القادمة.

ويتضح بشكل أكبر أن الجزائر ستشهد انتخابات تشريعية وبلدية في غضون أشهر قليلة من الموافقة على الدستور الجديد في الاستفتاء. وحالياً، تنتمي أغلبية 606 أعضاء من البرلمان الجزائري ذي المجلسين التشريعيين إلى حزبَي «جبهة التحرير الوطني» و»التجمع الوطني الديمقراطي»، اللذين سبق أن دعما حكم بوتفليقة.

وبالتالي، وفي ظل الزيادة المتوقعة لدور البرلمان التي سيحملها الدستور الجديد، من شأن الانتخابات التشريعية المرتقبة أن تمهد الطريق أمام رؤية الجزائر في المستقبل القريب. ومن المرجح أن تشهد الجزائر، في ظل الانتخابات المقبلة، موجة جديدة من الانقسامات الأيديولوجية والسياسية المحتدمة، الأمر الذي سيمارس المزيد من الضغوط على إجراء حوار بين أفراد «الحراك». علاوةً على ذلك، من المتوقع أن تبرز أحزاب جديدة – وخاصة أحزاب متحفظة – قبل الانتخابات، ما سيغيِّر بشكل ملحوظ المشهد السياسي.

وإذا لم يوافق النظام على بعض تدابير التهدئة الضرورية من أجل حماية الحريات الأساسية، مثل: إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين دون قيد أو شرط، وتحرير الصحافة من جميع القيود وحماية حُرية التجمع والإجراءات السياسية الحزبية، وإذا لم ينخرط «الحراك» بشكل ناشط وفعَّال في الاستشارات الدستورية ولم يرغب في أي تنظيم ذاتي، من المستبعد أن تهدئ هذه التغييرات المهمة المقبلة نفوس المحتجين. وفي هذه الحالة، قد تنتهي ولاية تبون في وقت أقرب مما اعتقد النظام.

لقد قرر الجزائريون تطليق النظام؛ صحيح أن الاثنين منفصلان أساسا، لكن عليهما الاتفاق على شروط هذا الطلاق، وهي مسؤولية أكبر ملقاة على عاتق «الحراك»، من أجل وضع هذه الشروط. يجب أن تكون هذه العملية سريعة وفعَّالة وسلمية، من أجل تجنب تحويل الجزائر إلى مثال آخر على دولة فاشلة.

ويعتمد الجزء الأكبر من هذه العملية على ما إذا كان «الحراك» يفضِّل البقاء كأداة سياسية «تردّ» على مناورات النظام، أو البروز كقوة سياسية تتحول في نهاية المطاف إلى بديل. في حال كان «الحراك» مستعدا لتحمُّل مسؤوليات سياسية فعلية، سيكون حوار بين أفراد الحراك الخطوة الأكثر إلحاحا. فالوقت ينفد، نظرا إلى أن الدولة تمضي قُدماً في مجموعة إصلاحاتها الخاصة، وفي ظل ازدياد الأزمة الاقتصادية في البلاد سوءا.

إلى ذلك، يمثل تاريخ 22 فبراير انطلاقة «حرب استنزاف» سياسية وسلمية بين نظام يعود إلى 57 سنة وصحوة شعب. وما لم يتم التوصل على الفور إلى اتفاق ينص على تنازلات متبادلة، فقد يكون ثمن هذه الحرب انهيار الدولة الجزائرية فور نفاد احتياطي العملات الأجنبية.

*زين العابدين غبولي

الكثيرون رفضوا الانتخابات الرئاسية التي أوصلت تبون إلى السُّلطة باعتبارها رداً لا يتناسب مع مطالبهم

الجزائر عالقة بين نظام يحاول استعادة شرعيته بأي ثمن وشعب مصمم على استعادة بلاده بطريقة حضارية

أولويات النظام تنطوي على إسكات الحراك وتعديل الدستور بدلاً من إجراء حوار فعلي مع الجهات الاجتماعية والسياسية الرئيسية ضمن الحركة الاحتجاجية
back to top